فلسطين .. عندما تنقلب الموازين

النكبة مستمرة منذ 73 عاماً، لكنّ إحياء الشعب الفلسطيني ذكراها في هذا العام كان مختلفاً، بل يمكن القول إنّه قد حسم، وبالضربة القاضية، إحدى أهم نتائجها المتمثلة بتمزيق وحدة الشعب الفلسطيني بين أهالي الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 الذين صمدوا في ديارهم، والفلسطينيين الذين هُجّروا منها وتوزّعوا في مخيمات اللجوء، إذ أعلن الشعب الفلسطيني نفسه واحداً موحداً متشبثاً بقضيته، ومتمسّكاً بروايته التاريخية في مواجهة الرواية التوراتية الصهيونية. كما أكد على وحدة مشروعه الوطني، وأعاد توجيه البوصلة باتجاه فلسطين، كلّ فلسطين، على قاعدة وحدة الشعب والأرض والقضية، متابعاً مسيرته الجادّة والطويلة على طريق التحرير وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني كافة، بعدما أعاقتها اتفاقيات أوسلو، والمفاوضات العبثية، والتنسيق الأمني، ومحاولات الأسرلة، ووهم الحلول المرحلية، وفصل قضايا شعبنا عن بعضها.

تتالت المفاجآت، ابتداءً من هبّة باب العمود، والصمود الأسطوري لأهالي حيّ الشيخ جرّاح في وجه محاولات اقتلاعهم وتهجيرهم وإحلال المستوطنين محلهم، إلى الدفاع عن المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك، ومنع المستوطنين من اقتحامه، وفق ما خطّطوا له، بمساعدة الشرطة الإسرائيلية. كانت القدس البداية، إذ احتشد فيها عشرات الآلاف من أهلها، ومن مختلف أرجاء الضفة الغربية، وفلسطينيي الأراضي المحتلة منذ 1948 الذين شدّوا الرحال إلى الأقصى وإلى "الشيخ جرّاح"، مؤكدين وحدة موقف الشعب الفسطيني الذي عبر جميع الحواجز، وتجاوز الخطوط الخضراء والحمراء، لتعود فلسطين، رغم أنف الاحتلال، واحدة، ويعود النضال موحداً يشمل الشعب الفلسطيني كله.

كانت المفاجأة الثانية عندما أعلنت كتائب القسام انخراطها في معركة القدس، وهدّدت بقصف أهداف إسرائيلية فيها بالصواريخ، إذا استمرت الاعتداءات الصهيونية. حينها، لم يستطع بعضهم رؤية هذا المتغيّر، فمن جهة شكّكوا في إمكانية حصوله، ومن جهة أخرى اعتبروه عسكرة للحراكات الجماهيرية، ضررها أكثر من فائدتها، ولم يدركوا أنّ في ذلك تغييراً لقواعد الاشتباك، وتعزيزاً لوحدة الشعب، وإنهاءً عملياً للانقسام. كان حدس الجماهير المحتشدة في الأقصى أكثر صدقاً، حين هلّلت وكبرت ورحّبت باستجابة المقاومة، ودخولها على خط المواجهة. لم تتراجع الحراكات الجماهيرية، بل تنامت، وانفجرت الضفة الغربية، واشتعلت الأراضي المحتلة منذ 1948، وثبت أنّ لدى الشعب الفلسطيني أسلحة ووسائل نضالية مختلفة ومتعدّدة بتعدد مناطقة وظروفه تحت الاحتلال، يمكن أن يستخدمها كلّها ضمن رؤية واحدة، وسيمفونية متناغمة، لخدمة الهدف نفسه.

تمثلت المفاجأة الثالثة في التطور الكمّي والنوعي في قدرات فصائل المقاومة. يكفي القول إنّه خلال اجتياح عام 2014 الذي دام مدة 51 يوماً، أطلقت المقاومة 2500 صاروخ، في حين أنّه، حتى تاريخ كتابة هذه المقالة، في اليوم التاسع من حرب عام 2021، أطلقت المقاومة ضعفي هذا العدد، إضافة إلى التغيّر النوعي في المدى، ودقة الإصابة، والرأس المتفجر، والقدرة على تجاوز منظومة القبّة الحديدية، فضلاً عن الطائرات المسيّرة، والزوارق الموجهة عن بُعد، وصواريخ الكورنيت المضادّة للدروع، بل القدرة على تحديد ساعات القصف وأماكنه من دون الخوف من احتمالية تعطيل العدو الذي يتمتع بسيطرة جوية مطلقة، وقدرة نارية هائلة، تلك الهجمات أو إعاقتها.

ينبغي الاعتراف بأنّه منذ عام 2014، حتى عام 2021، كان هناك على الرغم من الحصار الخانق، وقلة الموارد المتاحة، من يعمل بصمت وتفانٍ على تطوير القدرات وتحسينها، غير عابئ أو مكترثٍ بما يوجه إليه من اتهامات أو انتقادات. في حين، وعلى الضفة الأخرى، كان هناك من يشغل نفسه بفرض العقوبات على قطاع غزة، وباللهاث خلف مشاريع التسوية المتوهمة. ما حدث فاجأ الجميع، خصوصاً العدو الصهيوني الذي لم يتوقع حجم الرد، وكان عاجزاً عن رصد هذا التطور، وانعكس ذلك على أسلوب مواجهته، ونضوب بنك أهدافه التي تركّزت على الأبراج السكنية، ومكاتب المؤسسات الإعلامية، وبيوت المدنيين، والبنى التحتية. ومؤكد أنّ لجان تحقيق ستُشكّل بعد انتهاء هذه الجولة، ستطاح فيها رؤوس أمنية وسياسية وعسكرية صهيونية، بسبب تقصيرها الفادح في تقدير الموقف ورصد قوى المقاومة ومواجهتها.

