وداعًا.. محمد عمارة

clip_image002_64fc3.jpg

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فضلوا وأضلوا» متفق عليه.

يطل علينا هذا الحديث كلما فقدنا عالمًا من علماء الأمة الذين هم ورثة الأنبياء، فمن يعقل قيمة وجودهم في الأمة يدرك أنهم على ثغور الإسلام يردون عنه كيد الكائدين والمتآمرين، وكان آخر مَن فقدنا منهم المفكر الإسلامي عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الدكتور محمد عمارة، رحمه الله تعالى وأسكنه الفردوس الأعلى.

“البلدوزر”..”كاسحة ألغام الفكر الإسلامي”…”الحارس اليقظ المرابط على ثغور الإسلام”..كلها ألقاب حازها المفكر الإسلامي محمد عمارة، ذلك لأنه قد أفنى عمره في المقارعة الفكرية للعلمانيين والتغريبيين والباطنيين وتفنيد الشبهات المثارة ضد الإسلام والرد عليها.

ولا زلت أذكر يوم أن خرج على الفضائيات أمام نوال السعداوي وغيرها من أساطين الفكر العلماني، يتحدث عن فلسفة الميراث في الإسلام، ليعري باطلهم أمام الجماهير، ويثبت من خلال عرض هذه الفلسفة ما يدحض دعواهم في أن المرأة قد ظلمها الإسلام في أحكام الميراث، فكان كلامه كقطع السيف وضرب الحسام.

“دخلتُ اليسار من باب الدفاع عن القضايا الثورية والعدالة الاجتماعية، لكنني اكتشفت أن حل المشكلة الاجتماعية هو في الإسلام وليس في الصراع الطبقي والماركسية”، بهذه الكلمات التي صرح بها المفكر الإسلامي الراحل في إحدى المقابلات الصحفية، يعرفنا بأبرز محطات حياته، وهي التحول من الفكر الماركسي إلى التوجه الإسلامي، فرغم نشأته الدينية، إلا أن بدايته الفكرية كانت مع التيار اليساري، فكان سجنه عام 1959 بمثابة المَعين الذي اغتسلت فيه روحه وصفا فيه فكره، ليتحول إلى أحد أبرز جهابذة الفكر الإسلامي المناضلين عن الدين ضد أعدائه وخصومه.

لقد كان الدكتور عمارة رحمه الله شخصية مستقلة، لا يُحسب على أي تيار أو جماعة، ما جعله مرجعا لمعظم الباحثين، فرغم أنه قد تأثر بالشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي وغيرهما من المحسوبين على جماعة الإخوان، ودافع عن المشروع الإسلامي للشيخ حسن البنا رحمه الله مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وفنّد معالم مشروعه الإصلاحي في دراسة بعنوان “مشروع نهضة الأمة في فكر الإمام الشهيد حسن البنا”، إلا أنه لم ينتم إلى الجماعة، فكان صاحب فكر حر رصين متوازن، بل انتقد رحمه الله تركيز التيارات الإسلامية على الجانب السياسي وإهمال الجانب الإصلاحي والعدالة الاجتماعية.

محمد عمارة كان ثورة إسلامية على الأفكار العلمانية والتغريبية، وعلى أفكار الغلو والجمود، وصنّف حوالي 240 كتابا ودراسة معظمها يتمحور حول الدفاع عن الإسلام ورد الشبهات المثارة حوله، وناضل بالقلم واللسان ضد رموز هذه الأفكار العفنة وكبرائها مثل فرج فودة ونصر حامد أبو زيد، فكان سيفا مسلطا على هذه التيارات بغزارة العلم وقوة الحجة.

كانت جهود عمارة نموذجا للمفكر الإسلامي الذي يهتم بالتراث والواقع معًا، فتراه يتناول بالتحقيق كتب الأولين ككتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام، ويتناول من عدة زوايا شخصيات إسلامية مؤثرة عبر التاريخ الإسلامي، فتجد له مؤلفات عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وابن تيمية وابن رشد، ومؤلفات ودراسات أخرى عن محمد عبده والكواكبي ومحمد رشيد رضا والبشير الإبراهيمي وغيرهم.

