هَكَذَا تَعَلّْمْتُ مِنَ الإسْلاَمِ - 31 - 34

حامد بن أحمد الرفاعي

هَكَذَا تَعَلّْمْتُ مِنَ الإسْلاَمِ - 31

(قِيَمُ السَيْرِ الحَضَاريِّ الآمِنِ)

تَاسِعَ عَشَرَ- قِيَمُ تَدَّيُنِ الفَرْدِ وَ تَدَّيُنِ الدَوْلَةِ

مِنَ الإشْكَالَاتِ الكُبْرَى, وَرُبَّمَا المُسْتَعْصِيَّةِ, الَتِي تُهَدِيِدُ أمْنَ المُجْتَمَعَاتِ وَوُحْدَةَ كَلِمَتِهَا, غِيَابُ أو اضْطِرَبُ حَالَةِ التَوْازُنِ والتَكَامُلِ بَيْنَ فِقْهِ تَدَّيُنِ الأفْرَادِ وَفِقْهِ تَدَّيُنِ الدَوْلَةِ. تَدَّيُنُ الأفْرَادِ يَقُومُ عَلَى التَحَوْطِ لِقَولِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم :" دَعْ مَا يَريبُك إلى مَا لَا يَريبُك ". مِثْلَمَا يَقُومُ عَلَى الأخْذِ بِالعَزِيِمَةِ لِقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم : "أُعْبُدْ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ ". أمَّا تَدَّيُنِ الدَوْلَةِ فَيَقُومُ عَلَى تَخَيُّرِ الأيْسَرِ لِتَحْقِيِقِ مَصَالِحِ الرَعِيَّةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم :" يسِّروا ولا تعسِّروا ". لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَائِشَة- رضى الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ:" مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ". أجَلْ, فَمِنْ شَأنِ الدَوْلَةِ أنْ تَتَحَرَى الأخْذَ بِكُلِّ أمْرٍ يُيَسِّرُ جَلْبَ المَنَافِعِ والمَصَالِحِ لِلنَّاسِ، والأخْذَ بِكُلِّ مَا يَدْفَعُ عَنْهُم المَغَارِمَ والمَفَاسِدَ. فَالدَوْلَةُ مَعْنِيَّةُ بِتَحْقِيِقِ مَصَالِحِ الشُعُوبِ لِقَولِ الخَلِيِفَةِ الرَاشِدِ عُمَرُ ابْنُ الخَطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ: " إنَّمَا وُلِّنَا عَلَيْهِم لِسَدِ جَوْعَتِهِم ، وَسَتْرِ عَوْرَتِهِم، وتَأمِيِنِ مُهْنَتِهِم". وَمِنْ أوْلِ أولَوْيَّاتِ الدَوْلَةِ إقَامَةُ الحَيَاةِ وبَسْطِ العَدْلِ, والأمْرُ بِالمَعْرُوفِ (أيْ كُلُّ مَا عُرِفَ خَيْرُهُ, وتَعَيَّنَ نَفْعُهُ لِلنَّاِس). والنَهْيُّ عَنِ المُنْكَرِ( أيْ كُلُّ مَا عُرِفَ شَرْهُ, وتَعَيَّنَ ضَرَرُهُ لِلنَّاِس) . وقَدْ قُلْتُ مِنْ قَبْلُ: يَنْبَغِيَّ عَلَى الأفْرَادِ أنْ يَتَفَقَهُوا بِالسِيَاسَةِ, وعَلَى السَاسَةِ أنْ يَتَفَقَهُوا فِي الدِيِنِ. فَإقَامَةُ التَوازُنِ والتَكَاُملِ بَيْنَ فِقْهِ تَدَّيُنِ الأفْرَادِ وَفِقْهِ تَدَّيُنِ الدَوْلَةِ ، وبَسْطِ سُلْطَانِ الدَوْلَةِ وتَعْزِيِزِ النِظَامِ وهَيْبَتِهِ, لَهُو السَبِيِلُ الأقْوَمُ لِإقَامَةِ حَيَاةِ الشُعُوبِ وتَحْقِيِقِ مَصَالِحِهِم ، والخَلِيِفَةُ الرَاشِدُ عُثْمَانُ ابْنُ عَفَّانٍ رَضي اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: " إنَّ اللهَ لَيِزِعُ بِالسُلْطَانِ مَا لَا يَزِعُ بِالقُرْآنِ". فَبِكُلِّ تَأكِدٍ فَإنَّ الدَوْلَةَ والنِظَامَ هُمَا قَلْعَةُ الأمْنِ والأمَانِ لِلمُجْتَمَعَاتِ، وهُمَا الحِصْنُ الحَصِيِنُ لِصَونِ عِزَةِ الشُعُوبِ والأوْطَانِ وسِيَادَتِهَا.

