اتفاق حاكم الإمارات مع المستعمر الصهيوني… إنهم يأتون ويرحلون

هل فوجئنا، حقا، بإعلان دولة الإمارات تطبيع علاقاتها مع سلطات الاحتلال الصهيوني يوم 13 آب/ اغسطس ؟ ألم نكن ملمين بتفاصيل علاقتهما السرية ـ المفضوحة قبل تسجيلها كعلاقة « شرعية» بحضور راعيها، أم اننا، كنا نؤمن، بدواخلنا، بوجود قاع للهاوية، رافضين في الوقت نفسه، رؤية الواقع بتفاصيله المريرة كمن يرفض موت عزيز عليه حتى وهو يحتضر بل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة؟

هل هو حمايتنا لأنفسنا من الموت كمدا؟ من الاستسلام؟ من القبول النهائي بكل ما هو غير مقبول إنسانيا وأخلاقيا عن طريق جعله أمرا يوميا عاديا لايستحق الانتباه؟ من مصادرة الأحلام والطموحات وتدجين المخيلة وتحويل القيم الإنسانية من منظومة متكاملة الى فتات تلتقطه كل مجموعة صغيرة، على حدة، فقط لتمدد ساعات بقائها، لتحمي نفسها عبر الاقتتال على الفتات؟

لم نفاجأ، منذ عقود وتحالف السجان/ الجلاد الصهيوني ـ العربي الرسمي يتفاوض خلسة حينا وعلنا حينا آخر، على بيع ما لا يملكون، في مزاد يدفع ثمن استئجار قاعاته ومنصات خطبه وديكورات زهوره وولائمه، أطفالا لن تتاح لهم فرصة أن يصبحوا شبابا، وشبابا لن يصبحوا كهولا، يسبح المحتل، في مسابح استيطانه، بدمائهم. منذ عقود وفلسطين تقًطَع. غابت معالم القدس تحت استراتيجية المستعمر الاستيطاني. طرد السكان العرب، المسيحيين والمسلمين، استبدلوا بيهود أو مدَعي اليهودية من جميع ارجاء العالم. تزوير الهوية بدأ بالحفريات تحت المسجد الأقصى ومحاولات حرقه وهدمه واجتياحه، تهديم المنازل وردم المباني والمواقع العربية الإسلامية. تطويق المدينة بمستوطنات تتناسل بسرعة لا مثيل لها. جدار الفصل العنصري يلتف كأفعى سامة حول الفلسطينين وبينهم. بينما حملت غزة اسم أكبر سجن في العالم، بلا ماء صالح للشرب، بلا خدمات صحية، بلا هواء نقي، والطائرات بلا طيار تزن على رؤوس السكان لتذكرهم بأنهم أسرى مكان لا يدخله إلا من حمل تأشيرة يصدرها سجان صهيوني إسرائيلي بمساعدة سجان مصري عربي. كلاهما يتغنيان بجهودهما لتحقيق» السلام» ومحاربة «الإرهاب».

لكل تنازل ولكل استسلام ولكل خنوع أسم أو مصطلح يطلقه الكيان الصهيوني وتباركه أمريكا، يتلقفه حكام عرب في علاقة تماثل في تطبيقها قول أبو حامد الغزالي حول علاقة المريد بشيخه، حيث « يتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد، بحيث يفوّض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورده ولا صدره، ولا يُبقي في متابعته شيئاً ولا يذر». فمن «صفقة القرن» واعلان القدس عاصمة لمستوطنة إسرائيل الى اعلان الإمارات، مرورا باستقبال السلطان قابوس، وهو على وشك مغادرة الحياة، منكمشا، في قصره، في العاصمة مسقط، لرئيس « مستوطنة إسرائيل» نتنياهو، معلنا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، شرعنة العلاقة السرية بين المستوطنة والسلطنة.

تزوير الهوية بدأ بالحفريات تحت المسجد الاقصى ومحاولات حرقه وهدمه واجتياحه، تهديم المنازل وردم المباني والمواقع العربية الإسلامية

هذه الحكومات ليست الاولى كما لن تكون الاخيرة. فنحن نعيش في حقبة زالت فيها الفروق بين الحكومات « الوطنية» القمعية المستبدة، والحكومات المُسٌيرة عن بعد، ومستعمرات الاستيطان. فهي تشارك، جميعا، في تحالفات « دولية» تتبادل فيها المعلومات الأمنية والاستخبارية والتدريب والاستشارة لتطوير قدراتها على الترهيب والاحتواء وخلق سبل ابعاد الناس عن السياسة، ووسم كل مقاومة لهذه المنظومة، المتوسعة عبر الحدود، بالارهاب. ومشاركة الأنظمة العربية مؤكدة لأن « أكبر مخاوف الانظمة العربية هو تخلي أمريكا عنها» كما يقول المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد.

