شريعة الأحرار لا شريعة الخانعين

أبو الأعلى المودودي

كثيراً ما تبلغني تعليقات على كتاباتي في موضوع الربا ومعظم تلك التعليقات يتضمن ما يلي:

إن النظام الرأسمالي الذي تدعمه القوى السياسية يحكم حكماً مطلقاً في دنيا الاقتصاد كلها من حولنا. فالنظام الاقتصادي كله قائم على الرأسمالية والرأسماليون وحدهم هم الذين يسيرونه ولا نرى أمة تتقدم بخطى واسعة نحو الرقي إلا تلك التي لا تقيد حرية الإنتاج والاستهلاك في نظامها الاقتصادي بأي من الأحكام الدينية أو الزواجر الخلقية.

هذا وقوانا بمجموعها مشتتة متخاذلة، وتغيير نظام العالم الاقتصادي حلم بعيد المنال، إذ ليس لدينا القوة الكافية لتطبيق النظام الإسلامي في الاقتصاد حتى في بلادنا. وإذا كانت شريعتنا تأبى علينا أن نقوم بدورنا كاملاً في النظام الاقتصادي الوضعي فإن بلادنا ستبقى في مؤخرة الشعوب استفادة من وسائل التقدم والازدهار وسنستمر في انحدارنا إلى مهاوي الفاقة، على حين يرقى جيراننا في الغنى والثراء. وسيؤدي بنا فقرنا الاقتصادي إلى الضعف السياسي والانحطاط في الثقافة والأخلاق.. فماذا نستفيد إذاً من تطبيق الشريعة أو تعميم مبادئ الاقتصاد الإسلامي؟

هي في الظروف الحاضرة أي مجال لإصلاح برنامجنا الاقتصادي والتقدم في مضمار النجاح مع مراعاة أسس الاقتصاد في الإسلام؟

فإن لم يكن إلى ذلك من سبيل فلا بد من أخذ أحد أمرين:

"إما أن يلاقي المسلمون مصيرهم المحتوم من الاضمحلال وإما أن يضطروا إلى الانطلاق من التزام تلك المبادئ باعتبارها لا تجاري تطور العصر".

هذا السؤال غير مختص بمشكلة الربا وحدها وإنما ينطبق على مجال أوسع بكثير ولو كانت الحياة الاقتصادية دون سائر نواحي الحياة مؤسسة على غير أساس الإسلام لربما هان الأمر؛ ولكن الواقع غير ذلك. انظروا إلى الدنيا من حولكم، بل تأملوا الوضع الذي أنتم فيه! أي جانب من جوانب الحياة قد نجا من سيطرة «اللاإسلامية، أليست جميعاً يحكمها الإلحاد، أو على الأقل تحيط بها الشكوك والأوهام؟ أليس الضلال مسيطراً على مناهج التعليم؟

أليس محيط الغرب بالثقافة ومظاهر المدنية؟ ألم تتعمق الروح الغربية إلى جذور المجتمع؟ وهل الأخلاق والعادات متحررة من سلطانها؟ هل القانون والسياسة والأصول والفروع في فكرة الدولة وتطبيقاتها بعيدة عن تأثيرها؟

ما دامت هذه هي الظروف، فلم حصرتم السؤال في الاقتصاد وحده، بل في مسألة واحدة من مسائله؟ اجعلوه أكثر وضوحاً واشملوا به سائر نواحي الحياة. اجهروا بأن تيار الحياة قد بدل مجراه، فبعد أن كان يسير باتجاه الإسلام أصبح في اتجاه مخالف، ونحن لا نملك القوة التي تعيده إلى مجراه، بل ليس لدينا قدرة تمكننا السباحة باتجاه معاكس لتياره الحالي. إننا لا نريد أن نبقى ملتزمين لكعبة. وفي نفس الوقت نحب أن لا تفوتنا قافلة المسافرين إلى تركستان! لا بد أن نمضي غير مسلمين في أفكارنا ومبادئنا وغاياتنا وحياتنا العملية ثم نبقى مع ذلك مسلمين!.. فإذا لم تجدوا لنا طريقة للتوفيق بين هذه المتناقضات فسنموت على ضفة هذا التيار أو تمحى وشيكاً شارة الإسلام المثبتة على مركبنا ويتحول جارياً في اتجاه التيار.

