أنا و الطابور و الطاقة

معاذ عبد الرحمن الدرويش

لم يكن هناك مظلة فوق طاقة الفرن، المطر ينهمر بغزارة فوق الناس، لكن جسدي الصغير الضائع وسط الطابور حمى ثيابي قليلا من البلل ،و الأهم من ذلك لم يستطع البرد أن يتسلل إلى داخل الزحمة التي كنت منحشرا في وسطها.

لم يكن هناك طابور بالمعنى الحقيقي ، و إنما شبه طابور حيث تتكوم الناس حول الطاقة و تمتد هذه الكومة و يقل عرضها كلما إبتعدت عن الطاقة أكثر حتى يصبح بشكل أشبه بطابور مهلهل بعد عدة أمتار من حائط الفرن.

كنت أستغل أي حالة تدافع أو تزاحم بين الناس لكي أنسل إلى الأمام قليلا بإتجاه الطاقة.

إستطعت أن أحقق تقدماً كبيراً بعد ساعات من العراك بجسدي الصغير وسط الإزدحام الخانق .

و أخيرا وصلت إلى الطاقة، قامتي الصغيرة لم تكن تسمح لكامل رأسي بالوصول إلى الطاقة لكن مشهد داخل الفرن أصبح مرئياً تماماً أمام عيناي .

الدفء القادم من داخل الفرن أدفأ أحلامي قليلاً بأن أعود بكومة من الخبز لأهلي هذا اليوم، و رائحة الخبز الشهي زادت شهيتي أن أصل بالخبز ساخناً إلى البيت لكي أتعشى مع إخوتي زيتاً و زعتر مع الشاي هذا المساء، نسيت معاناة الإزدحام و آلام التدافع و مرارة الإنتظار.

كان بين الحين و الحين يدق باب الفرن ، في كل مرة لم يكونوا يفتحون أول الأمر ، لكن الطرق المستمر و المتصاعد يجعلهم يفتحون في كل مرة، دخل فلان لأنه بالمخابرات ،و دخل علان لأنه بالحزب، و دخل علنتان لأنه قريب صاحب الفرن، و دخل أبو فلان لأنه من وجاهات أهل الضيعة، في كل مرة يدخل أحدهم كنت أسمع تقييمه و سبب حظوته بالدخول من الرجال من حولي خارج الفرن.

كل الذين دخلوا الفرن يقفون على جانبي سير الخبز و ينتقون أرغفة الخبز المحمرة و المقمرة و ما يتبقى من خبز يباع لمن يقفون معي على الطاقة.

لم أسمع أحد من الرجال الواقفين على الطاقة إعترض على إنتقاء الخبز الجيد ممن كان داخل الفرن ، لكن كلما دخل أحدهم إلى داخل الفرن كنت أسمع همس خفيف من أحدهم و هو يقول "ليش عم تفتحوا الباب؟"

أدركت بحدسي الطفولي أن لا أحد يتجرأ على إنتقادهم مخافة أن يحرموه من الخبز، و لا أحد يبالي بنوعية الخبز التي يأخذها، المهم ان يحصل على ربطة خبز يسد بها جوع أهله و عياله مهما كانت نوعيتها رديئة.

كنت أمد يدي و أضع النقود بوجه البائع... ثلاث ربطات يا حجي ، لم يكن الحجي البائع يكترث بي و لا بيدي أمام وجهه و كأنني غير موجود.

و كان البائع الحجي ينظر يمنة و يسرة و ينتقي الرجل الذي يريد إعطاءه الخبز في كل مرة.

و فجأة صاح الحجي "خلصنا بيع اليوم".

  • بس في خبز يا حجي
  • الخبز منباع...
  • بس ربطة يا حجي الله يخليك و الله صار لي من الظهر.

أغلق الحجي باب الطاقة الصغير في وجهي دون أن يكترث بي أو بمن تبقى حول الطاقة.

نظرت حولي لم أجد سوى بعض الأطفال و بعض النساء و بعض الرجال الفقراء و المساكين.

عدت إلى البيت بعد أن ضاع نصف النهار و أنا لم أكتب وظائفي المدرسية و لم أحضر لمذاكرة الغد، و قد أرسلتني أمي فور عودتي من المدرسة لأنها قالت لي أن الفرن يعمل بعد الظهر و لا يوجد عندنا خبز.

عدت إلى البيت بيدين باردتين بدل من كومة من الخبز الحار.

عدت إلى البيت مبلل الثياب ، تمنيت لو أستطيع أن أبلل وجهي بسيل من الدموع .

تمنيت لو أستطيع أن أملأ العالم بصرخة أحقن فيها كل عذاباتي و مرارتي و قهري .

لكنني لم أستطع....

وسوم: العدد 899