الذين في قلوبهم مرض

بسم الله الرحمن الرحيم

بين يدي البحث

الحمد لله نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا . من يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن سلك طريقهم واقتفى آثارهم إلى يوم الدين وبعد:

فإن القرآن الكريم كتاب الله الخالد، وآية النبي الباقية، جمع الله فيه ما تفرق في الكتب المنزلة والصحف الأولى، وأودعه كل ما تحتاجه البشرية من توجيه وتشريع، وهداية  ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وجعل قراءته وترتيله عبادة تستلزم الثواب. وحثنا على التفكير في آياته وتدبر معانية. وطلب إلينا أن نغوص في أعمافة ، لاكتشاف كنوزه ، وأسراره ، وأمرنا بالتماس حكمه واستنباط أحكامه .

وجعل ذلك كله خبيئاً تحت الكلمات والحروف مطويا في تضاعيف ألآيات ، وثنايا السطور ، ملحوظاً في تنوع الأساليب وتصاريف الكلم . مراعىً في حسن الأداء ودقة التعبير، وإعجاز البيان.

وقد عكف على القرآن في كل عصر طائفة من العلماء كدوا فيه أذهانهم ، وأجالوا في آفاقه خيل تفكيرهم ، فكان أنيس وحشتهم ، وسمير وحدتهم ، وشفاء صدورهم ، فأفاض عليهم من عطاياه ، وخصهم بشيء من خباياه ، على مقدار ما بذلوا من الجهد ، وما أخلصوا لله القصد ، فكان منهم السابق والمصلي ، والمقتصد والمجلي ، ومن حالفه التوفيق ، ومن جانب الطريق ، ومن أصاب مرة وأخطأ أخرى، ومن يطلع على كتب القوم ومؤلفاتهم يجد مصداق ما نقول.

وكثيراً ما يقف القارئ لكتب التفسير أمام بعض الأقوال متأملاً متفكراً، يرجع فيها النظر مرة ومرة، شعوراً منه بأن القول غير مسلم، وأن الجواد قد كبا، وأن على القارئ أن يحقق هذه النقطة، ويدرس تلك القضية ، وعلى هذا الأساس يقوم البحث ، وتتجدد الحاجة إلى الدرس ، يوماً بعد يوم ، وجيلاً بعد جيل ، فتتولد الأبحاث وتقوم الدراسات فيصحح الخطأ ، ويتبدد الوهم ، ويتقدم العلم خطوات إلى الأمام .

وهذا البحث ﴿ الذين في قلوبهم مرض ﴾ يناقش بعض الأقوال التي أوردها المفسرون في بيان المراد بهذه الصيغة ، وغدت كأنها مسلمات لا مجال للكلام فيها، فيبين ما فيها من ضعف ، وما يمكن أن يرد عليها من ملاحظات ، ثم يبين وجه الحق الذي انتهى إليه مؤيدا بالدليل والبرهان ، ذلك أنه يتوقف على تحديد المراد الصحيح بهذه الصيغة ، بيان المناسبة الموضوعية التي تربط بين آيات مطالع سورة البقرة من جانب ، وبين مطالع السورة وماتلاها من جانب آخر ، مما اعتبره بعض المفسرين دليلاً على عدم مراعاة التناسب في القرآن ، وشنع على القائلين به .

كما تكشف هذه الدراسة عن أن الصيغ القرآنية تقوم على التوافق التام في المعاني ، نتيجة التوافق في الألفاظ. فإن وافقت الصواب فذلك من فضل الله وتوفيقه. وإن كانت الأخرى، ففي النقد العلمي النزيه ما يصحح الخطأ ، ويعيد الباحث إلى جادة الصواب . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العامين .

                                               

الدكتور أحمد حسن فرحات

كلية الشريعة والدراسات الإسلامية- جامعة الكويت

﴿ الذين في قلوبهم مرض ﴾ :

لقد وردت صيغة ﴿ الذين في قلوبهم مرض ﴾ في عدد من الآيات القرآنية ، واشتهر على ألسنة العلماء والمفسرين أن المعني بها « المنافقون » وأن المراد بـ « مرض القلب »: النفاق ،أو الشك.

وأوضح مثال لذلك ما جاء في« مسائل نافع بن الأزرق » حيث سأل نافع ابن عباس عن قوله تعالى :

﴿ في قلوبهم مرض ﴾

فأجابه بأنه « النفاق » فسأله : وهل تعرف العرب ذلك ؟

فاستشهد بقول الشاعر :

أجامل أقواماً حياءً وقد أرى       صدورهم تغلي علي مراضها

ولعل الذي دفع المفسرين إلى تفسير« مرض القلب » بالنفاق ما اشتهر عندهم من أن آيات مطالع سورة البقرة كانت في المؤمنين والكافرين والمنافقين:

وقد جاء فيها في وصف المنافقين قوله تعالى:    

﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ﴾

وقد يقبل الإنسان للوهلة الأولى هذا التفسير ، فإذا انتهى إلى قوله تعالى :

﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ﴾

وقوله تعالى :

﴿ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ﴾

توقف ليفهم هذين التشبيهين للمنافقين ، وأكثر ما يتوقف عند كلمة «أو» والتي يقول المفسرون  فيها أنها تفيد الإباحة- هنا- ، أي :

شبه المنافقين بالذي استوقد ناراً ، أو بأصحاب صيب من السماء .

علماً بأن التشبيهين بينهما من التخالف ما هو بين واضح ، حيث يقول في التشبيه الأول :

﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً  فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون . صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴾.