إن المرء ليعجب من غزارة الإنتاج الفكري للرجل، وما أثار انتباهي فيها بصورة قوية هو تنوعها الثري، ليجعلك تتساءل: أي الميادين لها النصيب الأكبر من اهتماماته؟ فقد اهتم بالنظام السياسي في الإسلامي، والدفاع عن القرآن ضد الشبهات المثارة حوله، والمشروعات الإصلاحية في القديم والجديد، وقضايا المرأة، والرد على العلمانيين، والتَّماس بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى وصراع الحضارات، والقدس والقضية الفلسطينية، والعولمة والفكر التنويري، والغلو والتكفير، والاستبداد والطغيان السياسي، والصحوة الإسلامية، والخلاف السني الشيعي، والدفاع عن السنة النبوية، والتراث الإسلامي والتجديد، والأقباط والتنصير، والعديد من الجوانب التي لا يتسع لذكرها المقام، ومع أنني لم أقرأ معظم مؤلفاته إلا أنه لدى البحث عن مصنفاته وجدت مضامينها مذهلة شجعتني على النهل من كتب هذا الجهبذ.

لقد سجل الدكتور محمد عمارة مواقف مشرفة في أشد الأحداث سخونة في مصر، فكان بطبيعته الثورية الناقمة على الاستبداد والفساد السياسي والظلم الاجتماعي، من أشد المؤيدين لثورة يناير، ووصفها بأنها من أعمق الثورات الشعبية في العصر الحديث، وكان يبشر في عهد الرئيس محمد مرسي رحمه الله بأن مصر سوف تتجاوز أزماتها وتعود للريادة من جديد.

ولما انقلب العسكر على الرئيس الشرعي المنتخب، وفي الوقت الذي توارت فيه الأقلام، صدع هو بالحق رافضًا الانقلاب العسكري، وخرج ليطالب باحترام إرادة الشعب والعودة إلى المسار الديموقراطي وعودة الجيش إلى ثكناته، واستجلب سخط الإعلام المصري عندما ظهر في مقطع مصور يقر بأن عزل الرئيس مرسي باطل من الناحية الشرعية والقانونية.

ونتيجة لهذه المواقف الشامخة، تم عزل الدكتور محمد عمارة من رئاسة تحرير مجلة الأزهر عام 2015.

وكالعادة سيطل علينا محترفو التصنيف والتجريح ليتحفونا بأخطاء ومثالب للدكتور محمد عمارة، فطالما أن الرجل ليس من علمائهم فحتما سوف تنطلق ألسنتهم فيه بالسوء، وذلك مع علمهم بأن لكل عالم زلة، وأن كلا يؤخذ من قوله ويُرد إلا صاحب العصمة صلى الله عليه وسلم.

يكفي أن يعلم هؤلاء الجراحون أن الدكتور محمد عمارة رحمه الله على فكره الوسطي، اتهمه العلمانيون والتنويريون والتغريبون بالغلو والتكفير، وأن أفكاره خدمت الرجعية والطائفية ضد المسحيين والشيعة، ذلك لأنه كان يقصف هذه التيارات الفكرية بالحجة والبيان.

وثارت عليه الكنيسة القبطية ورفعت ضده دعاوى قضائية، لكثرة السجالات التي خاضها ضدها، وانتقاده للمنشورات التنصيرية التي توزع في مصر، وفضحه لدور الكنيسة في إثارة الفتنة الطائفية.

لقد أوصى الدكتور محمد عمارة قبل موته بنشر ذلك الميراث الذي خلّفه للأمة، ورأيت من واجبي تجاه علماء ومفكري أمتنا أن أنبه الغافلين عن هذه الشخصيات المعطاءة، فأمثال هؤلاء تفنى أجسادهم وتخلد كلماتهم، وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

ما الفخــــر إلا لأهل العلم إنهم …..على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ….والجاهـلون لأهل العـلم أعداء

فـفـز بعلم تعش حيـا ً به أبــدا… الناس موتى وأهل العلم أحياء

نسأل الله أن يرحم فقيد الأمة الدكتور محمد عمارة، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يلحقنا به في دار الخلود مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وسوم: العدد 866