عبادة الإنفاق واجبة في كل الأحوال وهي أوجب عند نزول مكروه هذه الجائحة بالأمة

حديث الجمعة :

لمّا جعل الله عز وجل الحياة الدنيا فترة ابتلاء ، فإنه  جعل من مقتضيات هذا الابتلاء أن يخضع المبتلون  للتمحيص . والتمحيص يكون بما يشق على النفس ، وهو إما حرمانها مما تتعلق به أشد التعلق أو إصابتها بما تكره أشد الكره مما لا تتحمله أو تطيقه . ولقد وضح الله تعالى أمر هذا التمحيص في كتابه الكريم من قبيل قوله جل وعلا : (( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا  يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذي صدقوا وليعلمن الكاذبين )) ، ومن قبيل قوله أيضا : ((  ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )) ، ومن قبيل قوله أيضا : (( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب )) ، ومن قبيل قوله أيضا : (( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )) ومن قبيل قوله أيضا : ((  ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )) .

هذه الآيات الكريمة وغيرها ورد فيها ذكر الابتلاء  الذي يكون إما بسبب  شر مصدره خوف أو جوع أو فقر أو علة أو وصب أو أذى أو هلاك... أو غير ذلك مما تكرهه النفس  إما بسبب خير يكون مصدره نعم الله عز وجل من صحة أو غنى أو قوة ... وغير ذلك مما  تحبه النفس .

ومما ابتلى به الله عز وجل الإنسان المال إما بإعطائه إياه أو بحرمانه منه  . والمال به تقوم كل أمور الإنسان في حياته الدنيا ، وقد جعل سبحانه وتعالى النفس البشرية متعلقة به كأشد التعلق مصداقا لقوله تعالى : ((  وتحبون المال حبا جما )) وحبه إنما يكون بسبب ما يوفره للإنسان مما تشتهيه نفسه من شهوات زينت له كما جاء في قوله تعالى : (( زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الدنيا والله عنده حسن المآب )) فالمال نفسه مما تشتهيه النفس البشرية ، وبه تحصل على باقي الشهوات  مما ذكره الله عز وجل .

ولما كان للإنسان كل هذا التعلق بالمال ، فإن ذلك جعله شحيحا قتورا يكره الإنفاق، لهذا تعبده الله تعالى به ليبتليه بذلك . ومن أجل ترغيبه في الإنفاق وهو عسير على النفس، أغراه  سبحانه وتعالى بما يعوضه عما ينفقه أضعافا مضاعفة، وهو يحتسبه له قرضا يقترضه منه مع أنه هو واهبه ، فقال سبحانه وتعالى : (( إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم )) كما قال أيضا  : (( من ذا الذي يقرض الله  قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون )) وقوله أيضا :  (( قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه  وهو خير الرازقين )) كما قال أيضا : (( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لم يشاء والله واسع عليم )).

وبالرغم من كل هذا الذي أغرى به الله عز وجل الإنسان ليجود وينفق مما رزقه  ، فإنه لا يتخلى عن شحه  ، لهذا قال الله تعالى : (( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي  إذن لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا )) إلا إذا وقاه الله عز وجل من شحه  مصداقا لقوله تعالى : (( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )). وليس الواقي منه إلا هو سبحانه وتعالى .

ولا يبلغ الإنسان هذه الدرجة من الفلاح إلا إذا روّض نفسه على التخلص من  شحها  بالإقبال على الإنفاق عن طيب خاطر وعن رضى نفس وارتياحها ، وإن الذي يرتاح للإنفاق والبذل يسمى أريحيا ، وهذه درجة  عالية من ترويض النفس على السخاء  قد بلغها من قبل  الرعيل الأول من المؤمنين الأنصار الذين أشاد بهم رب العزة جل جلاله في قوله تعالى : ((  والذين تبوّءوا  الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة  ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) . فهؤلاء الأنصار وقاهم الله عز وجل شح أنفسهم، فأحبوا  بصدق المهاجرين الذين هاجروا إليهم مع أن العادة أن يتحرج الناس ممن يهاجرون  إليه ويضايقوهم  بذلك في ديارهم . وكمثال على هذه المحبة نسوق  خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمان بن نوف رضي الله عنهما حيث عرض سعد أن يقاسمه ماله ، وينزل له عن إحدى زوجتيه حين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار أخوين أخوين، فأسكن الأنصار المهاجرين معهم في بيوتهم، واقتسموا معهم ما كانوا يملكون .