ويقول في التشبيه الثاني :

﴿ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم

من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاءلهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير﴾.

فنجد في التشبيه الأول عدم الإبصارلا لذهاب النار التي أضاءت ، وإنما لذهاب نورهم وأكد ذلك بقوله :

﴿ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴾.

بينما في التشبيه الثاني أسماعهم وأبصارهم موجودة

﴿ يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم قاموا ﴾

فهم ينتفعون بحواسهم انتفاعاً جزئياً ، لأنها ما تزال موجودة بدليل :

﴿ ولو شاء الله لذهب بسمعهــم وأبصارهم ﴾.                         

وقد تنبه لهذا التخالف الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه « النبأ العظيم » وجعل التشبيه الأول للكافرين ، والتشبيه الثاني للمنافقين ، علماً بأنه جعــل

« استوقد » تعود على الرسول – صل الله عليه وسلم – وأن المقصود بالنار ما جاء به من الهدى - وقد تحرج مع ذلك أن يخالف إجماع المفسرين الذين يجعلون مستوقد النار هم المنافقون - ثم اطمأن لما ذهب إليه استناداً إلى حديث يسوغ في رأيه مثل هذا التشبيه للرسول - صل الله عليه وسلم - .

ونحن وإن كنا معه في ما ذهب إليه من اختلاف التشبيهين، لا نرى حاجة لمثل ما ذهب إليه من مخالفة إجماع المفسرين في جعله المقصود بالمستوقد هو الرسول - صل الله عليه وسلم – وذلك بناء على ما نصل إليه من تحديد للكافرين والمنافقين الذين عليهم مدار التشبيهين .

إن جعل هذين التشبيهين- مع تخالفهما – لطائفة المنافقين وحدها- كما ذهب إليه عامة المفسرين- يترك قارئ الآيات في وضع أقل ما يقال فيه إنه غير واضح ولا مطمئن .

ومن هنا بدأت أعود لقراءة سورة البقرة من أولها فلما وصلت إلى قوله تعالى ﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ﴾

انقدح في ذهني ، أنه لا بد أن هناك جماعة من الناس كانت تطلب الهداية الإلهية ، فلما جاءت هذه الهداية لم تعد قادرة على الانتفاع بها ، وخطر في ذهني موقف اليهود من الرسول - صل الله عليه وسلم – حيث كانوا يستفتحون على العرب بنبي يبعث

﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين﴾ [ البقرة : ]،

وقلت إن هذا ينطبق على موقف اليهود تمام الانطباق ، وبالتالي فلا بد أن يكون مجتمع المدينة هو المخاطب بها أولاً وقبل كل شئ ، وقد كان لليهود فيه نفوذ كبير، وعدت إلى قراءة سورة البقرة من جديد ، وأنا أبحث عن الطوائف التي تتحدث عنهم السورة في مجتمع المدينة، و أعود إلى كتب التفسير بالمأثور خاصة لأرى تحديد هذه الفئات والعناصر ، فإذا بي أرى ما يلي :

﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين﴾

فمن هم هؤلاء المتقون؟

_ ﴿ الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون﴾

أي : المؤمنون من العرب : المهاجرون و الأنصار - كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين - :

قال اطبري : قال بعضهم : هم مؤمنو العرب خاصة دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب : واستدلوا على - صحة قولهم ذلك، وحقيقة تأويلهم - بالآية التي تتلو هاتين الآيتين. وهو قول الله عزوجل :

﴿ والذين يؤمنون أنزل إليك و ما أنزل من قبلك﴾

قالو: فلم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب- الذي أنزله الله عزوجل على محمد صلى الله عليه وسلم _ تدين بتصديقه و الإقرار و العمل به . وإنما كان الكتاب لأهل الكتابين غيرها. قالوا : فلما قص الله _ عزوجل_ نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبل _ بعد اقتصاصه نبأ " المؤمنون بالغيب" _ علمنا أن كل صنف منهم غير الصنف الآخر ، وأن المؤمنين بالغيب نوع غير النوع المصدق بالكتابين اللذين أحدهما منزل على محمد صلى الله عليه وسلم _ و الآخر منهما على من قبل رسول الله .

قالوا: و إذا كان ذلك كذلك ، صح ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى:

﴿ الذين يؤمنون بالغيب﴾ :

إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من  الجنة و النار ، و الثواب والعقاب

والبعث ، والتصديق بالله و ملائكته وكتبه ورسله، وجميع ما كانت العرب لا تدين به في جاهليتها ، مما أوجب الله  _ حل ثناؤه _ على عباده الدينونة به دون غيرهم.

ثم يبين الطبري أن هذا القول هو قول ابن مسعود وابن عباس ، ثم يقول الطبري مرجحاُ لهذا القول :

( وأولى القولين عندي بالصواب،وأشبههما بتأويل الكتاب القول الأول ، وهو أن الذين و صفهم الله تعالى ذكره بالإيمان بالغيب وبما وصفهم به جل ثناؤه في الآيتين الأولتين غيرالذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزل على محمد و الذي أنزل على من قبله من الرسل ، لما ذكرت من العلل قبل لمن قال ذلك.

ومما يدل أيضاً على صحة هذا القول ، أنه جنس_بعد وصف المؤمنين بالصفتين اللتين وصف، وبعد تصنيفه كل صنف من الكفار_ جنسين فجعل أحدهما مطبوعاًُ على قلبه ، مختوماً عليه ، مأيوساً من إيابه ، والآخرمنافقاً يرائي بإظهارالإيمان في الظاهر، ويستسر النفاق في الباطن .

