التربية عند الإمام البنا الأسلوب والأثر (٤ /٦)

فمن مظاهر إخلاصه وصدقه، رحمه الله؛ اكتشاف المواهب وتوظيفها وهو في الخلف في دائرة النسيان، وبدا أثر ذلك.. هذه التربية والتزكية لنفسه.. في صدقه وإخلاصه.. فكان الرجل يكتشف عناصر السلامة وكوامن العظمة في نفوس رجاله، ويعرف متى يحين أوانها ويجب نَدْبها.. ومتى يتريّث في أمرها إلى حين. فكان يكتشف جوانب العظمة فيها ثم يدفعها إلى حيث مكانها المناسب لمواهبها ومهاراتها.

- اكتشفها في "الشيخ الغزالي" فاكتشف فيه الهمة المتوقدة والغيرة المتوثبة فدفعه للوعظ والإرشاد وظل هو في الخلف في دائرة النسيان -كما يقول الشيخ الغزالي عنه-، وكذلك هو من و ّجه الشيخ الغزالي أن يكتب في "أمور الدعوة في شؤونها العامة" وقد قال الشيخ "محمد الغزالي" عن الإمام البنا –رحمه الله-: "هو أستاذي ومعلمي ذلك الإمام العملاق"، وهو الذي وجهه هذا التوجيه الذي نبغ فيه الشيخ محمد الغزالي هذا النبوغ الفريد.

واكتشفها في الأستاذ "سيّد سابق" رأى فيه رجلاً فقيه النفس.. فدعاه أن يكتب كتاباً هو دليل المسافر"، فقه السُّنّة" وظلّ هو في الخلف، فلقد رأى في الشيخ سيد سابق: وَقَد ذهنه وألمعيته المبكرة وذكاءه وهمته.. فدعاه أن يكتب، وهو ما زال شاباً صغيراً بعد تخرجه، أن يكتب "فقه السُّنَّة" وقال له: "هذا كدليل المسافر للأمة"، حتى تستفيد منه الأمة في أمورها، ونَدَب بعض الأخوة من الأزهريين أن يعاونوه في ذلك. حتى إن أحد الإخوة كان في رحلة علمية في الصين، قال أنه رأى ذلك الكتاب "فقه السُّنَّة" مترجماً في بعض المكتبات إلى اللغة الصينية.

كذلك هو من وجه الأستاذ "عبد القادر عودة" أن يكتب في "التشريع الجنائي المُقارن"،وذلك عندما وجد فيه الهمة والتجربة والخبرة والفقه وحسن الدراية بالقانون الوضعي والتراث الفقهي، فوجهه أن يكتب هذا الكتاب الذي أصبح من الكتب المشهورة جداً والذي تُقدم فيه الناس رسائل الدكتوراة حتى الآن.

حان أوانُهم فوجب نَدْبهم.. وإن ظل هو في الخلف في دائرة النسيان... كان لا يعنيه ذلك لأنه كما يقول: "إن الداعية الحق لا يعنيه من يومه إلا أن يرحل.. لأن الغد هو يوم هؤلاء المرتقب".

واكتشف في الأستاذ "الهضيبي" ثباته وإصراره ورأى فيه حُكماً ورأياً.. فأوصى به أن يكون إذا احتاج الإخوان بعد غيابه عنهم شيئاً في أمورهم يحتكموا إليه.. وهو ما كان..

فادخره للأعاصير الهوج.. وقد قاد الجماعة وهي في ظروف غاية في القسوة فخرج بها

وهي غاية في القوة.

وهذه كانت من كوامن العظمة التي اكتشفها الإمام في نفوس إخوانه وتلامذته، ولم يكن يصنع بها لنفسه مجدا شخصيا إنما كان يستبدل بإطار مجده الشخصي إطار الرسالة الخالدة.

كان لا يعبأ أن يظل هو في الخلف في دائرة النسيان وكثيراً ما كان يكرر بين إخوانه.. إنني أعلم أنّ منكم من هو أعظم عند الله ثواباً مني.. ولقد أخذت حظي من الشهرة والمعرفة.. وإنّ المتصوفة يقولون: "إن ظهور الكرامة على يد الوليّ تُعَدُّ نقصاً".

وهُتِف باسمه يوماً "عاش الإمام حسن البنا" وكان ذلك أمر دارج عند السياسيين والأحزاب

في ذلك الوقت لكنه غضب غضباً شديداً.. وقال الإمام -رحمه الله-: "إن يوما يُهتف فيه باسم البنا لا يكون ولن يكون أبداً".

أعانه على ذلك صوفيته الحقة وزهده الطبيعي.. فلقد عاش حياته القصيرة العريضة مجانباً لأسباب الشهرة الكاذبة وميادين الترف الرخيص

وسوم: العدد 881