كانت المفاجأة الرابعة في الضفة الغربية التي انتفضت من شمالها إلى جنوبها، غير آبهةٍ بتعقيدات التنسيق الأمني، فأشعلت أكثر من مائتي نقطة اشتباك، وشارك فيها الكلُّ الفلسطيني، من شبيبة حركة فتح إلى إخوانهم في الفصائل الأخرى، فضلاً عن عمليات الطعن والدهس وإطلاق النار. على صعيد آخر، امتنعت السلطة الفلسطينية التي صمتت في الأيام الأولى عن وصف الصواريخ بالعبثية، وفضّلت السير مع التيار الجماهيري بخجل، وتوقفت أجهزة الأمن عن منع الشباب من الوصول إلى نقاط الاحتكاك إلى أجَلٍ نأمل أن يدوم. لكنّ السلطة الفلسطينية تسعى جاهدة كي تعود إلى دائرة الاهتمام الدولي الذي انصبّت جهوده في الأيام الأولى على الاتصال بمصر وقطر اللتين تمتلكان علاقات وخطوط اتصال مع غزة ومقاومتها. أنعش السلطة اتصال الرئيس الأميركي جو بايدن بالرئيس محمود عباس، والذي يهدف، في جوهره، إلى محاولة تطويق ما يجري في فلسطين، ومنع امتداده وتصاعده في الضفة الغربية، عبر تقديم الوعود بالسعي إلى عودة المسار التفاوضي، وهو ما عوّدنا عليه المجتمع الدولي الذي لا يتحرّك إلاّ عندما تكاد الأمور تخرج عن سيطرته. لكنّ هذا لن يشكل أكثر من جرعة تنفس اصطناعي مؤقتة، بعدما أجلت رئاسة السلطة الانتخابات بذريعة القدس التي كانت تواجه الاحتلال بقوتها كلها، وبعدما عصفت بها انقسامات حركة فتح، وفاجأتها المعارك الأخيرة، وقدرات المقاومة، وانتفاضة الضفة والأراضي المحتلة عام 1948.

وكانت المفاجأة الكبري في فلسطين المحتلة منذ 1948، فخزّان الغضب المتراكم منذ النكبة قد امتلأ بسياسات التهجير الداخلي، والتمييز العنصري، والحرمان من الحقوق، والأسرلة، ومحاولات طمس الهوية الوطنية، واعتبار العرب مواطنين من الدرجة الثانية، في ظلّ نظام الأبارتهايد الصهيوني، وقانون القومية اليهودي الذي يعتبر فلسطين ملكاً لليهود فحسب. انتفضت المدن المختلطة، مثل اللدّ ويافا وحيفا، كما انتفضت المدن والقرى العربية، وأكد الفلسطينيون هناك أنّهم جزء من الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية. وأعادت هذه الانتفاضة ترتيب جميع الأوراق، وكشفت عن العنصرية الصهيونية، وكانت ضربةً كبرى ضد سياسات أسرلة العرب. لقد نجح العرب الفلسطينيون في فلسطين المحتلة عام 1948 في فتح جبهةٍ كاملةٍ في الداخل الإسرائيلي لعلّها الأخطر والأكثر إيلاماً، إذ أطاحوا جميع السياسات الإسرائيلية منذ النكبة، وأنهوا ما يُعرف بالخط الأخضر الذي يفصل الضفة والقطاع عن فلسطين المحتلة، يل للمرّة الأولى منذ الإضراب الشهير عام 1936 تنخرط فلسطين كلّها من شمالها إلى جنوبها وتتحد في إضراب عام تلبية لدعوة لجنة المتابعة العربية في فلسطين المحتلة منذ 1948.

يتغير الرأي العام العالمي تحت وقع ضربات المقاومة والنضال الشعبي في كلّ بقعة من فلسطين؛ عواصم أوروبية، كما مدن أميركية، شهدت عشرات الآلاف من المتظاهرين، ولهجة الصحافة والقنوات التلفزيونية اختلفت عن السابق، وقد ترافق هذا مع تقارير منظمات أميركية، مثل هيومن رايتس ووتش، تصف النظام في إسرائيل بنظام أبارتهايد يعاقب عليه القانون الدولي، حتى الإدارة الأميركية غيّرت من لهجتها، وإن ببطء شديد، لكنّ هذا كله مرشّح للتقدم في الأيام المقبلة. أما التطبيع الرسمي العربي، فحالته لا تسر عدواً أو صديقاً. وأثبتت القضية الفلسطينية مجدّداً أنّها الرقم الصعب، وأنّها الحلقة المركزية للنضال العربي، حيث تهاوت ذرائع المطبّعين العرب الذين كانوا يختبئون وراء مزاعم إمكان التعايش وضرورته، غطاءً للتحالف العلني والمضمر مع العدو الصهيوني.

لن يفاجئنا، بعد أن يخفّ غبار المعارك، أن يخرج علينا من يقارن أرقام الخسائر وعدد الشهداء والقتلى، ليعيد تكرار نظرياته السابقة عن عدم جدوى المقاومة، فمن الواضح أنّ هذا لا علاقة له بمعيار النصر أو الهزيمة، ومن الجليّ أنّ العدو هو الذي يتراجع، وأنّ فلسطين، كلّ فلسطين، على عتبة تغييرٍ كبير، قائم على انهيار مشروع أوسلو، وتكامل نضال الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده، بجميع الوسائل المشروعة المتاحة له ضد الاستعمار الاستيطاني الإحلالي المتمثل في صورته الحديثة بنظام الأبارتهايد الصهيوني الذي بدأ يعدّ أيامه الأخيرة، فما بعد الحرب ليس كما قبلها.

وسوم: العدد 929