الفقه الحي والفقه الميت

أتدرون لماذا ما زال يوجد في فضائنا الإسلامي خطباء وشيوخ لا يخرج حديثهم عن العناية بالأشكال والطهارة والسواك وعذاب القبر؟ ببساطة لأن هناك جمهورا يحب هذه الموضوعات ويطلب المزيد منها، ومن هؤلاء المتلقين يوجد مثقفون مع الأسف، أي حملة شهادات جامعية في الشريعة وغيرها من العلوم...إلى درجة أن يعرف الواحد منا طبيبا تدور حياتُه الدينية والفكرية بين السواك وكحل العيون والثوب القصير ومراقبة الألفاظ التي يستعملها المسلمون في أحاديثهم لأنها في الغالب – في نظره – ألفاظ كفرية أو بدعية !!! هذا بينما يقتضي تكوينه أن يكون صاحب عقلية علمية وعقلانية إيمانية ومستوى رفيع في التفكير والنظر إلى أمور الدين ... هكذا انتشرت الأمية الفكرية باسم دين الله، وانتشر الفقه الميت الذي يحصر الدين في شؤون الآخرة ويبعده عن الدنيا، يحصره في الشكليات والأمور الخلافية، ويُبعده عن ميدان التدافع المجتمعي في الداخل والتدافع الحضاري في الخارج، وينكر الحقائق العلمية مثل كروية الأرض والصعود إلى القمر وفيروس كورونا، ينكر كل هذا باسم القرآن والسنة !!!هذا ما يرد على ألسنة شيوخ أعياهم الجمع بين الحقائق الشرعية والحقائق العلمية لافتقارهم إلى بسطة في المعارف الكونية وإلى نظر ثاقب في نصوص الوحييْن...هذا هو الفقه الميّت الذي يهوي بالمسلمين إلى منحدر الخلافيات ويغرقهم في الجزئيات على حساب ثقافة الاجماع ومجال الكليات والمقاصد.

وإذا كان لما سميته "الفقه الميت" جمهور يغلب عليه الجمود والسلبية فإنه ساهم في تنفير قطاع من المسلمين منه ومن هذا النوع من التديّن لأن هؤلاء المسلمين يرغبون في أن يعيشوا دينهم في تناغم مع زمانهم وواقعهم، ليجمعوا بين التقوى والعلم والحضارة والتمدن، هؤلاء يتوقون إلى الفقه الحي.

الفقه الحي منظومة ثقافية علمية روحية نفسية منبثقة من القرآن والسنة يتناول خطابها وأدبياتها الخلاص الأخروي والرقي الدنيوي، تشيع الأمل لا اليأس، تنشر الجمال وتحارب القبح، تشجع تلقي العلم مهما كان مصدره، بينما يزعم فقه الموت أن "الغرب يضلل المسلمين بعلومه ويكذب على البشرية، ولا يملك حقائق علمية" !!! الفقه الحي يتكلم عن العبادة و الحضارة، عن الخلافة والعمارة، عن الإنسان الإيجابي الذي يجمع بين الربانية والإنسانية، ويصبّ فعله في الفعل الإلهي لتنبثق من ذلك الحياة في سبيل الله في أبهى صورها وأجمل قسماتها...هذا بينما كل حديث الفقه الميت عن كيفية تكفين الموتى ودفنهم، وكم ساءني خبر قيام طلبة جامعة إسلامية بزيارة علمية وتطبيقية إلى المقبرة لتعلّم كيفية دفن الميّت، كأن الأمر عملية عويصة في حاجة إلى دراسات معمقة وتطبيقات عسيرة، في حين أنه عملية غاية في البساطة يحسنها جميع المسلمين، تتلخص في إدخال الجثمان حفرة على جنبه الأيمن...في نفس الأثناء قام طلبة جامعة أمريكية بزيارة إلى "ناسا" للوقوف على آخر تقنيات غزو الفضاء، وهؤلاء ليسوا طلبة في الفلك بل في جميع التخصصات الأدبية والتقنية، همّهم الاكتشاف والاستزادة من معارف جديدة حتى في غير تخصصاتهم، والمسلمون أولى  منهم بذلك.