وأكثر من ذلك آثر الأنصار المهاجرين على أنفسهم  في فيء بني النضير عن طيب خاطر منهم ، ودون أن  يخامر نفوسهم شيء من الرغبة في ذلك الفيء وهو مما لا يعلمه ولا يطلع عليه إلا الله عز وجل الذي يعلم ما تخفي الصدور  مع خصاصتهم  وشدة حاجتهم إليه ، فهذه قمة الإخلاص في الإنفاق لأنها جمعت بين اقتسام الأنصار مساكنهم وأموالهم  مع المهاجرين ، و بين التنازل لهم على الفيء مع الحاجة الماسة إليه ، وكل ذلك عن طيب خاطر الذي يكون في مكنون النفوس وقد كشف الله عز وجل صدقه . ولو لم يكشفه الله سبحانه وتعالى لما صدّقه الناس  خصوصا في زماننا هذا لما  اعتادت عليه طبيعة النفس البشرية من حب جم للمال وشح به .

إن مناسبة حديث هذه الجمعة هو ما اقتضاه ظرف الجائحة الحالة اليوم  بالمسلمين وبغيرهم من شعوب الأرض من حمل للنفوس على الإنفاق وترويضها عليه  وذلك لمواجهة خطرهذا الوباء الذي يتطلب علاجه والوقاية منه  إمكانيات مادية كبيرة ومكلفة إلى جانب  مصاريف الأقوات خصوصا وقد فرض الحجر على الناس ، وفيهم محاويج ، و فقراء طلاب يطلبون رزقهم يوميا .

فقي هذا الظرف بالذات يتعين علينا كمسلمين أن نستحضر قدوتنا من رعيل  الأنصار رضوان الله عليهم أجمعين ، ونحذو حذوهم في حب محاويجنا كما أحبوا هم المهاجرين ، وأن نؤثر هؤلاء المحاويج على أنفسنا ولو كان بنا خصاصة كما آثروا هم المهاجرين على أنفسهم مع خصاصتهم .

وعلى الواحد منا إذا خرج لاقتناء الطعام أو الشراب أو ما تتطلبه الوقاية من الجائحة من كمامات وغيرها  أن يفكر في المحاويج، ويمر بهم أو يطرق أبوابهم وقد احتجبوا في بيوتهم وأفزعهم الوباء ، وهمّهم  أمر أقواتهم ، وأعيتهم الحيل للحصول عليها ليشركهم معه فيما اقتنى وقد وسع الله عليه ما قدره عليهم  وذلك تخفيفا عليهم مما هم فيه من فزع وضيق  وشدة .

وإذا تعذر على الواحد منا أن يصل إلى هؤلاء ، فليلتمس سبلا أخرى إلى عبادة ربه سبحانه وتعالى عبادة الإنفاق من خلال المساهمة في الصندوق الذي وضع لمواجهة الجائحة وهي تتطلب مصاريف باهظة لاقتناء المعدات الطبية، فضلا عن مصاريف إعالة من صاروا عاطلين بلا شغل ولا مصدر عيش  بسبب الحجر .

إن الإنفاق في هذا الظرف قد رفع الله تعالى من أسهمه وأرباحه  وعائداته  ، وجعلها أضعافا مضاعفة ، وهي فرصة الربح الوفير من قروض نقرضها الله عز وجل .

 اللهم إنا نسألك الوقاية من شح الأنفس ، ونسألك  أن ترزقنا حب الإنفاق في سبيلك ، ونسألك الإيثار على أنفسنا في الغنى ومع الخصاصة ، ونسألك أن تقبل منا قروضنا لك ، ونسألك مضاعفة أجورنا عليها ، ونسألك عفوك عنا  مع مغفرة ذنوبنا ، ونسألك رفع هذا البلاء عنا ، فإنه لا يرفعه عنا إلا أنت سبحانك ، اللهم لا تجعل شهر المعظم  شهر الصيام يحل بنا إلا وقد دفعت عنا شر هذا الوباء كي نذكرك كثيرا ونسبحك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا .

والحمد لله التي تتم بنعمته الصالحات ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 873