هَكَذَا تَعَلّْمْتُ مِنَ الإسْلاَمِ - 33

(قِيَمُ السَيْرِ الحَضَاريِّ الآمِنِ)

واحدٌ وعشْرُون - قِيِمُ العَقِيِدَةِ والشَرِيِعَةِ والرِسَالَةِ

العَقِيِدَةُ عَلَى حَدِ فَهْمِي, تُمَثِّلُ الخُصُوصِيَّةَ الدِيِنِيَّةَ، التِي تُمَيِّزُ المُسْلِمَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أتْبَاعِ الأدْيَّانِ الأُخْرَى، مِثْلَمَا هُو شَأنُهَا عِنْدَ غِيِرِ المُسْلِمِيِنَ، فَلِكُّلِ أتْبَاعِ دِيِنٍ عَقِيِدَتُهُم الخَاصَةِ بِهِم, التِي تُمَيِّزُهُم عَنْ غَيْرِهِم، وهَذِهِ المَسْألَةُ قَدْ حَسَمَ الإسْلَامُ مَوْقِفَهُ مِنْهَا بِنُصُوصٍ قُرْآنِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ, مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ". والعَقِيِدَةُ هِي أسَاسُ مَسْألَةِ الوَلاَء الخَالِصِ للهِ تَعَالَى في الألُوهِيَّةِ والرْبُوبِيَّةِ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى:" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ", مِثْلَمَا هِي أسَاسُ مَسْألَةِ الْبَرَاءِ مِنَ الإيِمَانِ بِغَيْرِ اللهِ والشِرْكِ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :"قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ ". أجَلْ, مَا يَنْبَغِي أنْ نُطِيِلَ الجَدَلَ مَعَ الآخَرِ بِشَأنِ مَسْألَةِ العَقِيِدَةِ، فَالإسْلَامُ حَسَمَ إشْكَالَاتِهَا بِالقَاعِدَةِ الرَبَّانِيَّةِ المُحْكَمَةِ الخَالِدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ". أمَّا الشَرِيِعَةُ الإسْلَامِيَّةُ فَهِي مَعْنِيَّةٌ بِتَجْلِةِ قَوْانِيِنِ ومَبَادِئ تَصْرِيِفِ وإدَارَةِ شُؤونِ النَّاسِ ومَصَالِحِهِم لِقَوْلِهِ تَعَالَى : "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ". وأمَّا الرِسَالةُ فَهِي مَعْنِيَّةُ بِتَجْلِيَةِ قَواعِدَ وقِيَمِ ومَبَادِئ النْهُوضِ بِمَهَمَةِ الآسْتِخْلاَفِ فِي الأرْضِ. فَالاسْتِخْلَافُ تَكْلِيِفٌ رَبَّانِيٌّ لِلبَشَرِ جَمِيعًا عَلَى اخْتِلاَفِ مِلَلِهِم وأدْيَانِهِم وثَقَافَاتِهِم. وبَعْدُ, فَمَا هُو الخَلَلُ فِي فَهَمِ العِلَاقَةِ بَيْنَ وَظِيِفَةِ العَقِيِدَةِ, والشَرِيِعَةِ, والرسالة ..؟ إنَّ الإشْكَالَ الكَبِيِرَ الَذِي تُعَانِي مِنْهُ فُهُومُ كَثِرٍ مِنَ المُفَكِرِيِنَ بَلْ وبَعْضِ العُلَمَاءِ, هُو خَلَلُ فِي التَعَامُلِ مَعَ مَنْظُومَةِ وَظَائِفِ دَوائِرِ العَقِيِدَةِ, والشَرِيِعَةِ, والرِسَالَةِ. فَوَسَّعَ بَعْضُ المُسْلِمِيِنَ وَظِيِفَةَ دَائِرَةِ العَقِيِدَةِ عَلَى حِسَابِ وَظَائِفِ دَائِرَتِيِّ الشَرِيِعَةِ, والرِسَالَةِ. حَتَى أصْبَحَت العَقِيِدَةُ (دائِرَةُ الوَلاَءِ والبَرَاءِ) هِي النَافِذَةُ الوَحِيِدَةُ التِي يَطِلُونَ مِنْهَا عَلَى النَّاسِ (إيجَابًا وسِلبًا). وأدَرُوا ظُهُرَهُم لِقِيِمِ دَائِرَة الشَرِعَةِ والرِسَالَةِ التِي تُمَثْلُ مَبَادِئَ النْهُوضِ بِواجِبِ مَهَمَةِ الاسْتِخْلاَفِ فِي الأرْضِ وإقَامَةِ الحَيَاةِ. وَبَعْدُ فَمَا هُو الحَلُ ..؟ إنَّ هَذَا التَحَدِ يَكْمُنُ فِي إعَادَةِ التَوازُنَ والتَكَامُلَ والتَلاَزُمَ بَيْنَ وظَائِفِ دَوَائِرِ العَقِيِدَةِ, والشَرِيِعَةِ, والرسالة. فَبِذَلِكَ تَقُومُ وتَتَحَقَقُ الغايَةُ الأجْلُ للإسْلاَمِ ألاَ وَهِي إقَامَةُ الحَيَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ".

