ما لم يقله عبد الجواد صالح

أن تكتشف الحقيقة، ولو متأخرًا، وتعلنها للجمهور، خيرٌ من أن تُبقيها طيّ الكتمان، مكتفيًا بمعرفتها، وربما العمل بموجبها في سبيل إرضاء النفس والضمير، وهذا ما فعله بشجاعة المناضل الفلسطيني عبد الجواد صالح الذي نشر رسالته المؤرخة في 12 يناير/ كانون الثاني 2020، والموجّهة إلى رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، سليم الزعنون، يُعلمه فيها استقالته من عضوية المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية.

ولد عبد الجواد صالح في عام 1931، في البيرة، وتخرّج في الجامعة الأميركية في القاهرة في 1955. وقبل نكسة حزيران/ يونيو بشهور عدة، انتُخب رئيسًا لبلدية البيرة، وكان من دعاة المقاومة الشعبية السلمية للاحتلال الصهيوني، وعُرف عنه رفضه استقبال الحاكم العسكري الصهيوني في بيته، وإعلانه ذلك بقوله "إنك لن تدخل بيتي إلا مقتحمًا؛ لاعتقالي أو اعتقال أحد أبنائي". وعندما علم أنّ الحاكم العسكري يعتزم مفاجأته بالزيارة في أحد الأعياد، حيث تكون أبواب الفلسطينيين مشرعة وبيوتهم مفتوحة لاستقبال الضيوف، سافر إلى غزة صباح يوم العيد. لم تشفع له دعوته إلى المقاومة الشعبية السلمية، إذ تم إبعاده عن بلده، في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1973، إلى الأردن، عن طريق وادي عربة، ومن ثم ارتحل إلى بيروت، ليصبح عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وأذكر أني شاهدته في اليوم التالي لوصوله إلى بيروت يتجوّل في شوارع منطقة الفاكهاني، مقرّ القيادة الفلسطينية، لابسًا الكاكي وحاملًا بندقية كلاشنيكوف.

عاد عبد الجواد صالح إلى فلسطين بعد توقيع اتفاق أوسلو، وانتُخب نائبًا في المجلس التشريعي 

الأول، وشارك في السلطة الفلسطينية وزيرًا للزراعة، بين عامي 1996 و1998، في أول حكومة فلسطينية. إلى أن قرّر بعد أن قارب على التسعين عامًا، وبعد حياة حافلة بالعطاء والنضال أن يقدّم استقالة لافتةً من المجلس المركزي الفلسطيني الذي يُعتبر أعلى سلطة تشريعية ورقابية في منظمة التحرير، في غياب المجلس الوطني، وكأنّ هذه الاستقالة كشف حساب، وإن كان متأخرًا، لأداء السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ مرحلة "أوسلو".

يستهل صالح رسالة استقالته بعبارة "لقد بلغ السيل الزُبى"، ويسهب في تعداد أسبابها التي سيلاحِظ القارئ أنها ليست وليدة اللحظة الراهنة، بقدر ما كانت مستمرة منذ إعادة إنتاج "أوسلو"، في عهد الرئيس محمود عباس؛ حتى وصل هذا السيل إلى ما وصل إليه.

