الاحتياط من الوباء لا عيب فيه لكن العيب في الإساءة إلى الغير بتصرف متهور معه كأنه موبوء

لقد كشفت جائحة كورونا المخبوء من السلوكات البشرية ، وأسقطت  كثيرا من الأقنعة التي كان يتقنع بها كثير من الناس ، وتبيّن بياض خيوطهم من سوادها وصدق عليهم  قول الشاعر :

وعلى قدر ما أظهر الناس من سلوكات إيجابية تمثلت في شيوع الدفء العاطفي بينهم  بسبب الحجر، فإن سلوكات أخرى سلبية قد طفت على سطح الواقع  بعدما كانت متوارية ، وليتها لم تطف خصوصا عندما يتعلق الأمر بأحباء وأخلاء صيّرهم الخوف من الجائحة  شبه أعداء أو أعداء .

ومن السلوكات السلبية  المذمومة أن البعض ممن بلغ خوفهم من الجائحة حد الزمانة ، ذهبوا بعيدا في الحيطة والحذر ، وأخذت تصدرعنهم تصرفات غربية  تؤذي غيرهم أباعد وأقارب  وجيرة  ومعارف منها إظهار التقزز والاشمئزاز وكأن من يمر بهم  أو يقترب منهم موبوء يجب تحاشيه ويصدق عليه  قول الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد :

وأصحاب مثل هذه التصرفات لا يراعون ما قد تخلفه تصرفاتهم تلك في نفوس غيرهم من جروح  في نفوسهم لا تلتئم أبدا وهي أشد ألما من الجروح الحقيقية التي تلتئم مع مرور الزمن .

وقد يصادف المرء بعض أصحاب تلك التصرفات في الطرقات والشوارع أو أمام المتاجر أو الإدارات أو غيرها من المرافق ، والجميع مكمم ومع ذلك يمتعضون منه، وتشي نظراتهم  المريبة إليه بما يضمرونه من امتعاض منه، فيشعرونه كأنه موبوء حقيقة ، وأنه يريد أن ينقل إليهم عدوى الجائحة .

 وإذا هان الأمر عندما تصدر مثل تلك التصرفات من أباعد  وغرباء ، فإنه يشتدّ على النفس ويؤذيها أشد الإذابة عندما تصدر عن أقارب وأحباء وعمن هم أشد قربا منهم ، حتى  صار الواحد إذا دخل بيته بعد تبضّعه لأهله ، وقد بذل قصارى الجهد في الحيطة والحذر من نقل العدوى  إليهم، وابتعد ما وسعه الابتعاد عن المارّة ، وكمّم الوجه ، وعقّم الكفين ، وأغمس الرجلين في أشد المحلولات تطهيرا  وتعقيما ، استقبل بنظرات مريبة تشعره وكأن هامته قد توجها فيروس الجائحة ، وانتثرت فوق هندامه وغطّته  من قنة إلى أخمص  ، فيطلب منه حينئذ أن يتجرد من كسائه ويلقي به في ركن بعيد ، بل يود الأهل لو أنه دخل عليهم عاريا  كما ولدته أمه وقد تجرد حتى من ملابسه الداخلية قبل أن يلج عليهم البيت ، كل ذلك مبالغة  منهم في الاحتراز الذي لا مبرر له خشية اقتحام الجائحة عليهم البيت دون مبالاة منهم بما قد يخلفه ذلك في نفسه من ألم  ومرارة وهم الأعزاء ـ يا حسرتاه ـ الذين ما أخرجه إلا التبضّع لهم ، وهو بخروجه إنما  يعرض نفسه لخطر العدوى . وعوض أن يقدروا تضحيته من أجلهم انساقوا وراء أنانيتهم ولسان حالهم كما قال أبو فراس الحمداني :

" إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر "

 أو قول القائل : " أنا والطوفان من بعدي "

وما كان يخطر على بال أن تنزّل الجائحة عند هؤلاء منزلة الفزع الأكبر يوم يقوم الناس لرب العالمين حيث يصير الأخلاء بغضهم لبعض أعداء . وإذا كان الله قد استثنى من هؤلاء  الأخلاء المتقين الذين لا تفتر لهم مودة  ، فإن من أفزعتهم هذه الجائحة  قد أنستهم مودة الأخلاء ، وأذهلتهم عنهم كما تذهل المرضعة عما أرضعت إذا ما حلت زلزلة الساعة ، ولو كان لهم حمل فلربما ألقوه  من شدة الفزع .

إنه لمؤسف ومحزن جدا أن يبلغ بالبعض الأمر هذا الحد من الإساءة إلى الغير بسبب المبالغة في الحيطة من عدوى الجائحة مع أن الإصابة  بها إن حصلت إنما هي قدر الله عز وجل الذي لا راد له  إذا نزل ،والذي لا تنفع مبالغة في حيطة أو حذر منه  .

و أخيرا نقول الأمل في الله عز وجل كبير لرفع هذا البلاء ، ولطفه في قضائه  النازل ، ويوم يرفع  سبحانه البلاء ،سيندم من أساءوا التصرف مع الأخلاء ولات حين مندم  ، و يومئذ  يقال لهم  ما قال الشاعر الصعلوك تأبط شرا :

وسوم: العدد 873