فصير الكفار حنسين، كما صير المؤمنين في أول السورة جنسين، ثم عرف عباده نعت كل صنف منهم وصفتهم ، وما أعد لكل فريق منهم من ثواب أو عقاب ، وذم أهل الذم منهم، وشكر سعي أهل الطاعة منهم).

2_ ﴿والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون﴾ أي:المؤمنون من أهل الكتاب .

كما ذكر ذلك الطبري عن ابن عباس ، وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله عليه وسلم_

﴿والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون﴾ : هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب".

وقد استشهد ابن كثير لهذا القول بقوله تعالى:

﴿وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله﴾ الآية_

وبقوله تعالى:

﴿الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون . وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ، أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا و يدرؤون بالحسنة السيئة و مما رزقناهم ينفقون﴾

ثم يقول ابن كثير : وثبت في الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي برد عن أبي موسى أن رسول الله عليه وسلم قال :

" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه و آمن بي . ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه . ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها و تزوجها".

وقد أجاز بعض المفسرين أن يراد بالآيتين قسماً واحداُ، ولكنني أرجح التقسيم الأول ، للأدلة السابقة وبدلالة:

﴿يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾

حيث وردت هذه الصيغة في بعض الآيات القرآنية وصفاُ لأهل الكتاب ، وبدلالة العطف بالواو، فلو كان المراد بهما شيئاً واحداً ، لما كان لها ضرورة، فيكون الكلام:"الذين" بدلاً من"والذين".

﴿إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم و على سمعهم،وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم﴾

فمن المقصود بالكافرين هنا؟

هنا نجد إجماعاً من المفسرين على أن هذه الآية من العام الذين أريد به الخاص ، لأن هناك طوائف من الكافرين نفعهم الإنذار، فهي إذن تتحدث عن أشخاص بأعيانهم ويمكن أن يدخل فيها بطبيعة الحال كل من سبق له في علم الله أنه لن يؤمن . و للعلماء في المقصود بالكافرين هنا_ قولان:

-         نها نزلت في أحبار اليهود وزعمائهم الذين لم يؤمنوا. فقد ذكر الطبري أن     ابن عباس ، كان يرى أن هذه الآيات نزلت في اليهود الذين كانو بنواحي المدينة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – توبيخا لهم في جحودهم نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – وتكذيبهم له مع عملهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله إليهم وإلى الناس كافة . وقال الطبري:

حدثا ابن حميد ، قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد – مولى زيد بن ثابت – عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن صدر سورة البقرة إلى المئة منها : نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ، من المنافقين من الأوس والخزرج ، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم).

2- أنها نزلت في صناديد قريش الذين لم يؤمنوا – وهو مروي أيضا عن ابن عباس كما ذكر ذلك الطبري.

وهكذا نرى أن هذه الرواية تشمل الآيات الثلاث عشرة التي نزلت في شأن المنافقين كما هو مشهور. وهناك روايات أخر فيها شيء من التفصيل لبعض هذه الآيات ، كما نجد ذلك فيما يلي :

         

( أخرج ابن جرير وأبن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى :

( وإذا لقوا الذين آمنوا ) الآية-

قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أو بعضهم قالوا: انا على دينكم).

           

( وأخرج البيهقي في الأسماء و الصفات عن ابن عباس في قوله:﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا﴾: وهم منافقو أهل الكتاب، فذكرهم وذكر استهزاءهم، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم، قالوا : إنا معكم على دينكم ، إنما نحن مستهزئون بأصحاب محمد).

هذا ما ورد في شأن هذه الطوائف عموماً ، ولو رجعنا إلى بعض الكتب التي تحاول تحديداً أكثر ككتاب "غرر البيان في مبهات القرآن" لا بن جماعة لوجدناه يقول:

﴿والذين يؤمنون﴾: هم مؤمنون أهل الكتاب عبد الله بن سلام و أصحابه والنجاشي و أصحابه . وقيل : هم الأولون وصفوا بصفة أخرى.

﴿إن الذين كفروا﴾: هم أبو جهل ، وعتبة ، و شيبة- ابنا ربيعة- ، والنضربن الحارث ، و غيرهم من كفار قريش الذين علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون.

وقيل: هم رؤساء اليهود : كعب بن الأشرف ، ويحيى بن أخطب ، و شاس بن قيس وابن أبي الحقيق.

﴿من يقول آمنا بالله﴾: هم عبد الله بن أبي بن سلول، وجد بن قيس ، ومغيث بن قشير، وأصحابهم من المنافقين بالمدينة ، وكانوا ثلاثمائة رجل ومائة وسبعين امرأة أكثرهم يهود، لأن اليهود أخبث الناس طباعاُ.

﴿كما آمن الناس﴾: المهاجرون و الأنصار . وقيل : الخلفاء الأربعة. وقيل : عبد الله بن سلام وأصحابه.

﴿شياطينهم﴾: هم كعب بن الأشرف، وعوف بن عامر ، وعبد الله بن مسعود السودا، وأبو بردة من أسلم ، و عبدالدار من جهينة. وقيل أصحابهم في النفاق.

﴿الذين ينقضون﴾ : - هم اليهود _ عهد الله _ في التوراة_ وقيل : ﴿ألست بربكم قالوا بلى﴾ .

