سَجَايَا السُّجود

 (عَلَقُ) الحضارة:

من المعلوم أن سورة (العلق) هي أول سور القرآن نزولًا، ولأن القرآن وضع الأسس لخير أمة أُخرجت للناس، فإن هذه السورة تمثل، لمن تدبر معانيها، مرحلة (العَلق) لهذه الأمة.

ومن المؤكد أن (علَق) الحضارة هو الإنسان الذي يقترب من ربه بجوانحه قدر مستطاعه، ولا سيما العقل والقلب، اللذين يستجلب بهما المعرفة والقدرة والقوة من ربه، وبهما يصير  الإنسان كل شيء وبدونهما لا شيء، ولهذا فقد احتوت السورة على أمرين لا ثالث لهما، الأول: القراءة وقد افتتحت به السورة، والآخر السجود وقد اختتمت به السورة.

وما بين القراءة الشاملة لآيات الله والسجود الكامل بين يدي المعبود، يتبوأ المؤمن مقام الانكسار بين يدي خالقه، ليصبح هذا الانكسار مطيته لاعتلاء مقام التكريم بين سائر الكائنات الكونية.

 السجود طريق الصعود:

يمثل السجود أمام الله العزيز الكريم عين العزة والكرامة، لأن السجود يطوي المسافات بين عجز الإنسان وقدرة خالقه، بين العلم الإلهي المطلق والجهل البشري المطبق، ويجتاز كل مانع ذاتي أو خارجي يقف أمام اقتراب المخلوق من خالقه، إذ يستند الساجد بضعفه إلى القوي المتين، ويستجلب بفقره عطاء الغني الكريم، ويستمد بدعائه الهداية والإبانة من صاحب الكمال المطلق، ويأخذ منه التوفيق والإعانة، حيث ينظر مولاه إليه بعين الرحمة فيفيض عليه برضاه، ويجود عليه بعفوه ومغفرته، وبسجود المؤمن في محراب خالقه فإنه يُصلح عجزه بقدرته، ويجبر كسره بلطفه، ويجعله عزيزاً كريماً، لا يذل أمام حاجة، ولا يهون أمام ضعف، ومن ثم فإنه لا يطأطئ رأسه  للمتكبرين ولا يستكين أمام الطغاة.

ولأن السجود كرامة فقد لفت الله نظر محمد صلى الله عليه وسلم إلى ظاهرة السجود الكوني، حيث يسجد لله من في السموات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس، وختم الآية بقوله: {ومن يُهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18].

 تساؤل:

إذا كان الله قد كرم آدم على سائر الكائنات بما فيها الجن والملائكة رغم سبقهم للإنسان، وأمر الملائكة بالسجود التكريمي له مع أنها مخلوقات نورانية معتادة على الطاعة المحضة، كما قال تعالى في وصفهم: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}، أفلا يستحق سبحانه أن نسجد له شكراً على هذه النعمة واستبقاءً لهذا التكريم، واستمداداً لتلك العزة?

 السجود العملي:

إن مرابطة المسلم في محراب الصلاة بعلم، وقُنُوتَه بين يدي الله بصدق، وسجوده أمام عزة ربه بذل، لهو دورةٌ تدريبية على السجود العملي لله في محراب الحياة، بالحرص على الطاعة الدائمة والالتزام الصارم، وبالخوف من المخالفة والخشية من المعصية.

إن السجود الدائم ترويض للنفوس المتمردة وتهذيب للطبائع الترابية، ولهذا قال تعالى: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} [النحل: 45]، والمسلم لا يمكن أن يأنف عن السجود لله بمعناه المادي المتبادر إلى الذهن، لكن بعض المنتسبين للإسلام، كما نرى اليوم، قد يستكبرون عن السجود لله في محراب الحياة، برفض تطبيق منهج الله في السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام والفن والأدب أو بعضها، ويؤيد هذا المعنى الآية التي تلي الآية السابقة، قال تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} هكذا بإطلاق، وليس في محراب الصلاة فقط، ثم جاءت الآية الثالثة تقول: {وقال الله لا تتخذوا إلهين إثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} [النحل:51]، وذلك كما نرى اليوم مسلمين يعبدون الله في محراب الصلاة، لكنهم يعبدون غيره في محاريب الاقتصاد والسياسة والثقافة، ثم جاءت الآية 53 لتؤكد أن الدين كله لله، أي مصدر التوجيه في محراب الحياة: {وله ما في السموات والأرض وله الدين وَاصِباً أفغير الله تتقون} والواصب هو الكامل، أي كما أن الله معبود في محراب الصلاة، ينبغي أن يكون معبوداً في محاريب هذه الحياة، بالسجود السياسي والسجود الاقتصادي والسجود الثقافي والسجود الاجتماعي.

وبهذا يكون السجود قنطرة العبور بالمسلم من محراب الصلاة إلى محاريب الحياة كافة.

وسوم: العدد 939