كلما ناقش من يدعون بالمثقفين والعصريين مشكلة ما كان فصل الكلام عندهم: (هذا هو تيار العصر)، (الريح تهب بهذا الاتجاه)، (هذا هو الحاصل في هذه الدنيا، فكيف نجرؤ لذلك على المقاومة؟ وإذا نحن قاومنا، هل لنا بقاء؟) فإذا رد عليهم بان الكفاح في هذا المقام مقتضى الشهامة والخلق قيل لك لقد تغيرت قيم الأخلاق آنفاً ولذلك يتعذر على المسلمين التزام المستوى الأخلاقي القديم. فإذا كان النقاش حول حجاب المرأة مثلاً قالوا: لقد ترك العالم استعماله فلا لزوم له، وهذا يتضمن أنه ما دام العالم طرح شيئاً فلماذا لا يطرحه كذلك المسلمون؟ أما فصل الخطاب في قضية التعليم عندهم فقولهم «لا طلب على التعليم الإسلامي في العالم اليوم» وبعبارة أخرى، لماذا ينشأ أطفال المسلمين على شكل لا رغبة فيه ولا ينشؤون ليكونوا سلعة نافقة؟ وإذا كان الحديث عن الربا بجوابهم الحاضر بداهة: «إن اقتصاد العالم لا يستطيع السير خطوة واحدة بدونه» وهذا معناه أنىّ يستطيع المسلمون هجر شيء أصبح من الضروريات لتسيير مصالح العالم؟ وهكذا في الثقافة والعلاقات الاجتماعية والأخلاق والتربية والتعليم والاقتصاد والقانون والسياسة وسائر نواحي الحياة - حيث يسيرون في طريق الغرب متنكبين سبيل الإسلام - تجدهم ينتهون إلى (تيار العصر) و(اتجاه الريح) و(سير العالم في تبرير تقليدهم للغرب أو تماديهم في الضلال.

لماذا تقدمون هذه الاقتراحات التي تحمل الهدم والدمار تفاريق ولا تدمجونها في منهج موحد مفهوم؟ إن من العبث وإضاعة الأوقات تقديم اقتراحات متفرقة لتهديم السور والغرف والشرفة كل على حدة من البناء ثم بحثها آحاداً. لماذا لا تعلنون بصراحة أن البيت كله يجب أن يؤتى من القواعد لأنه لا غناء فيه جملة وتفصيلاً، ولا يتفق ومقتضيات الزمان لأنه لا يناسب اتجاه الريح، وتصميمه في هذا العصر أضحى غير مألوف..

