في اختلافنا سرُّ تمايزنا وتكاملنا فلا تضيقوا بالاختلاف والمختلفين ..

وكان الاختلاف في الخلق ، من تجليات اسم الله البديع ..تدخل الغابة فيها ملايين الأشجار ، كلها من نوع واحد ، ولا تطابق شجرة شجرة في جذعها وضخامتها وارتفاع أغصانها ..

يقابلنا في اليوم الواحد آلاف الصور من الخلق ..فلا تنطبق صورة منها على صورة. وكان في اختلاف صورنا وألواننا آية ..

أي مطبعة هذه التي تطبع لنا كل يوم آلاف الطبعات من العملات النادرة ، وكل ورقة نقدية بصورة فريدة وملامح فريدة وإشارات معجزات وحيدة ؟!!! فتأمل يا رعاك الخالق البارئ المصور ..

ومن عالم الجسم إلى عالم النفس . ويقول علماء النفس ولا نجد معيارا ثابتا للنفس البشرية السوية نعتمده ، لا يمكن أن نعتبر معيارا كما نقول إن درجة حرارة جسم الإنسان ثابتة وتحوم حول 37 درجة مئوية . السليم نفسيا منا هو الذي لا يحتاج إلى طبيب نفسي ، كذا يقولون .

في عالم النفس أيضا يقول علماء النفس لا توجد نفوس متطابقة . حتى بين التوأمين الحقيقيين ، تتطابق صور الوجوه ، ولا تتطابق صور النفوس . ويضيفون وفي كل ثلاثين ألفا من الناس هناك صورتان نفسيتان متشابهتان . متشابهتان وليستا متطابقتين. بديع السموات والأرض يبدع حتى في التكرار ..

نحن مختلفون إلا أن تشملنا الرحمة فنتقارب .. (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ) الاختلاف أصل والاتفاق عارض مشروط بشمول لبرحمة .

ومن عالم النفس إلى عالم العقل ، حيث الاختلاف أكبر وأشهر ، وحيث الأنموذج كان يصوّب كل مجتهد بحق . وكان بعض المعطى آيات محكمات تقوم بهن الحجة ، وآيات متشابهات يمتحن بهن اللبيب في سعيه للصواب .. ( آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ )

ليس في الناس من يحق له أن يدعي أنه النسخة الأولية الأصلية للخلق الأول ، وأنه يجب أن تنقح كل النسخ عليها ..أنا .. وأنت .. وهو .. وهي . بل نحن .. وأنتم .. وأنتن ..وهم ..وهن ..كلنا نسخ تحت التعديل والتقويم ، وقد سواها مسويها ، وبراها باريها قابلة للتزكية . وكانت تزكيتها تكليفا " تحلية وتخلية " وكان الأنموذج البشري الأوحد في عودة كل النسخ إليه صاحب الخلق العظيم ، من كان خلقه القرآن .. صلى الله وسلم عليه

وفي بحبوحة الخلاف والاختلاف تجد العقول مضامير لسعيها ، وتجد النفوس واحات لمستقرها . وقد كان إقرار هذا والاعتراف به ، والاستثمار فيه بعض عطاء شريعة ربانية مستعلية تأبى أن تكون قطيفة أو عباءة .. بل تؤكد نفسها دوحة سامقة تظلل بحب وحنو كل يأوي إليها من المستظلين ..

نقول أصحاب رسول الله ونعتزي إليهم ، ونعتز بهم ، ونترضى عنهم ، ولكننا لم ندرس حتى الآن مناهجهم كمشتقات تابعة للثابت الأول ..

والذين صلوا العصر ثم لحقوا ببني قريظة ، والذين فوتوا العصر ولم يؤدوها إلا في بني قريظة ، سيظلون مؤسسين لحقيقة أننا يمكن أن تختلف منا اجتهادات العقول ، دون أن تختلف منا القلوب والنفوس . وعلى كل الذين لم يعوا هذا حتى اليوم أن يعوه.

لم ندرس منهجيا وعلميا في مناهج الصحابة الأبعاد النفسية والعقلية وراء يسر ابن عباس وحرص ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين ، حتى يحني ابن عمر رأسه حين يمر تحت غصن الشجرة المقطوع أو الموهوم ، لأنه حنا رأسه يوم مر مع الحبيب . الحب لا العقل هو الذي يفسر لنا هنا وليس القال والقيل ..!! لعلي أعقل ولعلكم تعقلون!! وابن عباس وابن عمر نصف العبادلة ، وهما أنموذجان لكل اختلاف في المنهج يكون بعد . واختلف أبو ذر على عثمان . واختلف بلال على عمر . واختلفوا في الفقه والرأي والسير وكان كلٌ منهم من رسول الله ملتمس ..

وتقرأ في سير العلماء الثقات العظماء المختلفين مما كان بين الإمام مالك وبين ابن أبي ذئب ..وهل سمع الكثير منا بابن أبي ذئب ؟!

جبلان من العلم والفقه والدين والخلق اختلفا ...ونبتلع الغصة حين نقول اختلفا وقال أحدهما في الآخر ما لا يطيق سماعه الأثبات من أقوياء القلوب ..وظل لكل واحد منهما عند أهل الإسلام مكانته ..

وتقرأ في " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي رحم الله الخطيب البغدادي في ترجمة الإمام الأعظم أبي حنيفة ، فيوجع قلبك ، ولكن يجب أن تظل تقول رحم الله أبا حنيفة وغفر للخطيب البغدادي ورحمه ..

وترجع إلى تاريخ ابن تيمية وتعلم أن صاحب السلطان حبسه بتوجيه علماء ثقات ، قال ابن تيمية قولا استعظموه فأفتوا بحبسه فتقول رحمهم الله جميعا ..

وودنا أن العلماء المتعاصرين منهم في تاريخ الإسلام لم يكونوا أشد تنازعا من ..، ووددنا أن بعضهم لم يقل في الآخر إلا خيرا ، وأنه سلم إليه اجتهاده ووكله إلى دينه وتقواه ..!!

ووددنا أنهم اليوم إذا اختلفوا أن لا يقسو بعضهم على بعض . وأن يكونوا قد تعلموا من دروس التاريخ وعبره ..أن الدين العقيدة والشريعة ليس ملحفة يلتحفها رجل ما.. مهما كان عند نفسه أو قومه عظيما ..وليس إرثا يرثه بعض الناس عن عشيرته وقومه وأبيه.. لاضير في تفنيد قول لا ترتضيه حسب قواعدك ، ولكن لا نتهم ولا نهوّن ولا نحقر ولا تزدري أعيننا ..ويبقى الثابت من أمر هذا الإسلام وهذا الدين أن الزبد يذهب جفاء وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض ..

لا ضير أن نختلف ..ولكن الضير كل الضير أن نجعل من اختلافنا جسرا للعداوة والبغضاء ومادة للشنآن والتنابذ ..

ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ..

واصبروا حتى تكاليف إخوتكم ، وتعارفكم ، وألفتكم ووصل حبال مودتكم ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية