عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز

أ.د محمد أديب الصالح

ـ 1 ـ‏

هذا واحد من أولئك الرجال الذين قد لا نعرف عنهم الكثير... وإنه لامرؤ ـ فيما عرفنا عنه ـ قد أسلم ‏نفسه لله ... فكان سعيه دائماً لمرضاته ... وأيقن بالآخرة ... فجعل من أعماله مركباً يوصله إليها ... ومن أجل ‏هذا هانت عليه الدنيا ... وكان الحق كبيراً كبيراً في نظره ... وأصبح صاحب الكلمة المسموعة عند والده ‏خامس الخلفاء الراشدين رحمه الله ... لما أنه ينطق بلسان أهل الآخرة ... مستعلياً على كل الحطام الذي ‏يختصم فيه الناس ويقطعون أرحامهم ... وبذلك استطاع ـ أكرم الله مثواه ـ أن يكون صداعاً بالحق لا يخاف ‏في الله لومة لائم ... مطمئن النفس إلى ما عند مولاه عز وجل فهو في تطلعاته وآماله يسير على الأرض ... ‏وكأنه ليس من العاجلة الفانية في قليل ولا كثير... فشغله الشاغل أن يكون في مرضاة الله عبادة وعملاً ... حتى ‏ذكر أنه ـ بسلوكه ـ قد أثر في نهج والده من حيث العبادة ... والتخلق في العمل بأخلاق أهل الآخرة . ‏

حدث يعلى المحاربي عن بعض مشيخة أهل الشام قال : ‏

‏(كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك) ‏

ولقد كان من أحب الناس إليه رحمهما الله . وقال ابن عبد الحكم : أعان الله عمر بن عبد العزيز بثلاثة ‏أحدهم ابنه عبد الملك . توفي سنة 101 هـ قبيل وفاة أبيه .‏

ولكم كان عمر رضي الله عنه ـ وقد أدرك ما عليه ولده ـ دقيق النظرة ، متأنياً في السماع لما يقول ، ‏فتراه يقدر شجاعته في الحق قدرها وفي الوقت نفسه يعمل على حسن التوجيه والموعظة . فعن خالد بن يزيد ‏عن جعونة قال : دخل عبد الملك على أبيه عمر فقال : ‏

يا أمير المؤمنين ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقاً لم تحيه ، وباطلاً لم تمته ؟ ‏

قال : اقعد بنيّ إن آباءك وأجدادك خدعوا الناس عن الحق ، فانتهت الأمور إلي ، وقد أقبل شرها وأدبر ‏خيرها ، ولكن أليس حسبي جميلاً أن لا تطلع الشمس علي في يوم إلا أحييت فيه حقاً ، وأمت فيه باطلاً حتى ‏يأتيني الموت وأنا على ذلك .‏

ورضي الله عن عمر، فقد كان كثير الشكر لمولاه على ما أنعم بواحد من أولاده كعبد الملك فيما كان عليه ‏من صدع بالحق وحب للخير وحس مرهف في رد المظالم هذا إسماعيل بن حكيم كاتب الخليفة عمر بن عبد ‏العزيز بالمدينة والشام يقول : دخل عبد الملك على أبيه عمر فقال : ‏

أين وقع رأيك فيما ذكر لك مزاحم من رد المظالم ؟ ‏

قال : علي إنفاذه ، فرفع عمر يديه ثم قال : الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني ، ‏نعم يا بني أصلي الظهر إن شاء الله ثم أصعد المنبر فأردها على رؤوس الناس ، ‏

فقال عبد الملك : يا أمير المؤمنين من لك بالظهر، ومن لك يا أمير المؤمنين إن بقيت أن تسلم لك نيتك ‏للظهر؟ ‏

قال عمر: فقد تفرق الناس للقائلة ، ‏

فقال عبد الملك : تأمر مناديك فينادي : الصلاة جامعة حتى يجتمع الناس ،

فأمر مناديه ، فنادى ، فاجتمع الناس ، وقد جيء بسفط أو جونة فيها تلك الكتب ، وفي يد عمر جلم يقصه ‏حتى نودي بالظهر.‏

