مسجد أثينا مسيرة تاريخية وملاحظات

المسجد الرسمي في أثينا قصة بدأت مع نهايات القرن التاسع عشر، حيث ظهرت الحاجة إلى مسجد رسمي في عاصمة البلاد نظرًا لعلاقاتها مع العالمين العربي والإسلامي، وقربها الجغرافي منهما.

حتى الثمانينيات من القرن الماضي لم يكن هناك حديث جدي عن المسجد، نظرًا لقلة أعداد المسلمين في البلد.

منتصف الثمانينات بدأ الحديث عن الموضوع يقوى، بسبب وجود أعداد ملحوظة من الطلاب ورجال الأعمال المسلمين في البلد. ومع منتصف التسعينيات كان في اليونان عشرات الآلاف من المسلمين العرب والأفارقة ثم الآسيويين.

تحدث مسؤولون حكوميون عن أماكن مختلفة مرشحة لتكون مكانًا للمسجد، ما أدى إلى تظاهرات واحتجاجات من سكان تلك المناطق لعدم رغبتهم في وجود مسجد في منطقتهم. وبدأ محللون و " مختصون" بالشأن الإسلامي يتحدثون عن حجج مختلفة لرفضهم وجود المسجد في تلك المناطق، مثل " احتمال تدني المستوى الاقتصادي للمنطقة المرشحة" بسبب تجمع أعداد كبيرة من المسلمين الغرباء في محيط المسجد الموعود، أو " تغيير الطابع الأرثوذوكسي" لهذه المنطقة بسبب منظر المئذنة التي ستظهر في المكان.

جدير بالذكر أن أحاديث المسؤولين الحكوميين – من مختلف الحكومات – عن المسجد كان يأتي في كثير من الأحيان لأهداف سياسية أو شعبوية، مثل تشتيت انتباه الشعب عن مشاكل معينة أو لفت الأنظار عن إشكال داخل الحكومة أو عن سياساتها.

في تلك الفترة كان مجلس السفراء العرب في أثينا يجري مفاوضات مع الحكومات اليونانية حول المسجد، وكان الحديث يجري عن إمكانية دعم المشروع من دول خليجية. كما كان الحديث يجري عن إنشاء مسجد ومركز ثقافي إسلامي، لكن الكنيسة الأرثوذوكسية اعترضت بشدة على إنشاء مركز ثقافي إسلامي بحجة أنه قد يغير هوية البلد الدينية. ومع مرور الوقت بقي الحديث عن المسجد، فيما اختفى الحديث عن المركز الثقافي.

وفي 6 أكتوبر 2006 أعلنت ماريا ياناكو، وزيرة التربية في حكومة الديمقراطية الجديدة – يمين وسط – أول مشروع رسمي للمسجد مع تفصيلات حول لجنة إدارته وطريقة عمله.

وظهرت في المشروع نوايا الحكومة اليونانية في جعل المسجد مشروعًا يونانيًا خالصًا لا تدعمه أي دولة مسلمة، ولا يؤخذ فيه رأيها، ولو في الأمور التقنية.

استقر رأي الحكومات اليونانية أخيرًا على أن يكون مكان المسجد في ضاحية إيليوناس الصناعية، البعيدة نوعًا ما عن التجمعات السكنية، ضمن قاعدة مهجورة لإصلاح الشاحنات الثقيلة، وهي تابعة للبحرية اليونانية.

لم يخلُ الأمر من اعتراضات رغم أن المكان غير ظاهر للعابرين في المنطقة. وقام متطرفون يمينيون باحتلال المكان عدة أشهر قبل أن تطردهم منه السلطات. كما مر وقتٌ طويل قبل أن يستقر الأمر على شركة بناءٍ تتولى المشروع.

يوم 7.6.2019 قامت حكومة سيريزا اليسارية بافتتاح المسجد بحضور أعداد قليلة من الجاليات العربية والآسيوية. لكن المسجد لم يبدأ عمله لأسبابٍ غير معروفة. ثم جاءت الانتخابات بعدها بحكومة الديمقراطية الجديدة.

وجاء تاريخ 2.11.2020 حيث أعلنت السلطات أن المسجد بدأ عمله وأن أعدادًا محدودة من المسلمين أدت فيه الصلوات الخمس بسبب ظروف الحجر الصحي لمنع انتشار فيروس كورونا.