ومن كل ما تقدم من الروايات نرى أن المراد من الطائفة الثالثة يمكن أن يراد به المنافقون عموماً ، كما يمكن أن يراد به المنافقون من اليهود، و إنني أميل إلى ترجيح الرأي الثاني ، لأنه يكون كالتتمة لما ذكر سابقاً ، حيث ذكر مؤمني أهل الكتاب ، و كافريهم، والآن يذكر منافقيهم، ولأن صدر سورة البقرة أول ما نزل بالمدينة ، والمشهور عن عبدالله بن أبي أنه أظهر الإسلام نفاقاً بعد انتصار المسلمين في بدر حيث قال : هذا أمر قد توجه.

وقد ذهب الطبري إلى اختيارهذا القول وترجيحه ، محتجاً بأن الحديث في أول السورة تناول المؤمنين من أهل الكتاب ، وأن الحديث انجرآخراً إلى المشركين منهم ، مذ كراً لهم بما أخذ عليهم من العهود و المواثيق . فأولى أن يكون الحديث في الوسط عنهم . وفي ذلك يقول:

(ومما ينبئ عن صحة ما قلنا من أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله :

﴿إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون﴾

هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه_ اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم ، وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمد عليه السلام، بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين، واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم _ في قوله :

﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم﴾ الآيات:[ البقرة:40] وما بعد _ واحتجاجه لنبيه عليهم بما احتج به عليهم فيها، بعد جحودهم نبوته. فإذا كان الخيرأولاًعن مؤمني أهل الكتاب ، وآخرأ عن مشركيهم، فأولى أن يكون و سطاً عنهم ، إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع، إلا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدأ به من معانيه، فيكون معروفاً حينئذ انصرافه عنه).

وبذلك يكون التشبيه الأول للكافرين من اليهود، والتشبيه الثاني للمنافقين منهم ويتضح التشبيهان اتضاحاً كاملاً و تكون "أو" للتقسيم - و إنماساغ ذلك ، لأنهما طائفتان من اليهود - ويكون قوله :

﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾

لكلا القسمين ، كما يكون قوله تعالى:

﴿أولئك على هدى من ربهم﴾

لكلا الطائفتين من مؤمني العرب و مؤمني اليهود.

وعلى هذا يكون معنى التشبيه الأول:

مثل هؤلاء الأحبار _ من يهود المدينة الذين قال الله فيهم ﴿إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله...﴾ والذين كانوا يترقبون بعثة النبي _ صلى الله عليه وسلم_ويستعجلون مجيئه ليؤمنوا به ويسترشدوا بهدايته وينتصروا به على المشركين، ثم كفرهم به، وجحودهم لنبوته، وإعراضهم عن هداه وإيثارهم ما هم فيه من ضلالة بعد أن جاء وفقاً لما عرفوا من صفته وخبره_ كمثل الذي طلب أن توقد له نار ليستضيء بنورها فلما أوقدت النار أضاءت ما حوله ، وانتفع الناس بنورها،أعرض هوعن هذا النور فلم ينتفع به ، وآثر عليه الظلام الذي كان يعيش فيه ، فكأنه لم ير النورولم يسمع به ، و لم يتكلم طالباً له ، فهو مصر على موفقه وعناده، ممعن في غيه وضلاله، لا ترجى له توبة ، ولا ينتظر منه أوبة.

ومن ثم يستوي في شأنه الإنذار وعدم الإنذار. وبذلك استحق أن يختم الله على قلبه وسمعه ، وأن يجعل على بصره غشاوة وأن يكون من أصحاب النار.

أما التشبيه الثاني: فهو تشبيه تمثيلي مركب ، وقد قال فيه الراغب الأصفهاني: شبه ما آتى الله الإنسان من المعاون _ الهداية القرآنية_التي هي سبب الحياة الأبدية بالصيب الذي فيه حياة كل ذي حياة ، وما فيه من المشاق المبهمة ،

و العوارض المشكلة بظلمات- وجمع " الظلمات" تنبيهاً على كثرة العوارض - وشبه ما فيها من الوعيد بالرعد ، وما فيه من الآيات الباهرة بالبرق ، ثم ذكر حال كل واحد من هذه الأشياء ، فقال: إذا سمعوا وعيداً تصاموا عنه، كحال من يهوله الرعد، فيخاف من صواعقه، فيسد أذنه عنها، مع أنه لا خلاص لهم منها ، وهذا معنى قوله :﴿والله محيط بالكافرين﴾ ثم ذكر أنهم إذا رأوا لا معاً لهم : إما رشداً تدركه بصائرهم ، أو رفداُ ينفعهم ، اهتزوا له فمضوا بنوره ، وذلك قوله:﴿كلما أضاء لهم مشوا فيه﴾.

ثم بين أنه إن اعترض لهم شبهة ، أو عن له مصيبة ، تحيروا فوقفوا، وذلك معنى قوله :﴿وإذا أظلم عليهم قاموا﴾.