إن من العبث مناقشة من آراؤه الحقيقية من هذا النوع، نقول لأمثاله بتحديد ووضوح: لماذا تتجشمون هدم هذا البناء حتى تنشئوا بناء جديداً مكانه؟ خير لكم أن تبحثوا عن بيت آخر يناسب أذواقكم ويكون حسن البناء جذاباً جميل الدهان. وإن كنتم مولعين بالانسياق مع التيار فلماذا تكلفون أنفسكم محو شارة الإسلام عن ذلك المركب مع أنه بإمكانكم أن تنتقلوا إلى أي قارب جار مع التيار. إن الإسلام عند هؤلاء الذين يدّعون مسلمين إسلام لا غناء فيه إذ يجردونه من كل شيء، فهم في آرائهم ومثلهم العليا وسلوكهم الاجتماعي واقتصادهم وتربيتهم وتعليمهم وسائر أحوالهم، هم في ذلك كله ليسوا مسلمين إنهم لا يعبدون الله ولكنهم يتبتلون لشهواتهم العارمة. إن أصبحت الوثنية ملة العصر تراهم وثنيين، وإذا تفشى مذهب العري تجدهم سريعاً ما ينضون عنهم ثيابهم ليعيشوا عراة متجردين، ولو استمرأت الدنيا أكل الأرجاس لقالوا إن الرجس هو الطهارة والطهارة الرجس سواء بسواء.. إن السلطان بيد الغربيين، ولذلك تراهم يتحولون ظاهراً وباطناً في كل قيراط إلى غربيين، بل لو أضحى الأحباش في غد أرباب القوة لتجدهم يتحولون إلى زنوج، فيسودون وجوههم ويغلظون شفاههم ويجعدون شعورهم ويهيمون بكل ما يأتي من بلاد الحبش. إن الانسان يأبى أمثال هؤلاء العبيد إطلاقاً، وإني لأقسم بالله، لو أسقط هؤلاء المنافقون والذين يفكرون بعقول العبيد من تعداد النفوس الذي تبلغ مئات الملايين فلم يبق من المسلمين سوى بضعة آلاف فيهم هذه الصفات "يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم".. لكان الإسلام أقوى بكثير مما هو الآن، وإسقاط مئات الملايين هذه يكون بمثابة تخلص الجسم السقيم من خبث الصديد.

إن قولتهم «نخشى أن تصيبنا دائرة» ليست مستحدثة في هذه الأيام؛ فهي قديمة جداً ويجأر بها المنافقون في كل العصور إنها دليل النفاق الكامن في الصدور. والذين يرفعون عقيرتهم بهذه الأقوال هم الذين ينحازون في كل عصر إلى معسكرات خصوم الإسلام.

إنهم يرون في حدود الله أغلالاً في أعناقهم وسلاسل في أقدامهم واتباع ما أمر الله ورسوله عبء ثقيل على كواهلهم، هم يحسبون دائماً أن في الطاعة خسارة للمال والحياة، ويرون في العصيان مباهج الحياة. لم تحور أحكام الشريعة من البداية لأمثال هؤلاء وكذلك لا يمكن تبديلها ولا في المستقبل. إن هذه الشريعة لم تنزل للخانعين الجبناء، ولا لعبيد الدنيا والشهوات، أمثال الريش في مهب الريح أو الحشرات الطافية يجرفها مسيل الماء وكذلك لم تنزل الشريعة لأولئك الذين لا يعرفون بصبغة تميزهم إنما يتلونون بكل لون يتصل فيهم. لقد نزلت الشريعة لأولئك الأحرار الجريئين الذين في قلوبهم العزم والتصميم على تغيير اتجاه الريح ولديهم الإقدام لمكافحة التيارات وتبديل مجراها، لقد نزلت لأولئك الذين يأبون من ألوان الدنيا إلا صبغة الله ويطمحون إلى صبغ الدنيا جميعاً بها.

إن كل من عرف باسم الإسلام لم يكن ليجري مع التيار حيثما سار، وكل غايته توجيه التيار في المجرى الصحيح الذي يوجه إليه عقيدته وإيمانه. فإذا غير التيار مجراه فسايره المرء في اتجاهه الجديد فهو غير صادق في اعتناق الإسلام. إن المسلم الحق يقاوم قوة التيار المتحول ولا يألوا جهداً في محاولة تقويم مجراه بغض النظر عن نجاح المسعى في المال أو إخفاقه أنه يتحمل كل خسارة يضحيها في كفاحه وإذا كسر في الصراع ذراعه وانفكت مفاصله وألقت به الأمواج إلى الساحل بين الموت والحياة فلن تتخاذل روحه. ولن يحزن لحظة واحدة لظاهر فشله ولن يحسد الكفار والمنافقين على نجاحهم إذ يراهم منحدرين في اتجاه التيار.