فلا عجب ان يتصرف الرئيس الأمريكي ترامب وكأن القدس ملكه ليمنحها مكافأة لمن يشاء، وأن تصدر الإمارات بيانات ملفقة لتبرير علاقاتها مك كيان استعماري استيطاني وان يقوم سلطان محتضر بمنح « ضيفه» ما لا يملكه.

ماذا عن الشعوب العربية والاسلامية؟ عن « الشارع العربي» ؟ هل هناك شارع عربي قادر، على إحداث تغيير فعلي أم « أن تحرير البلدان العربية والاسلامية من الطغيان مهمة تقع على كاهل واشنطن» كما صرحت وزيرة خارجية أمريكا كوندليزا رايس في تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، أثناء حملتها الدعائية لـ « تحرير» العراق؟

آخذين بنظر الاعتبار ان معظم الحكومات العربية لا تمثل شعوبها، وان مفاهيم الديمقراطية والانتخابات تباع كرزمة للتزويق والاستعراض امام الدول العظمى، وان الحكومات العربية تجد في كل من يعبر عن رأيه بشكل مغاير لسياستها «ارهابيا» يجب استئصاله هو وعائلته (حسب الطريقة الصهيونية) سنجد أن الشعوب العربية، خلافا لما يشاع عن عدم وجود شارع عربي أحادي الاتجاه، لا تسكت على ضيم. وانها قد تصبر لفترة الا انها سرعان ما تنتفض وتثور طلبا للعدالة والحرية والكرامة ووضع حد للفساد. هذا مارايناه في تونس وسوريا والعراق ولبنان والجزائر. وهذا ما نراه، يوميا، في فلسطين. وفلسطين هي قلب الحرية والعدالة والكرامة النابض. وإذا كنا نحملها، في نواة خلايانا، في بصماتنا الوراثية، اينما كنا، فإن قضية بلد محتل وشعب يقاوم عنصرية الاستيطان الاستعماري لم تعد قضيتنا لوحدنا بل كما نضالات الشعوب المقاومة، عبر التاريخ، قضية يتحمل مسؤولية دعمها والمشاركة في نضالها كل انسان ذي ضمير حي. « حريتنا لا تكتمل بدون تحرير المواطن الفلسطيني» قال نلسون مانديلا، ليعجن معاناة الفلسطيني بما عاشه الجنوب أفريقي في مسيرة تحريره.

وما نعرفه، بعيدا عن لقاءات الحكام السرية لمقايضة فلسطين ببقائهم في السلطة، إنها فلسطيننا. انها ليست أزمة، ليست صراعا، ليست خلافا، ليست نزاعا. إنها بسعة الارض والسماء، متجذرة في ضمائرنا. فلسطين هي معنى ان تكون حيا، لأنك تقاوم، ان تعرف معنى الحرية لأنك أسير، ان ترى الأفق بأزهى ألوانه لأنك ترى أبعد مما يرى سجانك أو بائع قضيتك. من الذي أوحى للأنظمة العربية ان الشعوب ستتخلى عن فلسطين لأن حاكما أو أميرا أو سلطانا خانها؟

ألا نفاجأ لا يعني ألا نغضب ألا نحول غضبنا الى طاقة تشحننا لمواصلة العمل، المقاومة بأنواعها، بكل المستويات، عمليا ورمزيا، أينما كنا. وعلينا، نحن الموجودين جسديا خارج فلسطين، أن نواصل تكريس فلسطين رمزا للحرية والكرامة الانسانية والتضامن بين الشعوب المتطلعة لمواصلة الحياة على قدم المساواة. ولنتذكر أن الاستعمار الفرنسي الاستيطاني للجزائر دام 132 عاما ولم يستسلم الجزائريون.

وللحكام المتعاونين مع المستعمر ضد شعوبهم، أردد ما قاله أدوارد سعيد « من كان يتخيل ان البريطانيين سيغادرون الهند بعد ثلاثمئة عام من الاستعمار؟ انهم يأتون ويذهبون».

وسوم: العدد 890