وقوله ﴿ولو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهم﴾: تنبيه على أنهم يصرفون أسماعهم و أبصارهم عما فيه نجاتهم،وتأمل ما فيه صلاحهم. وإنما جعل الله لهم السمع و الأبصار لتنفعهم ، ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي يجعلون أنفسهم عليها بسدها وتعطيلها، وذلك تنبيه على أنه إنما أعطاهم هذه الآلات لينتفعوا بها"

وبناءً على ذلك يكون معنى التشبيه الثاني:

مثل هؤلاء المنافقين من اليهود الذين ذكرهم الله بقوله تعالى:﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله و اليوم الآخر﴾_﴿الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون﴾ مثلهم في شرائهم الضلالة بالهدى كمثل أصحاب صيب، فكما أن أصحاب الصيب ، لم يلتفتوا إلى المطر وما يمكن أن يترتب عليه من خير كثير. وشغلوا أنفسهم بما يصاحبه من رعد وبرق حماية لأنفسهم من الموت بزعمهم ورغبة في الحياة ، كذلك شغل المنافقون من اليهود أنفسهم عن الخير الكثير الذي جاءتهم به الهداية القرآنية وما يضمن لهم من سعادة الدنيا و الآخر، بما يصاحب هذه الهداية من وعيد ووعد ، فانطلقوا يعلنون الإيمان بألسنتهم ليحقنوا دماءهم وأموالهم، وليحققوا مطامعهم ورغباتهم، فكان موقفهم هذا مغايراً لموقف الكافرين منهم من التشبيه الأول ، وإن كان يلتقي معهم في كون كلا الفريقين اشتروا الضلالة بالهدى.

والآن لا بد أن يخطر في بال القارئ لهذا البحث السؤال التالي:

وما المانع أن يكون المراد بالآيات _ هنا _ المنافقون عموماً؟

و الجواب : أن من صفات هؤلاء المذكورين :

﴿في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً﴾

وقد وردت هذه الصفة بعد ذلك في القرآن الكريم بصيغة :

﴿الذين في قلوبهم مرض﴾

وجاءت معطوفة على المنافقين في عدد من الآيات القرآنية . كما في قول تعالى:

﴿إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض﴾

﴿لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض﴾

﴿وإذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض﴾.

علماً بأن من الأصول المقررة أن العطف يقتضي التغاير ، إذ لا فائدة من عطف الشيء على نفسه ،وإذن فلا بد أن يكون

﴿الذين في قلوبهم مرض﴾ غير " المنافقين " -الذين عطفوا عليهم-". وأمام ذلك كله لا بد لنا من تتبع استعمال القرآن الكريم لهذه الصيغة ، ومحاولة تحديدها تحديداً يخرجها من العموم الذي اشتهرت به ، لنكون أقرب إلى الدقة في فهم مدلولات الكلمة في هذا الكتاب المعجز.

ولما كانت آية سورة البقرة﴿في قلوبهم مرض﴾ قد سبقت غيرها في النزول _ على فرض أن كل آيات الذين في قلوبهم مرض﴾ مدنية ،وهو ما نرجحه لدلائل تأتي في مكانها _ إن شاء الله_ كان لابد لنا من أن نركز اهتمامنا على ما جاء فيها من صفات لهذه الطائفة وذلك بعد أن قدمنا ما  فيه الكفاية من روايات تشير إلى أنها طائفة من طوائف اليهود.

إن الصفات التي وصف بها المنافقون في مطلع سورة البقرة، نكاد نجدها بنفسها تتكرر في القرآن الكريم لبعض طوائف اليهود ، ولنبدأ باستعراض هذه الصفات بالترتيب الذي أوردته سورة البقرة.

ادعاء الإيمان بالله و باليوم الآخر ونفي القرآن ذلك عنهم:

يشيرالقرآن الكريم إلى أن بعض طوائف اليهود قد آمنوا بالله واليوم الأخر كما في قوله تعالى:

﴿لكن الراسخون في العلم منهم و المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، والمقيمين الصلاة و المؤتون الزكاة و المؤمنون بالله و اليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً﴾[النساء:162] ومثلها :

﴿ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله و اليوم الآخر و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه و الله عليم بالمتقين﴾[آل عمران : 113_115].

كذلك يبين القرآن الكريم أن هناك طوائف لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر كما ورد في قوله تعالى:

﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسول ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾.[التوبة:29].

ويبقى صنف آخر وهو الذي يدعي الإيمان بالله وباليوم الآخر وهو المقصود بقوله:

﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله و باليوم الآخر﴾.

ولكن الله ينفي هذا الإيمان عنهم بقوله:﴿وما هم بمؤمنين﴾ وبقوله :

﴿ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً، و الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً﴾[النساء: 37_38].

كما تشير إلى وجود هذه الطائفة آيات سورة المائدة التي تنفي عنهم الإيمان بالله و النبي وما أنزل إليه :

﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكر لبئس ما كانوا يفعلون ، ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ، ولو كانوا يؤمنون بالله و النبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون﴾[المائدة:78_81].

وقد لا حظ الكرماني على آية البقرة : ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ﴾ قائلا : ليس في القرآن غيره بتكرار العامل مع حرف العطف، ولا يكون إلا للتأكيد ، وهذا حكاية كلام المنافقين ، وهم أكدوا كلامهم نفياً للريبة، وإبعاداً للتهمة ، و كانوا في ذلك كما قد قيل : كاد المريب بأن يقول : خذوني ، فنفى الله عنهم الإيمان بأوكد الألفاظ فقال :﴿وما هم بمؤمنين﴾ ويكثر ذلك مع النفي ، وقد جاء ذلك في موضعين: في النساء :

﴿ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر﴾. وفي التوبة : ﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر﴾.

و إذا كان موضوع التوكيد هو الذي دعا إلى تكرار العامل مع حرف العطف وهو الذي لفت انتباه الكرماني في هذه الآيات ، فإننا نضيف إليه أيضاً وحدة الطائفة المعنية بهذه الآيات وهم أهل الكتاب ، وكثيراً وما يرد التشابه اللفظي في بعض الآيات القرآنية لمثل هذه الدلائل المعنوية،وهذا من الأسرار الدقيقة التي يقوم عليها التعبير في الكتاب المعجز.