وفي رواية أنه قال : يا أبت قد أخرت أموراً كنت أحسبك لو وليت ساعة من النهار عجلتها ، لوددت أنك ‏قد فعلت ذلك ولو فارت بي وبك القدور .‏

ألا نعم الولد والوالد ... ورحم الله أفضل رحماته عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك .. روى أبو عمر ‏والحزري عن أبي عبلة أن عمر جلس يوماً للناس ، فلما انتصف النهار أصابه الكلال ومل ، فقال للناس : ‏مكانكم حتى أنصرف إليكم ، فدخل ليستريح فجاء ابنه عبد الملك ، فسأل عنه فقالوا : دخل ، فاستأذن عليه فأذن ‏له ، فلما دخل ، قال يا أمير المؤمنين ما أدخلك قال : أردت أن أستريح ساعة ، قال : أو أمنت الموت أن يأتيك ‏ورعيتك على بابك ينتظرونك ، وأنت محتجب عنهم ؟ فقام عمر من ساعته ، وخرج إلى الناس .‏

تلك هي صياغة الإسلام لأولئك الذين رسموا في تاريخنا معالم الحق ... وما أحوج أمتنا لأمثال هذه ‏النماذج من الربانيين في مخافتهم من الله ، وشعورهم بثقل الأمانة الملقاة على عواتقهم في سياسة الرعية ... ‏والنظر إلى الآخرة ويوم الحساب قبل النظر إلى أن تكون الولاية مغنماً وفرصة سانحة لكذا ... ولكذا ... ولا ‏حول ولا قوة إلا بالله ...‏

ـ 2 ـ‏

هكذا يسعد القلب بحديث هؤلاء الأبرار.. وتطرب النفس لجميل آثارهم .. ويرى كل من في قلبه ذرة من ‏غيرة على هذه الأمة أن سيرة هؤلاء الربانيين عنصر هام من عناصر التكوين والإعداد على طريق التربية ‏المحمدية علماً وعملاً إن شاء الله ...‏

ولقد أشرنا في العدد الماضي إلى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان حفياً بآراء ولده عبد الملك ، وما ‏يشير به من إسراع في إنفاذ الخير ورد المظالم ، واغتنام الحياة قبل الموت ، فربما فجأ الأجل ولم تصل الحقوق ‏إلى أصحابها بعد ، وكيف أن عمر رحمه الله قال مرة : الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ‏ديني .‏

ونرى اليوم مع هذه الكلمات كلام عمر رضي الله عنه في ولده حين وافته المنية إذ كل نفس ذائقة الموت ‏‏... حيث نرى كريم تقدير الوالد للولد . على أساس من مقاييس الخير والدعاء له بالمغفرة والرحمة ، كما نرى ‏كمال الرضا بقضاء الله وقدره ، وحسن التسليم لأمره فيما أخذ وفيما أعطى إذ أنه المحمود على كل حال .‏

قال زياد بن أبي حسان ـ وقد شهد عمر بن عبد العزيز حيث دفن ابنه عبد الملك لما دفنه وسوى عليه ‏قبره بالأرض وضعوا عنده خشبتين من زيتون إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه ، ثم جعل قبره بينه ‏وبين القبلة واستوى قائماً ، وأحاط به الناس ، فقال : ‏

‏(رحمك الله يا بني لقد كنت باراً بأبيك ، والله ما زلت منذ وهبك الله لي مسروراً بك ، ولا والله ما كنت قط ‏أشد بك سروراً ، ولا أرجى بحظي من الله فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه ، فرحمك الله ‏وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك ، ورحم الله كل شافع لك بخير من شاهد أو غائب . رضينا بقضاء الله ، ‏وسلمنا لأمر الله ، والحمد لله رب العالمين) ثم انصرف .‏