الفقه الحي يحتاج إلى فقيه حي، والفقيه حقا يحبب المسلمين في الحرية والعدل والكرامة ومعالي الأمور، يدرّس هذا المعاني مسنَدة إلى محكمات الشرع كما يدرّس أبواب الفقه والتفسير والحديث والسيرة بل  يستنبطها من هذه الأبواب ويدلل عليها ويجعل منها ثقافة تستلهم التجربة الإسلامية الأولى وتلامس الواقع للاستعلاء الشعوري عليه والعمل على تغييره وفق سنن الله في الكون والإجتماع...هذا الفقيه يعرف القرآن والسنة، ولديه معلومات كافية في الفيزيا والفلك وعلم النفس والسياسة والأدب والفن، ليصنع للناس الحياة الجميلة ويدلّهم على دروبها ويوضح لهم قسماتها، بخلاف صاحب الفقه الميّت الذي يكبّل نفسه وجمهوره بقيود الجمود والسلبية، ويحننطهم في قوالب التكرار والرتابة والماضي، ويتكلم وكأن بيديه مفاتيح الجنة والنار، هو وحده الذي يفهم الدين، وغيرُه على ضلال...هذا هو الفرق... وسنبقى متخلفين دينيا وحضاريا ما دام الفقه الميت شائعا فينا باسْم الفهم الخاطئ للإسلام وخاصة للسنة النبوية التي اختزلها في المندوبات والفروع البسيطة، بينما هي بناء متكامل لصلاح الدنيا والآخرة.

إن الفقه الحيّ ينطلق من فرضية أن الإسلام دين حياة، حياة في سبيل الله، قبل الموت في سبيل الله – الذي لا يُغفله الفقه الحي لكن يضعه في سياقه وملابساته الشرعية والواقعية – فيضع معالم الحياة الجميلة، ويربط بين الشباب والحياة (لا بين الشباب والرياضة كما هو شأن الناس الآن)، ويعمل على صناعة إنسان التقوى والتغيير والنهضة.

هذا الفقه الحي لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا إذا بدأ بحسم معادلات معرفية وسلوكية في حياتنا الدينية والفكرية، ما زالت تؤرقنا و تمنعنا من التجديد الديني والرقي الدنيوي، مثل: ثنائيات الوحي والعقل، الدنيا والآخرة، عالم الغيب وعالم الشهادة، تخيير الإنسان وتسييره، الشكل والمضمون... فالأمم المتقدمة حسمت هذه المعادلات بشكل يناسب ثقافتنا ومنظومتها الفكرية، أما نحن فما زالت – على قِدمها – تشكل مادة للفرقة والنزاع، وللتأهب والتراجع.

وبحسم هذه المعادلات الجوهرية يستطيع الفقه الحي أن يخوض بجدارة في أنواع جديدة من الفقه التي غفلنا عنها بسبب ثقافة الترديد، مثل تلك المعاصي الجماعية التي ألفناها فكانت سببا في سوء تعاملنا مع نصوص الوحي وبالتالي في حسن تعاملنا مع الواقع ومع محيطنا الإنساني، مثل: التخلف والضعف والمذلة والهوان، ذهاب معاني الأخوة الإيمانية والمحبة بين المسلمين وانتشار مظاهر الفرقة والنزاع، تنحية شرع الله من مجالات التشريع والسياسة والتوجيه المجتمعي...فهذه معاص حقيقية أخطر من المعاصي الفردية، ومعها كبائر وأكبر كبائر تضعضع المجتمع المسلم وتجذبه إلى مزيد من التقهقر، مثل: الاستبداد السياسي وتزوير الانتخابات وإهدار حقوق الانسان والتضييق التعسفي على الحريات.

هذه بعض مظاهر الفرق بين الفقه الحي والفقه الميّت، وستبدأ نهضتنا حين نعتبر أن الإسلام ليس كهنوتا ولا مجرد أداء آلي، بل هوعبودية لله، أخلاق رفيعة، علم غزير، كفاح من أجل الحرية، رفضٌ للاستبداد والظلم، نصرة للمستضعفين، جهاد مدني، حوار مع الجميع...أي هو حياة.

وسوم: العدد 935