وعلى هذا فادعاء الإيمان بالله و باليوم الآخر قد عرف به أهل الكتاب وبخاصة منهم اليهود.

خداع المؤمنين:

والصفةالثانية التي وردت في آيات سورة البقرة لهذه الطائفة من اليهود محاولتهم خداع المؤمنين ، مع أنهم في الواقع يخدعون أنفسهم ، لأنهم مكشوفون لله وقد كشفهم الله للمؤمنين . وهذه المحاولة في الخداع قد تكرر الإشارة إليها في القرآن الكريم كما في قوله تعالى :

﴿وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخر لعلهم يرجعون﴾[آل عمران :72].

أما الصفة الثالثة : " في قلوبهم مرض ": فسنؤخر الكلام عليها لأنها موضوع البحث.

الإفساد وادعاء الإصلاح:

ومن صفات هذه الطائفة من اليهود الإفساد في الأرض مع ادعائهم الإصلاح.

وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تصم اليهود بالفساد :

﴿ويسعون في الأرض فساداً﴾

بل إن كلمة ﴿ الفساد في الأرض﴾ إذا أطلقت انصرفت إليهم لشهرتهم بذلك .

وصفهم المؤمنين بالسفه وهم به أجدر:

ولعل المراد بالمؤمنين في قول تعالى :

﴿ آمنوا كما آمن الناس ﴾ الذين دخلوا في الإسلام من اليهود : كعبد الله ابن سلام وأصحابه - وكما نقل ذلك ابن الجوزي في تفسيره عن مقاتل _ ذلك لأنهم حجة عليهم ، ومن ثم تطاولوا فوصفوهم بالسفه ، ويبعد جداً أن يقصدوا بذلك المؤمنين عموماً لأنهم في موقف ضعيف ، لا يتيح لهم مثل هذا التعالي وهم كانوا يخشون  قوة الإسلام ، ولذلك نافقوا ، وعلى هذا الخصوص يمكننا أن نحمل ما ورد من الآثار، بأنهم عنوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم_ لأن عبد الله بن سلام ومن آمن معه، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم _ و الحقيقة أنهم هم أحق بهذه الصفة . ومن ثم تكرر في القرآن الكريم وصفهم بذلك كما في قوله تعالى :

﴿سيقول السفهاء من الناس ما ولا هم عن قبلتهم التي كانوا عليها﴾

ترددهم بين المؤمنين و الكافرين :

عرفنا مما سبق ادعاء هذه الطائفة الإيمان بالله و اليوم الآخر ، وهذا الإدعاء إنما هو في مواجهة المؤمنين فقط﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ﴾ أمنا إذا انفردوا بزعمائهم من شياطين اليهود و كفرتهم ، فيطمئنونهم أنهم ما زالوا على العهد ، و أن جبلتهم لا يمكن أن تتغير ، وكل ما في الأمر أنهم يستهزئون بالمؤمنين ، وقد أورد الطبري روايتين عن ابن عباس تصرحان بكون هذه الطائفة من اليهود ، وجاء في الرواية الأولى : ( كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا: إنا على دينكم و إذا خلوا إلى  أصحابهم ، وهم شياطينهم ، قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون و في الرواية الثانية : " و إذا خلوا إلى شياطينهم " قال : إذا خلوا إلى شياطينهم من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب و خلاف ما جاء به الرسول ) وقد تكرر في القرآن وصف اليهود بمثل ذلك كما في قول تعالى

﴿وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر و هم قد خرجوا به ، والله أ‘لم بما كانوا يكتمون﴾[المائدة:161].

وقد قال صاحب تفسير المنار في هذه الآية: الكلام في منافقي اليهود الذين كانوا في المدينة وجوارها_6:449_

وكما في قوله تعالى : ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون﴾[ البقرة:76].

شراؤهم الضلالة بالهدى:

وأخيراً يدمغهم القرآن الكريم بهذا الوصف ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ﴾

وقد وردت هذه الصيغة ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ في عدد من الآيات وصفاً لليهود كما في قوله تعالى :﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل﴾[النساء : 44] .

﴿إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويسترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار، و لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليـم ، وألئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى و العذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار﴾ [ البقرة: 172_175].

وهناك آية في سورة البقرة تبين دوافع هذه الصفقة الخاسرة من شرائهم الكفر بالإيمان ، وإنه لم يدفعهم إلى ذلك إلا حقدهم وحسدهم ، وذلك لأن النبوة صارت إلى غيرهم ﴿بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب و للكافرين عذاب مهين﴾[ البقرة:90].

هذه هي صفات ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾ من خلال تتبعنا لها في عديد من الآيات القرآنية، وهي تشير إلى أنها في طائفة من أهل الكتاب بل في طائفة من اليهود هم المنافقون منهم ، وليس يعني كون هذه الصفات منم صفاتهم أنه لا يمكن لغيرهم أن يتصف بها ، وإنما يعني أن مجموع هذه الصفات كانت تتصف به طائفة معينة، هي التي عناها القرآن أول ما عني بقوله فيما بعد ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾.