هَكَذَا تَعَلّْمْتُ مِنَ الإسْلاَمِ - 34

(قِيَمُ السَيْرِ الحَضَاريِّ الآمِنِ)

اثْنَان وعشْرُون - قِيِمُ عَظَمَةِ الثِقَةِ بِاللهِ

عَلَى الرَغْمِ مِنْ أنَّ العَالَمَ مُثْقَلٌ بِالْهُمُومِ ومُضَرَجٌ بِالْجِرَاحِ. فَإنَّنِي مَمْلُوءٌ بِعَظَمَةِ الثِقَةِ بِاللهِ تَعَالَى.. وظَنْي بِالعُقَلَاءِ والحُكَمَاءِ والمُفَكِرِيِنَ حَسَنٌ, وَإيِمَانِي بِوعْدِ اللهِ تَعَالَى مُطْلَقٌ وعَمِيِقٌ ومَتِيِنٌ, أعْتَقِدُ وَأجْزِمُ بِأنَّ لِلْبَاطِلِ وَالظُلْمِ والبَغْي وَالطُغْيَانِ جَوْلَةٌ.. وَلَكِنَّ لِلْحَقِ والعَدْلِ والإحْسَانِ جِوْلَاتٌ وصَوْلَاتٌ. أجَلْ, أنَّ مَا يَجْرِي فِي المَسِيِرَةِ البَشَرِيَّةِ مِنْ خَلَلٍ لَابُدَ أنْ يَنْتَهِي ويَزُولَ.. وأنَّ مَوْجَةَ الفَسَادِ والإفْسَادِ فِي الأرْضِ فِي طَرِيِقِهَا إلَى انْحِسَارٌ وَانْدِثَارٌ بِعَونِ اللهِ تَعَالَى, وأنَّ شَجَرَةَ الظُلْمِ والعِدْوانِ والطُغْيَانِ سَتُجْتَثُ مِنْ جُذُورِهَا وأصُولِهَا لاَمَحَالَةِ, وأنَّ شَجَرَةَ العَدْلِ والإحْسَانِ لابُدَ لَهَا مِنْ أنْ تَنْهَضَ وتَشْمَخَ فُرُوعُهَا - بِمَشِيئةِ اللهِ جَلَّ جَلاَلُهُ - لِيَسْتَظِلَ النَّاسُ بِأمْنِهَا وَحَنَانِهَا. أمَّا كَيْف وَمَتَى ..؟ ومَا هُو السَبِيِلُ إلِي ذَلِكَ ..؟ ومَنْ يَفْتَحُ لَنَا ثُقْبًا فِي جِدَارِ هَذَا لضَّنَّكِ الخَانِقِ ..؟ بَلْ مَنْ يَصُّبُ قَطْرَةَ مَاءٍ لِإطْفَاءِ الحَرَائِقِ ..؟ أحْسَبُ أنَّ كُلاً مِنَّا مِنْ مَوْقِعِةِ وبِمَا أوتِيَ مِنْ عِلْمٍ وَكَفَاءَةٍ ومَهَارَةٍ, وبِمَا لَدَيْهِ مِنْ إحْسَاسٍ بِقُدْسِيَّةِ النُهُوضِ بِوَاجِبِ بِمَهَمَةِ التَكْلِيِفِ الرَبَّانِّي بِعَمَارَةِ الأرْضِ وإقَامَةِ الحَيَاةِ, وبِمَا لَدَيْهِ مِنْ اعْتِقَادٍ بِأنَّ النَّاسَ شُرَكَاءُ بِتَحَّمُلِ مَسْؤولِيِاتِ الاسْتِخْلَافِ فِي مَيَادِيِنِ الحَيَاةِ.. وأنَّ التَعَاونَ والتَدَافُعَ والتَنَافُسَ والتَكَامُلَ مَعَ الآخَرَ, هُو السَبِيِلُ الحَكِيِمُ الرَاشِدُ لِبِنَاءِ تَعَايُشٍ آمِنٍ عَادِلٍ بَيْنَ المُجْتَمَعَاتِ. أجَلْ بِمِثْلِ هَذَا الإيِمَانِ بِاللهِ تَعَالَى, وبِمِثْلِ هَذَا اليَقِيِنِ بِعَظَمَةِ الثِقَةِ بِه سُبْحَانَهُ, وَبِمِثْلِ هَذَا التَوْجُهِ الجَادِ فِي أنْسَةِ قُدْسِيَّةِ القِيِمِ الرَبَّانِيَّةِ. يُمْكِنُنَا تَحْقِقِ ذَلِكَ وأكْثَرَ. ولَكَ أنْ تَتَدَبَرَ قوله تعالى:" وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ", وقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ". ولَكَ أنْ تَتَدَبَر قَوْلَ رَسُولِنَا وَسَيِّدِنَا محمد صلى الله عليه وسلم :"خَيْرُ النَّاسِ مَنْ نَفَعَ النَّاسِ". وَبَعْدُ, فهلْ يَبْقَى مَعَ هَذِهِ القِيَمِ الرَّبَّانِيَّةِ السَامِيَّةِ مِنْ حَيْرَةٍ وَيَأسٍ ..؟

وسوم: العدد 897