وجاء الإعلان عن بدء عمل المسجد في ظروف كانت اليونان فيها تواجه انتشارًا متزايدًا للإصابات بفيروس كورونا، وفي ظل حظر التجول إلا لضرورة. وربما كان قصد السلطات أن يكون الأمر كذلك كي لا تكون هناك ردود فعل من رافضي وجود المسجد.

بعد هذه النبذة التاريخية يمكن للمراقب أن يسجل عدة ملاحظات على المسجد وعمله:

-        الحذر الشديد الذي انتهجته الحكومات اليونانية في مسألة المسجد، إلى درجة أنها جعلته مشروعًا قريبًا إلى السرية، فلم تستشر أي جهة إسلامية بشأنه، ولو من أهل البلد الحاصلين على الجنسية اليونانية.

-        إصرار الحكومة على أن لا تسهم أي جهة إسلامية داخلية أو خارجية في بناء المسجد ولو بتبرع مالي غير مشروط. فالمكان ملكٌ للدولة اليونانية، وقد بنته السلطات من ميزانية الدولة حصرًا، ولم يُعرف بالضبط إن كانت أي جهة إسلامية أعطت رأيها في التفاصيل التقنية للمسجد.

-        الوجود الضئيل للمسلمين في إدارة المسجد. فالإدارة مكونة من سبعة أشخاص. خمسة منهم يمثلون وزاراتٍ مختلفة، إضافةً إلى بلدية أثينا التي بني المسجد في حدودها الإدارية، وهناك مسلمان: عربي وآسيوي، تمّ تعيينهما من السلطات دون أخذ رأي الجالية المسلمة كذلك. بكلامٍ أخر، لن يكون للمسلمين أي دورٍ يذكر في إدارة المسجد.

-        تدخلّ أكثر من مذهب وطائفة في المسجد. فقد ظهر منذ الأيام الأولى أن ثمة خلافًا عربيًا – آسيويًا حول إدارة المسجد. كما ظهر أن الطائفة الشيعية تسعى إلى دور في المسجد، وصولًا إلى طائفة الأحمدية التي طالبت كذلك بدور لها.

-        أعلنت السلطات أنها ستمنح المسجد لطوائف إسلامية متفرقة في مناسبات معينة، وهو ما يفتح الباب لتكهنات كثيرة بشأن كفاية المسجد لجميع الطوائف المرشحة لممارسة طقوسها فيه ومدى نجاعة هذا النهج.

-        من الناحية العملية لن يغطي المسجد حاجات آلاف المسلمين الموجودين في أثينا بسبب مساحته وبسبب البعد الجغرافي. وبالطبع لا تفكير لدى السلطات في بناء أي مسجد آخر.

-        لا يوحي منظر المسجد الخارجي بأنه مسجد. فلا مئذنة ولا قبة ولا أذان خارجي. ويبدو أن هذا مقصود كي لا يعطي أي انطباع أن الإسلام عاد إلى أثينا. كما حرصت السلطات على أن تسجل على واجهة المبنى اسم الجمهورية اليونانية ووزارة التربية ومسجد أثينا، فبدا المكان تمامًا كأنه مصلحة رسمية يونانية.

-        يبدو واضحًا أن هدف الدولة اليونانية ليس تغطية حاجة المسلمين الدينية، بل الخروج من يافطة "العاصمة الأوروبية الوحيدة الخالية من مسجد إسلامي". بكلام آخر، المسجد يغطي حاجة الدولة اليونانية إلى رفع صفة عدم التسامح مع المختلف دينًا، دون أن يغطي حاجة المسلمين الذين يحتاجون إلى عدد أكبر من أماكن العبادة لكثرة عددهم من ناحية ولتباعد أماكن سكنهم من ناحية أخرى.

يدعم ما ذهبنا إليه ما يظهر من حرص السلطات على عدم ترك آثار ثابتة للمسلمين في أثينا، من مقابر أو غيرها. فقد افتتحت السلطات مقبرة للمسلمين الغرباء عن البلد، لكنها اختارت مكانها قرب مدينة كوموتيني في منطقة طراقيا الغربية التي تبعد عن أثينا حوالي 900 كلم. ما يعني أن أي عملية دفن لأي ميت مسلم تستدعي سفرًا إلى هذه المنطقة يستمر ساعاتٍ طويلة، في رحلة تكلف حوالي 1200 حتى 1600 يورو. هذه العملية أصبحت مؤخرًا تشكل استنزافًا للجالية المسلمة، خصوصًا مع موجة اللجوء وموت مئات اللاجئين سنويًا في جزر اليونان وقسمها البري.

وسوم: العدد 907