صيغة﴿الذين في قلوبهم مرض﴾:

لقد استعمل القرآن الكريم هذه الصيغة في الآية التاسعة و الأربعين من سورة الأنفال ، وفي الآية الخمسين من سورة النور ، وفي الآية الثانية و الخمسين من سورة المائدة، وفي الآية الثانية عشرة و الآية الستين من سورة الأحزاب ،و في الآية الخامسة والعشرين بعد المائة من سورة التوبة ، وفي الآية الثالثة و الخمسين من سورة الحج وفي الآيتين العشرين والتاسعة والعشرين من سورة محمد صلى الله عليه وسلم.

ويلاحظ أن جميع هذه السور مدنية ، كما يلاحظ أن القرآن الكريم استعمل لفظ ﴿الذي في قلبه مرض﴾ _ بالإفراد_ مرة واحدة في الآية الثالثة و الثلاثين  من سورة الأحزاب واستعمل لفظ ﴿أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا﴾ في الآية الخامسة من سورة النور.

كما وردة أيضاً صيغة﴿الذين في قلوبهم مرض﴾ مرة واحدة في سورة اشتهرت بأنها مكية وهي سورة المدثر ، والآية هي : ﴿وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الدين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون، وليقول الذين في قلوبهم مرض و الكفرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً ،كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء، وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر﴾[ المدثر:31].

إلا أن ابن الجوزي ذكر في تفسيره زاد المسير : 8/408_409 أن المقصود ( بالذين في قلوبهم مرض) في هذه الآية على قول مقاتل : يهود أهل المدينة، وعنده : إن هذه الآية مدنية وهو ما نرجحه للأسباب الآتية:

_ الحديث عن أهل الكتاب بمثل هذا الوضوح لم يعرف إلا في المدينة.

_ أسلوب الآية وطولها ينسجم مع الآيات المدنية أكثر مما ينسجم مع الآيات المكية.

_ التقابل في لفظ الآية ﴿ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً﴾﴿ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب و المؤمنون﴾﴿وليقول الذين في قلوبهم مرض و الكافرون﴾.

فكأن ﴿الذين في قلوبهم مرض ﴾ مقابل ﴿ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب ﴾ و ﴿ليستيقن الذين أوتوا الكتاب﴾، فهم إذن ممن ارتاب من أهل الكتاب ولم يستيقن ، وهم منافقوهم. كما أن لفظ ﴿ الكافرون ﴾ في مقابل لفظ ﴿الذين آمنوا﴾و ﴿المؤمنون﴾.

أما الآية الثانية عشرة من سورة الأحزاب ﴿وإذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً﴾.

و الآية الستون من السورة ذاتها ﴿لئن ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيه إلا قليلاً﴾.و الآية التاسعة و الأربعون من سورة الأنفال :﴿إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ، ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ﴾.

         

فنجد فيها عطف ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾ على المنافقين ، فهو من عطف الخاص على العام فيكون ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾مراداً به منافقي اليهود ، أفردوا بالذكر بعد﴿المنافقين﴾ تنويهاً بشأنهم الكبير النفاق، ومن المعلوم أنه إذا أمكن حمل اللفظين على معنيين كان أولى من حملهما على معنى واحد.

ويبدو أن الإمام الشوكاني في تفسيره لآية الأنفال قد أدرك هذا الفرق بين اللفظين ، ولكن أورده قولا كأحد الأقوال في الآية حيث قال: ﴿والذين في قلوبهم مرض﴾: هم الشاكون من غير نفاق ...وقيل:" المشركون" ، ثم قال ( ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة و ما حولها ، وأنهم هم و المنافقون من أهل المدينة قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين  إلى بدر حينما رأوهم في قلة من العدد و ضعف من العدد).

أما الآيات التي ورد فيها لفظ ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾، دون عطف على المنافقين فهي :

1_ الآية العشرون من سورة محمد:﴿فإذا أنزلت سورة محكمة و ذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم﴾,

قال ابن الجوزي في زاد المسير 7/21: وفي المراد بالمرض قولان: أحدهما : النفاق ، قال ابن عباس و الحسن و مجاهد والجمهور.

و الثاني : الشك قاله مقاتل.

ما ذكرته الآية التاسعة و العشرون من سورة محمد صلى الله عليه وسلم:

﴿أم حسبت الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله إضغانهم﴾.

،فالمرض إذن: هو الأضغان، أي الأحقاد و الحسد و قد ذكر القرآن الكريم في غير ما موضع اتصاف اليهود بهذه الصفة حيث قال  ﴿أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله﴾﴿ود الذين كفروا من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم﴾ ويزداد حسدهم وحقدهم كلما نزلت على المؤمنين سورة تأمر بالقتال أو تذكره لأنها تكون سبباً لانتصار الإسلام و المسلمين وهكذا تزيد مثل هذه السور المؤمنين إيمانا، والحاقدين حقداً ورجساً.

وبذلك يستبعد أن يراد بالـ" مرض" : النفاق أو الشك كما أشرنا إلى ذلك مسبقا ومما يؤدي ذلك مجئ " الارتياب" معطوفا على " المرض" في قوله تعالى: ﴿أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا﴾ فلو كان " المرض" : هو الارتياب لم يكن للعطف معنى ، أما استشهادهم بالبيت الذي ورد في  مسائل نافع بن الأزرق ، على لسان ابن عباس.

أجامل أقواما حياء وقد أرى                صدورهم تغلي غلي مراضها

فهو يشهد لمعنى " الحقد والحسد" أكثر مما يشهد ، لمعنى " النفاق" و ذلك واضح من كلمة " تغلي" فالغليان قرينة صارفة إلى معنى الحقد و الحسد.

