شيوع المعاملات التجارية الفاسدة في مجتمع شعاره :" ليس منا من غشّنا"

كل الناس في مجتمعنا يرددون عبارة من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي : " من غشنا فليس منا " ،والواقع أن الغش ضارب أطنابه بيننا بحيث لا تخلو منه معاملة من معاملاتنا التجارية على اختلاف أنواعها  وغير التجارية.

ومعلوم أن عبارة  إدانة الغش الواردة في الحديث النبوي الشريف جاءت إثر ملاحظة رسول الله صلى الله عليه وسلم خللا في معاملة تجارية خاصة بالطعام وهي أكثر المعاملات  التجارية اليومية بين الناس ، والبضاعة فيها أكثر أنواع البضائع  تناولا وعرضة للتلف من جهة ،وللغش والتدليس من جهة أخرى . وما لاحظه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خلط أحد الباعة طعاما رطبا أصابه بلل بآخر يابسا، فأخفى الربط تحت اليابس حتى لا يراه الناس، فيكتالون منه وهو مغشوش .

ويكفي الانطلاق من هذه النازلة التي شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم للحكم على كل النوازل التي يتعلق بها الغش مهما كانت طبيعته أو نوعه ، ذلك أن الغش في حقيقة أمره إخفاء ما يجب إظهاره عن قصد  وسبق إصرار و سوء نية.، ويكون ما يخفى رديئا يموه عليه بجيد أو فاسدا يموه عليه بصالح أو ضارا يموه عليه بنافع ... إلى غير ذلك من صفات مختلف السلع التي لا يمكن الجمع بينها في المعاملات التجارية .

وما شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم على الغاش حيث تبرأ منه كما جاء ذلك في صيغة من صيغ الحديث وهي : " من غش فليس مني " أو أخرجه من حظيرة المسلمين في صيغة : " ليس منا من غشنا " إلا لخطورة الغش على استقرار المجتمع المسلم حيث تضيع الثقة بين أفراده بسبب تفشي الغش بينهم في معاملاتهم التجارية ، والثقة هي رأسمال التعامل عموما والتعامل التجاري خصوصا .

وواقع الحال اليوم في مجتمعنا هو شبه إجماع أفراده على التطبيع مع الغش أو لنقل التعايش معه ، وقبوله  والتسليم به كأمر واقع لا مناص منه . وأفراد المجتمع كلهم على علم مسبق بأن كل معاملاتهم التجارية  على اختلافها يشوبها الغش ، وهم يتوقعونه في كل ما يقتنون من بضاعة خصوصا الطعام والشراب .

فإذا أخذنا على سبيل المثال من الأطعمة  الخضر والفواكه، نجدها توضع في أوعية أو صناديق أو أكياس  أو غير ذلك ، ويظهر منها الأجود المغري أو المسيل للعاب ، و يخفي تحته الرديء . وعندما ينكر ذلك على الباعة يكون جوابهم المعتاد كذلك اقتنيناها من غيرنا وهو إقرار منهم بقبول التعامل المغشوش  حيث يعاملون زبناءهم بمثل ما عاملهم به من ابتاعوا منهم سلعهم من فلاحين أو مزارعين أو مسوقين كبار في أسواق الجملة  .

ومما حدثني به بائع خضروات وفواكه ،وقد أثار انتباهي إظهار الجيد  من الخضر وإخفاء الرديء تحته في متجره  أن أحد كبار المسوقين للخضروات يجلس على كرسي والمسبحة في يده ،وهو يأمر مستخدميه بتوجيه السلعة أي خلط الجيد منها بالرديء مع إظهار الأول وإخفاء الثاني ، وليست شعري أي ذكر كان  يذكره  وأصابعه  تعبث بمسبحته ،وهو يسجل بعظمة لسانه براءة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين  منه ؟

وغالبية تجار الخضروات والفواكه لا يسمحون للزبناء باختيار ما يشتهون وما يريدون منها بل يكيلون لهم عمدا أخلاطا من الجيد والرديء، ويسوقونها بنفس الأسعار .وقد يتفنن بعضهم في أنواع الغش، فيزنون للزبائن ما يشتهونه من جيد السلع المعروضة التي تراها أعينهم ولكنهم يعطونهم الرديء مما  كانوا قد أعدوه وأخفوه سلفا  في أكياس.