وعن عبد الجبار العطار حدثنا حزم قال : بلغنا أن عمر كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن في شأن ابنه ‏عبد الملك حين توفي : ‏

‏(أما بعد : فإن الله تبارك اسمه وتعالى ذكره ، كتب على خلقه حين خلقهم الموت ، وجعل مصيرهم إليه ، ‏فقال فيما أنزله من كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه ، وأشهد ملائكته على حقه ، أنه يرث الأرض ومن عليها ‏وإليه يرجعون . ثم قال لنبيه عليه السلام : [وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون] ثم قال : ‏‏[منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى] فالموت سبيل الناس في الدنيا ، لم يكتب الله لمحسن ولا ‏لمسيء فيها خلداً ، ولم يرض ما أعجب أهلها ثواباً لأهل طاعته ، ولم يرض ببلائها نقمة لأهل معصيته ، فكل ‏شيء منها أعجب أهلها ، أو كرهوا منه شيئاً متروك ، لذلك خلقت حين خلقت ، ولذلك سكنت منذ سكنت ، ليبلو ‏الله فيها عباده أيهم أحسن عملاً ، فمن قدم عند خروجه من الدنيا إلى أهل طاعته ورضوانه من أنبيائه وأئمة ‏الهدى الذين أمر الله نبيه بهداهم .. خالد دار المقامة من فضله ، لا يمسه فيها نصب ، ولا يمسه فيها لغوب . ‏ومن كانت مفارقته الدنيا إلى غيرهم وغير منازلهم ، فقد قابل الشر، وأقام على ما لا قبل له به . أسأل الله ‏برحمته أن يبقينا ما أبقانا في الدنيا‎ ‎مطيعين لأمره ، متبعين لكتابه ، وجعلنا إذا خرجنا من الدنيا إلى نبينا ومن ‏أمرنا أن نقتدي بهداه من المصطفين الأخيار، وأسأله برحمته أن يقينا أعمال السوء في الدنيا والسيئات يوم ‏القيامة .‏

ثم إن عبد الملك بن أمير المؤمنين كان عبداً من عباد الله أحسن الله إليه في نفسه ، وأحسن إلى أبيه فيه ، ‏أعاشه الله ما أحب أن يعيشه ، ثم قبضه إليه حين أحب أن يقبضه ، وهو فيما علمت بالموت مغتبط ، يرجو فيه ‏من الله رجاء حسناً ، فأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله ، فإن خلاف ذلك لا ‏يصلح في بلائه عندي وإحسانه إلي ، ونعمته علي ، وقد قلت فيما كان من سبيله والحمد لله ، ما رجوت به ‏ثواب الله وموعده الصادق من المغفرة ؛ إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثم لم أجد والحمد لله بعده في نفسي خيراً من ‏رضى بقضاء الله ، واحتساب لما كان من المعصية ، فحمداً لله على ما مضى وعلى ما بقي ، وعلى كل حال ‏من أمر الدنيا والآخرة .‏

أحببت أن أكتب ‏‎ ‎إليك بذلك وأعلمك من قضاء الله ، فلا أعلم ما عليه في شيء من قبلك ، ولا اجتمع على ‏ذلك أحد من الناس ، ولا رخصت فيه لقريب من الناس ولا لبعيد ، واكفني ذلك بكفاية الله ، ولا ألومنك فيه إن ‏شاء الله والسلام عليك .‏

مرة ثانية وثالثة ... وبلا حدود ... رحم الله عبد الملك ورحم والده عمر بن عبد العزيز الذي كان ربانياً ‏في ساعات الحكم والسلطة ... في ساعات العسر واليسر... عند النعمة تفيض عليه .. وعند المصيبة تصيبه .. ‏ويا نعم ما علّم هؤلاء الرجال ... وكانوا قدوة بأقوالهم وأفعالهم وهم على إرث النبوة . ‏

والخير كل الخير في العمل على الانتفاع بهذا النهج الذي هو على ذلك الإرث العظيم إرث النبوة . والله ‏يتولى الصالحين .‏

وسوم: العدد 929