وأما الآية التي وردت بالإفراد ، و هي قوله تعالى من الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب:

﴿.. إن اتقيتن فلا تخضعين بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض﴾

فمن المستبعد جداً ما ذهب إليه بعض المفسرين من أ،ن المراد بالمرض فيها : الزنى أو الفجور ، لأن نساء الرسول -عليه الصلاة و السلام- لسن مطمعا لأحد في ذلك ، وما أظن أن واحداً من الناس الذين كانوا يدخلون بيوت الرسول عليه الصلاة السلام وإن كان من المنافقين-يجرؤ على أن يفكر في ذلك أو يحدث به نفسه فضلاً عن ان يطمع فيه ، ولعل الأشبه بالآية الطمع في الزواج منهن بعد وفاة الرسول - عليه الصلاة و السلام- وهو ما تحدث به بعضهم كما ذكرته كتب التفسير ، عند قوله  ﴿وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده﴾.

فقد ذكر الشوكاني في تفسيره الروايات التالية في سبب نزول الآية:

_ أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله:

﴿وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ﴾ قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي عليه الصلاة والسلام - بعده ، قال سفيان: وذكروا أنها عائشة.

_ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ، ويتزوج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية.

_ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن عيد وابن المنذر عن قتاده قال: قال طلحة بن عبيد الله : لو قبض النبي عليه الصلاة وسلام ، لتزوحت عائشة ، فنزلت.

_ وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة ، لأنه قال : إذا توفي النبي عليه الصلاة و السلام تزوجت عائشة. قال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله قال القرطبي : قال شيخنا الإمام أبو العباس : وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله، و إنما الكذب في نقله و إنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال.

_ وأخرج البيهقي في السنن عن ابن عباس قال: قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو قد مات رسول صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة، أو أم سلمة ، فأنزل الله ﴿وما كان لكم أن تؤذون رسول الله ﴾الآية.

_ وأخرج ابن جرير عنه أن رجلاً أتي بعض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام فكلمها و هو ابن عمها فقال النبي عليه الصلاة والسلام :

( لا تقومن هذا المقام بعد يزمك هذا ، فقال : يا رسول الله إنها ابنة عمي ، و الله ما قلت لها منكراَ ولا قالت لي ، قال النبي عليه الصلاة والسلام قد عرفت ذلك إنه ليس أحد أغير من الله، و إنه ليس أحد أغير مني ، فمضى ثم قال : "يمنعني من كلام ابنة عمي لأتزوجها من بعده" فأنزل الله هذه الآية ، فأعتق ذلك الرجل رقبة ، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله ، و حج ماشياً توبة من كلمته).

ولا شك بأن هذه الروايات و أمثالها تشير إلى أن شيئاً مما تفوه به بعض المنافقين في شأن الزواج من من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بعد وفاته قد كان ، وأن ذلك حدث بسبب فتح النبي عليه الصلاة و السلام باب بيته على مصراعية ، وذلك من أجل الدعوة فلم يكن يمنع أحداً من دخول بيته، وكان يتحمل في ذلك كثيراً من الأذى ، الأمر الذي جعل عمر رضي الله عنه يطلب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ،- أن يحجب نساءه ، ولما كان الأمر خاصاً بالنبي عليه الصلاة و السلام فقد كان الحياء يمنعه من أن يقول شيئاً حتى نزل القرآن ينظم هذا الأمر، و يجعل الدخول إلى بيت النبي في مناسبات معينة و يحدد وقت ذلك و شروطه ، كذلك طلب إلى أزواج النبي أن يحتجبن من الداخلين إلى بيته فيتقن أن يراهن أحد و أن يستقبله، فلم يبق أمامهن إلا أن يتكلمن معهم من وراء حجاب عند الضرورة ، ولهذا طلب إليهن إذا تكلمن مع من يدخل بيت النبي ، ألا يكون كلامهن ليناً ناعماً يطمع أمثال أولئك المنافقين بما كانوا يطمعون به من الزواج منهن بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام فقال تعالى :

﴿إن اتقيتن فلا تخضعن  بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض﴾،

وبذالك يعود " المرض " في الآية إلى معنى " الحسد " حيث يكون المراد بالآية الذي يحسد الرسول عليه الصلاة و السلام ، على أزواجه ، ويطمع بالزواج منهن وبذلك تكون هذه الدارسة قد كشفت كثيراً من الملابسات و أجابت عن كثير من التساؤلات التي يقف القارئ لكتاب الله أمامها ، و أماطت اللثام عن الوحدة الموضوعية المتسلسلة في سورة البقرة ، وأن الكلام من أول السورة مع اليهود ويذلك لا يشعر القارئ بالفجوة و الانقطاع التي شعر بها بعض المفسرين مثل الشوكاني حينما وصل إلى قوله تعالى :﴿يا بني إسرائيل﴾ حيث لم يجد مناسبة لا نتقال الكلام من استخلاف آدم إلى خطاب بني إسرائيل ، و أنكر و جود المناسبة في القرآن الكريم مستدلاً بهذه الفجوة التي لا تملأ ، والحق أن الكلام من أول السورة مع اليهود فحينما يأتي الخطاب بـ" يا بني إسرائيل " هكذا فمعنى الكلام أن المخاطبين مازالوا هم أنفسهم ، أما قصة استخلاف آدم فقد جاءت توطئة للحديث عن استخلاف بني إسرائيل ، ونكولهم عن القيام بحق الخلافة، و التي لا بد أن يعهد بها إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما أشارت إلى ذلك " آيات سورة البقرة".

وسوم: العدد 841