وأسلوب الغش عند بائع السمك لا يختلف عن أسلوب الخضّار والفاكهاني حيث يضع الجيد من السمك في أعلى الوعاء أو الصندوق، ويخفي تحته الرديء، فيكيل منه للزبون  أغلب الكيل  مموها على ذلك ببضع سمكات مما يعرضه في أعلى الصنجة .

وللجزار طريقته في الغش حيث يمرر في كل كيلة يكيلها ما خفي من رديء اللحم والشحم والعظم . ولا أحد يستطيع أن يطلع على ما يعده من كفتة مهما اشرأبت الأعناق، لأنه يضع آلة دقّ اللحم في مكان أعلى، ويخفي في صحن يعلوها ما يريد من قطع اللحم غير المرغوب فيها ،ويوهم الزبناء بأنه يعد لهم ما يقطعه أمام أعينهم من قطع اللحم التي يشتهونها وهو خفية يخلطها بما يرغب عنه منها.

وللعسّال وللبّان والزيات طرقهم في الغش أيضا حيث يعد الأول عسلا مغشوشا من سكر ، ويقسم بمحرجات الأيمان أنه مما خرج من بطون النحل ، كما أن الثاني فضلا عن خلط الماء باللبن  يحضّر سمنا مغشوشا، ويقسم أيضا على أنه من خالص ما يعطي الضرع ، أما الثالث  فيتعدد ما يخلط به الزيت من نبات أو أقراص أوغيرها  من الأخلاط ثم يقسم  أيضا على أنه من عصير الشجرة المباركة التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تممسسه نار .  

وأما أرباب المطاعم والمقاهي، فحدث عن أساليب غشهم ولا حرج، فقد يطعمون أو يسقون من يرتادون مطاعمهم أو مقاهيهم أصنافا من فاسد المأكولات والمشروبات  وهم لا يشعرون .

وأما ما يعلّب من مأكولات أو يقنّن من مشروبات ، فالله وحده يعلم مقدار الغش فيها. ويخدع المستهلكون بالعلب والقنّينات وما يرسم عليها من أشكال  أو يكتب عليها من عبارات تغري باقتنائها وقد دسّ فيها كل رديء  والإشهار يزينها للناس ويرغبهم فيها .

 فالشاي على سبيل المثال كثرت أنواعه، وتعددت الأسماء  والرموز والصور المرسومة على علبه المختلفة الأحجام والأشكال  لكنه عند الإعداد تكون كل أنواعه بمذاق  واحد تمجه الأذواق، ولا تزول أوساخه  عند إعداده  إلا بعد أن يخضّ كما يخضّ اللبن .

وأما البيض فيطرح في محاليل تغير من لون قشرته  ليلحق بالنوع الجيد المفضل عند الناس ، ويرتفع بذلك سعره .

ولو استرسلنا في  سرد أنواع الغش في المأكولات والمشروبات لطال بنا الحديث طولا مملا، ولكننا سنكتفي بما ذكر، وهو كله غش كالغش الذي أنكره رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولقد شاع الغش فيما نأكل من طعام ونشرب من شراب ، ولم يعد ذلك خافيا على حدث  صغير أو شيخ كبير  حتى أن أحد الفضلاء أخبرني أن ابنه له طلب من أمه أن تعد له شطيرة أو "سندويتش " من لحم دجاج ،ولم يكن عندها سوى القليل منه، فاضطرت للتمويه على قلته في قطعة خبز بأوراق الخسّ ،وقطع من طماطم وخيّار وغير ذلك ، فلمّا تفحصه الابن سأل أمه سؤالا أذهل والده وأضحكه في نفس الوقت قائلا : أمّاه هل أعددت هذه الشطيرة للبيع ؟ وهو سؤال يعكس مدى تغلغل الغش في ثقافتنا وسلوكنا حتى أن هذا الابن وبكل براءة وبراعة استفسر أمه عما ظنه غشا منها بسبب قلة لحم الدجاج في الشطيرة ، لأنه تعود على معاينة الغش فيما يباع من شطائر أو سندويتشات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

وفي الأخير نقول إننا حين نردد عبارة الحديث النبوي الشريف : " ليس منا من غشّنا " ونحن متورطون في أنواع شتى من الغش، نحكم  بأنفسنا على براءة الإسلام منا والعياذ بالله .

وسوم: العدد 897