أما الأسباب فلا حصر لها، وتبدأ من عدم تنفيذ "قرار المجلس المركزي، في جلسته المنعقدة في الرابع والخامس من آذار/ مارس 2015، وقف التنسيق الأمني بأشكاله كافة مع سلطة الاحتلال"، وهو قرارٌ مُتخذ قبل نحو خمسة أعوام. وعدم السعي إلى الإفراج عن الأسرى في سجون الاحتلال، من اعتُقل منهم قبل اتفاق أوسلو وبعده، وعدم التفكير بمبادلتهم بـ 538 إسرائيليًا دخلوا مناطق السلطة وتم الإفراج عنهم. كذلك يتهم السلطة بمنح شرعية للمستوطنات، عبر موافقتها على تبادل الأراضي، في مخالفةٍ لميثاق جنيف، وامتناعها عن تحمّل مسؤوليتها ضدّ تقسيم الأقصى زمانيًا ومكانيًا، وتفاقم الأوضاع في القدس في مواجهة تهويدها، والإشارة إلى النتائج الكارثية لتقسيم الخليل والحرم الإبراهيمي فيها، وتعطيل الدستور والمجلس التشريعي، والتفرّد بالحكم، وفقدان الرئيس محمود عباس الشرعية الدستورية والولاية القانونية، وتبنّيه المفاوضات وحدها لإنهاء الاحتلال "منذ توليه رئاسة الوزراء عام 2003"، وعدم قدرته على "تحرير متر من الأرض" طوال هذه المدة، إضافة إلى ربطه حق العودة بموافقة إسرائيل، وفشل السلطة في "ترجمة توصية محكمة لاهاي وتقرير غولدستون (أيلول/ سبتمبر 2009) إلى قرارات"، مختتمًا فيضًا من ملاحظاته باعتبار المجلس المركزي ذاته فاقدًا للولاية، وحزينًا على ما آلت إليه منظمة التحرير الفلسطينية، ونمو الديكتاتورية على أنقاض الديمقراطية.

جميلٌ بعد هذا العمر الحافل بالنضال أن يقف عبد الجواد صالح هذا الموقف، وهو الذي كان دائم 

الانتقاد لسياسات السلطة المختلفة، ومن قبلها لما كان يصفه بالتفرّد في اتخاذ القرارات في منظمة التحرير. كما رفض الانضمام لحكومة الرئيس محمود عباس في عام 2003، لكنه شارك في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني، في إبريل/ نيسان 2018 (لم يستقِل منه) الذي أُثيرت حول ظروف انعقاده وطريقة تشكيله تساؤلات عدة.

وإذا كان صالح قد قال جميع ما قاله في كتاب الاستقالة، وهو مهمٌ وضروري أن يصدر عن مناضلٍ مثله، فإنّ ما لم يقله هنا لعله يقوله في أوراق أو مذكرات أخرى قد تكون أكثر أهمية، إذ إنه عاصر منظمة التحرير عضوًا في لجنتها التنفيذية، منذ شقّت طريقها نحو البرنامج المرحلي في عام 1974، وبقي في بيروت حتى 1981، وعاد إلى فلسطين، وشارك في انتخابات المجلس التشريعي، وعمل وزيرًا في الحكومة الفلسطينية الأولى التي جاءت على قاعدة اتفاق أوسلو. وجاء نقده هنا نقدا للممارسات والقرارات، وليس لأصل الداء وسبب البلاء، وهو ما يُؤمل، على الرغم من تقدّمه في العمر، أن نقرأ منه ومن سواه تشخيصًا له.

تذكّرني استقالة عبد الجواد صالح، أطال الله في عمره، بقصة رواها عبد الفتاح القلقيلي (أبو 

نائل)، المناضل الفلسطيني والسفير السابق والكاتب الساخر، في مقابلة أجريناها معه حديثًا، عن حوار دار بينه وبين عضوي اللجنة المركزية لحركة فتح، نمر صالح وماجد أبو شرار، بعد إقرار البرنامج المرحلي في 1974، وقد عارضه أبو نائل، فسأله ماجد، وكان كلاهما عضوين في خلية واحدة لحركة فتح في السعودية عام 1964: "نحن مع التسوية، فهل نحن خَوَنَة؟ وهل تشك في وطنيتنا؟". أجاب أبو نائل: "قطعًا لا، فأنا لا أعتقد أنكما ستقومان بالتفاوض والتوقيع النهائي، لكن ما تقومان به يمهّد الأرض لتسويةٍ تؤدي إلى تصفية القضية، لن تكون لكما علاقة بها".

صدق أبو نائل، ولعل استقالة المناضل عبد الجواد صالح تفتح الباب أمام جيلٍ كامل انساق وراء وهم السلطة الوطنية المقاتلة التي ستسعى إلى تحرير فلسطين كلها، فوجد نفسه أمام سلطةٍ تعيق الحفاظ على ما تبقى لنا، وتحافظ على أمن العدو، وتمنع شعبنا من المضي باتجاه مشروعه الوطني، لعلها وغيرها تسدل الستار على مرحلة، وتؤذن ببدايةٍ أخرى.

وسوم: العدد 859