هذا هو القرآن، وبين أيديكم أخبار الأنبياء وتاريخ أبطال الإسلام منذ نزول الوحي حتى الأمس القريب. هل في أحكام القرآن ورسالات الأنبياء وأسى رجالات الإسلام ما يدعوكم إلى أن تنحدروا مع كل تيار وتميلوا مع كل ريح وتفعلوا في روما ما يفعل الرومان؟ إذا كانت هذه الغاية، فما حاجة البشر إلى الكتب المنزلة والأنبياء المرسلين؟ لقد كفيتم في الريح قائداً وبواقع الحياة هادياً ودليلاً!! ومعاذ الله أن ينزل كتاباً يبشر بمثل هذه الآراء الفاسدة أو يرسل نبياً يدعو إليها، وكل رسالة أوحى بها الله سبحانه إنما تهدف إلى تبيين الصراط المستقيم الذي يعدل إليه عن سائر السبل التي اعتادها الناس، والأخذ بحجز الناس أن يطؤوها وتنظيم المؤمنين في حزب يتبعون هذا الصراط ويدعون الناس إليه. لقد كان جهاد الأنبياء وكفاحهم جميعاً لهذه الغاية فعانوا أشد الوهن وحملوا أكبر الخسائر، وقدموا حتى أرواحهم فلم يرضخوا لواقع الحياة خشية نازلة تتربص بهم، أو طمعاً في مغنم سهل قريب. فإذا استيقن إنسان أو جماعة من الناس بأن سبيل الله محفوف بالمكاره والتضحيات ورغبوا في سبل يرجون منها المجد والنجاح والثراء، فكل مخير في سلوك أي طريق يختار، ولكن لم يحاول الخانع الجبان أن يخدع نفسه ويخدع الدنيا فيرى نفسه في عداد المسلمين مع أنه يجافي كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؟!

 إن العصيان بحد ذاته إثم فاحش فكيف به إذا اقترن بالبهتان والخديعة والنفاق؟!

إن القول بأن تيار الحياة إذا اتخذ مجرى معيناً لا يمكن تحويله عنه هو فكرة خاطئة في الواقع التجريبي فضلاً عن المنطق العقلي. لقد تقلبت الدنيا في مئات من الثورات كل واحدة منها آثرت في توجيه ذلك المجرى بقدرها، وأجل مثال على ذلك، الإسلام بأي اتجاه كان تيار الحياة يسير عند ظهور رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟! ألم يكن السلطان للكفر الوثنية؟ ألم يكن البغي والطغيان شريعة ذلك العصر؟ ألم تكن الإنسانية ممتهنة بتقسيمها القاسي إلى طبقات؟ ألم تكن الفضيلة مطموسة بالشرور والآثام، والسلوك الاجتماعي محكوماً بالأنانية، والنظام الاقتصادي بالإقطاعية الطاغية والرأسمالية الباغية، والقانون صارماً متطرفاً؟ إلا أن رجلاً فرداً نهض وتحدى الدنيا وفيها تلك الشرور مجتمعة. لقد اطرح العادات والفكر الخاطئة التي كانت سائدة يومئذ بحكم الحياة وقدّم بدلاً منها سبيله الفريد في العقيدة والحياة، وفي بضع سنوات حول مجرى التاريخ بعزيمته الثابتة وحماسه البالغ.

أما المثل القريب ففي الحركة الشيوعية. لقد كانت الرأسمالية في أوج سلطانها في القرن التاسع عشر. ولم يخطر حينئذٍ ببال إمعة أو جبان أن ذلك النظام الذي كان يحكم العالم وتؤيده القوى السياسية والعسكرية الهائلة يمكن أن يطاح به في يوم من الأيام، ومع ذلك قيض لكارل ماركس، وفي هذه الظروف، أن ينهض ويدعو إلى الشيوعية. قاومته الحكومة ونفي من بلاده وتنقل من مكان إلى مكان، وعانى الفقر والحاجة وألوان المكاره، ولكنه لم يمت حتى ترك حزباً قوياً منظماً أطاح بالقوة التي كانت قاهرة في روسيا وزعزع فضلاً عن ذلك أسس الرأسمالية في العالم كله حتى أن نظم البلاد العريقة في الرأسمالية لم تنج من آثاره.

