" العقل السياسي " متردد في الكتابة حول هذا ...وأستعين الله !!

وأهم ما افتقدته المجتمعات والشعوب في تاريخ نضالها الطويل هو " العقل السياسي "

في التاريخ البشري القديم كانوا يسمون هذه الطبقة من الناس " العامة " و " الغوغاء " و" السوقة " وجملوهم في العصر الحديث بتسميتهم " الجماهير " وقالت الماركسية في عنفوان مجدها بديكتاتورية لبروليتاريا ..

ولو رجعنا إلى المفكر والمؤرخ والطبيب الفرنسي غوستاف لوبون - 1841 - 1931 ، في كتابه سيكولوجية الجماهير ، سنجده الأشد قسوة علينا نحن البسطاء ، الذي يرانا نفكر بغرائزنا وعواطفنا - رغباتنا ومشتهياتنا وما نحب وما نكره - أكثر من تفكيرنا بعقولنا ...

كان لوبون في كتابه " سيكولوجية الجماهير " الأسبق والأقسى في التأسيس لعلم ، كان يشار إليه في تاريخ الحضارات المختلفة بإشارات عامة . نحفظ من القرآن الكريم في المثل عن السيل والزبد وما ينفع الناس . ونقرأ عن أكثر من في الأرض الذين يضلون عن سبيل الله ، ونحفظ من تراثنا الإسلامي قول بعضهم " العوام كالهوام "

ولكن لوبون بحق كان مؤسسا لعلم واع ، وتابعه عليه العديد من العلماء والمفكرين وكان من أشهرهم فرويد الذي ذهب إلى الحديث عن علم " النفس الجمعي " كما أنه أيد لوبون ورد عليه ..

مهما يكن الموضوع ، ومهما الاتهامات بالعنصرية والفوقية التي وجهت إلى لوبون ، وأنه كان يسير في الخط المضاد للثورة الفرنسية ولإرهاصات الفكر الاشتراكي الجماهيري ، فإن ما كتبه لوبون يستحق منا التأمل وكذا يستحق التأمل مؤزروه ونقاده على السواء . ويستحق التأمل حقا واقعنا الذي يبدو أنه لم يبق لنا يد فيه ..

وعودا إلى واقعنا العملي ببعديه الديني والمدني ..

وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد قبلت منا أن نتعبد صلاة وصوما وبيعا وشراء بتقليد أي بالأخذ بفتوى الفقيه ؛ إلا أنه ليس من المقبول من المسلم بحال أن يؤمن بتقليد . لا يقبل إسلام المرء أن يكون إسلامه بالاسترسال تبعا لإسلام والديه . ولا بد للمسلم من حظ من التفكير والنظر ليقيم إيمانه على أساسه . وتكون بدايته الإيمانية صحيحة .

وعلى المستوى المدني دائما دعا الإسلام المسلمين إلى التفكر والتدبر والتسامي والانضباط ليتساموا عن حالة تلك الاستجابة الغرائزية أو الأولوية إلى التأمل والتدبر والتفكير . المجتمع المسلم كما وصفه القرآن هو المجتمع المفكر . ومتى حصلت المفارقة وقع المسلمون في الحرج العظيم . لا نستطيع أن نزعم أن الكمال في مرحلة من التاريخ الاجتماعي الإسلامي كان مدركا ، ولكننا نؤكد أن الدعوة إلى الكمال ظلت مفتوحة على كل المستويات ..

والحديث في هذا الموضوع يختلط علينا ، فنحن جميعا نستغرق في حالة من الاستغراق الجماهيري الأولي أو البدائي . وقد صحبنا هذا الأمر منذ عقود طوال . وظل الأكثرون يشككون بالأقلين الذين يدعون إلى العقل والريث والتأمل والتقدير والتدبير . قوم يحرضون الجماهير وما أيسر لغة التحريض ، وقوم يستثمرون في الهياج فيرتفعون مثل زبد يحتمله السيل .

في عالم الجماهير تسمع الناس يتحركون معا إلى غير ما وجهة . يفرحون معا . يبكون معا . يصفقون معا . يقبلون معا . يرفضون معا . يعجبون معا . يشجبون معا . يرتفع صوت إحداهن بالنشيج في صالة سينما أمام مشهد درامي فيجاوبها على الفور عشرة أصوات !! وفي كل مرة لا يجرؤ أحد ونحن في حالة " الهيام " تلك ... لا يجرؤ أحد على النداء : لا تشربوا من نهر الجنون حتى يكون كبير القوم من الشاربين .

لتقريب الحالة التي نصف إلى العقول والقلوب ، نتذكر للعبرة واقعة يوم الحديبية ، يوم كان العقل السياسي الرائد والمتقدم يبرم المعاهدة المعروفة ، وكان الموقف الجماهيري في الطرف الآخر . بعض من يمثله يعبر عن اعتراضه بالحركة والاحتجاج ، وبعضهم بالصدوف ، بعد أن أمروا بأن يحلقوا وأن يذبحوا الهدي فواجهوا الأمر بصامت الرفض ..

أحداث كثيرة ، مواقف كثيرة تمر بنا - وأنا واحد منكم - لا نتعامل معها بعقل سياسي يقدر ويدبر . في كثير من الأحيان تبقى مواقفنا مسبقة ومبتوتة وغير قابلة للمراجعة ، وغير متأثرة بمعطيات الواقع ومستجداته ومتغيراته ..!!

والعقل السياسي لا يعمل في فراغ ، ولا يأخذ قراراته في فراغ . ومع الاحتفاظ بطلاقة الرؤية المتعلقة بالأفق المفتوح فإن العقل السياسي يعمل على الساعة الزمانية - المكانية التي هو فيها . ومن كان في جيبه خمسة دراهم لا يذهب إلى سوق الصاغة .

نُظر إلى الجماهير دائما على أنهم قوة فاعلة متحركة هادرة يمكن أن تكون بناءة ويمكن أن تكون مدمرة ..وأنها دائما بحاجة إلى عقل يحركها ويوظفها وهكذا اشتغل عليهم المصلحون والمفسدون . قيل إن هتلر وموسوليني وستالين وماوتسي تونغ وغاندي كانوا أعظم من حرك الجماهير في القرن العشرين ..و

ولم تجد ثورات الربيع العربي حتى اليوم قائدها المعلم ..كل القادة الذين تقدموا كانوا يمسكون بين أيديهم أجهزة التوجيه عن بعد ..

لم يجد الميدان قائدا على المقاس الذي وصفه أبو تمام :

فأثبت في مستنقع الموت رجله ...

نحتاج أنا وأنتَ وأنتِ ونحن إلى التأني والتبصر لنعرف ، ونحتاج أن نتعلم قبل أن نتكلم ...

لعلنا نفهم معنى دعائنا : ونسألك العزيمةَ على الرشد والثبات على الأمر " فكم من قوم عزموا على الضلالة ، وثبتوا على الخطأ .

دعوة إلى العقلانية والموضوعية والتفكير .. ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ).

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 890