وسواء أكانت ثورة أو تطور، فلا بد من وجود القوة كعامل أساسي. أن القوة معناها «التأثير» لا «التأثر» و«التوجيه» لا «التوجه»، وما كان للخائفين الجبناء أن يقيموا ثورة أو يحدثوا في العالم تطوراً أبداً، ليس في التاريخ كله نبأ عن عمل ذي بال قام به أناس لا يعتنقون مبدأ ولا يهدفون إلى غاية في الحياة، ولا يحفزهم روح التضحية في سبيل غاية سامية ولا تتوفر لديهم الشجاعة لمصادمة المخاطر، ولا هم لهم إلا الراحة، يستجيبون لكل مؤثر، ويوافقون كل حال. إنما يصنع التاريخ الرجال الأحرار، إنهم أولئك الذين غيروا مجرى الحياة بكفاحهم المتصل وتضحياتهم الجسيمة فغيروا فكر العالم وابتدعوا أساليب السعي والكفاح لم يسيروا إثر الاتجاهات السائدة في أزمانهم، بل جعلوا الدنيا تسير في ركابهم.

ولا تدعوا بعد الآن أن ليس بالإمكان العدول بالدنيا.. الدرب الذي تنحدر فيه، وإن ليس من سبيل إلا موافقة الظروف يجب أن تعترفوا صراحة بضعفكم فلا تنتحلوا الأعذار الواهنة دعوى قلة ما في اليد وفقدان المساعد، حتى إذا اعترفتم بذلك عليكم أن تقروا بأن المستضعفين المتخاذلين ليس من شأنهم انتحال دين أو مذهب أو نظام في هذه الحياة. إن الضعيف يخضع لكل قوة، ولا يستطيع الثبات على مبدأ أو نظام، فإذا ما وافقت ديانة ما في مبادئها أهواءه فإنها لا تعتبر ديناً لذلك من بعد.

ومن الوهم أيضاً حسبان الحدود التي رسمها الإسلام عقبات في سبيل التقدم والفلاح. ما هي هذه الحدود التي ترونها في الإسلام! أي نهي لم تقترفوه؟ وأي أمر لم تخالفوه؟ هل سمح حكم الإسلام أن تفعلوا ما فيه دماركم وشقاؤكم أنكم تهلكون أنفسكم بتبديد ثرواتكم إذ تدفعون الآلاف المؤلفة كفوائد سنوية إلى خزائن المرابين هل أذن لكم الإسلام أن تفعلوا ذلك؟ إن عاداتكم الفاسدة الأثيمة تعجل في نهاياتكم، وهذه الملاهي غاصة بأمثالكم حتى في هذه الظروف القاسية من الفقر والشدة. كل منكم يصرف من المبالغ على الملابس والترف والكماليات أكثر ما بوسعه، وهذه الأموال شهرياً تتسرب لتبذر في الحفلات الفارغة والمظاهر المبهرجة وتوافه الأعمال. أي شيء من هذا أباحه لكم الإسلام؟ إن أهم عامل ساعد على هذه الشدة إغفالكم دفع الزكاة، إذ فيها روح التعاون الوثيق بين الأفراد. ألم يفرضه الإسلام فرضاً عليكم؟.. وهكذا في الواقع نجد الاضطراب الاقتصادي بكامله ليس نتيجة اتباعنا الإسلام، بل على العكس هو نتيجة التمرد عليه، ومنع الربا، هل من مكان ترونه مطبقاً فيه؟

إن خمسة وتسعين في المئة من المسلمين الذين يستدينون بالفائدة إنما يفعلون ذلك دون حاجة ملجئة حقاً. أهذه هي إطاعة أمر الله في الإسلام؟ إن قسماً عظيماً من أغنياء المسلمين لا يسلمون من التعامل بالربا بشكل من أشكاله. هم لا يسلفون أموالهم لقاء فوائد، ولكنهم يجنون الأرباح الربوية من البنوك وشركات التأمين وسندات الحكومة وصناديق التوفير. فأين هم من تحريم الربا؟ من المسؤول عن هذا الاضطراب الذي نتردى فيه؟ إنه لزعم عجيب أن يدعي أناس بأن العز والقوة لدى المسلمين إنما تعتمد على الثروة، وإن الثروة تبعاً لاستغلال الموارد والتقدم الاقتصادي وأن ذلك كله مرتبط بشرعية سعر الفائدة! يبدو أن هؤلاء لا يعلمون ما هي الأسس التي عليها تعتمد رفعة الأمم ومجدها. ليس بالثروة وحدها تكون الأمة عزيزة مرهوبة الجانب بل لو كنتم جميعاً من أصحاب الملايين فإنكم لا تستوجبون بدون الخلق المتين أقل احترام. أما إذا كنتم تمثلون خلق الإسلام الحق، في الصدق والعدل والشرف، متمسكين بمبادئكم، مستقيمين في معاملاتكم، عالمين بالحقوق والواجبات ملتزمين الحدود الفارقة بين الحلال والحرام في كل حال، وكانت فيكم القوة المعنوية التي تلزمكم طريق الحق لا تحجمون خشية الخسار ولا ترغبون المغنم؛ وكان إيمانكم قوياً ثابتاً لا يتزعزع، القلوب، وكلامكم أرجح وزناً من كنوز أصحاب الملايين وذلك حق حتى ولو كنتم تسكنون الأكواخ وتلبسون الأسمال. كم كان المسلمون فقراء في أول عهد الإسلام أثناء حكم صحابة الرسول رضوان الله عليهم أجمعين؟

لقد عاشوا في أكواخ متداعية، وخيام بالية، لم يهتموا بمظاهر الحياة وترف الحضارة. خشن لباسهم جاف طعامهم بسيطة أدواتهم، ضعيفة ركائبهم، ولكن الاحترام الذي نالوه والرهبة التي فرضوا لم تقيض للمسلمين ممن أتوا بعدهم من الأمويين ولا من العباسيين بله المتأخرين حتى يومنا هذا. إنهم لم يحوزوا ثراء ولكنهم تحلوا بالخلق المتين فأكسبهم العزة والمجد على الدنيا جميعاً أما أحفادهم فقد تأثلوا بالأموال، وتمتعوا بالسلطان وتحملوا بالثقافة إلا أن شيئاً من ذلك لم يقم لهم مقام الأخلاق.

إن جهلتم تاريخ الاسلام أو تناسيتموه فاعتبروا بتاريخ أي أمة من الأمم. إنكم لن تجدوا مثالاً واحداً في شعب نال منعة وعزة باندفاعه وراء الشهوات وكل همه جمع الثروات. لن تجدوا أمة لها في قلوب الناس احتراماً ورهبة أن فقدت المبادىء وأعوزها النظام ولم تصبر على الشدائد وتقدم التضحيات الغالية في سبيل أهدافها ومثلها العليا.

إن الاسلام في فكرته ومناهجه يتميز عن سائر المذاهب الكبرى في العالم. فإذا ما فقدتم الجرأة وما زلتم تؤثرون التحلل والسهولة والدعة، واستنكفتم عن تحمل الشدائد والمصاعب، فلكم أن تنضموا إلى أي فئة خارج حظيرة الإسلام ولسوف ترون هناك أنكم لن تنالوا شرفاً يقدره الناس أو عزة يركن لها، إذ أنه لا بد لأي فكرة من نظام يتبع ومبادىء تعتنق وأهداف تتطلب التضحية بشكل من الأشكال وصدق الله العظيم.

"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين".

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 860