تعليم العقل السياسي

اعتُبر كتاب "الأمير" لمكيافيللي لصراحته وواقعيته المباشرة محطة في تاريخ تعليم العقل السياسي. أنا هنا لا أحاكم الكتاب من الوجهة الأخلاقية، وإنما أشير إلى أهميته الفكرية في سياقه التاريخي..

ما تعلمناه في المساجد على أيدي فقهاء لم يعافسوا الحياة الواقعية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أورث أجيالا من المسلمين عقلا مثاليا محضا. وهذا ما تعاني منه هذه الأجيال اليوم، وبدلا من المطالبة بتعليم العقل الإسلامي العملي الواقعي؛ ينادي البعض كنوع من أنواع الفرار من تبعات الواقع إلى ما يسمونه رواغا "فصل الدعوي عن السياسي" ليبقى ثوب الدعوي بزعمهم أبيض.. ربما كانت المشكلة في طبيعة اللون الأبيض.

كانت هناك فرصة من تعليم السيرة النبوية أن يقترب الجيل المسلم من الممارسة الواقعية قليلا، فيتعلم الكر والفر العقلي، والملاينة وليس فقط المكاسرة ، وحمل السلم بحسب الطريق، وليس دائما بالعرض، وتعليم الجيل أيضا" فقه اللحظة " "وفقه الموقف" وليس دائما فقها مستداما يطبق على طريقة توريشللي في حساب الضغط الجوي؛ ولكن الإسقاط المثالي للسيرة النبوية جاء مخيبا للآمال على أقلام الكثيرين من هؤلاء..

عمليا في الحضارة الإسلامية تم التمييز بين المحدثين والفقهاء، ومع أن الإمام البخاري عنون لأبواب صحيحه عناوين فقهية إلا انه بقي إمامَ المحدثين غير معدود في الفقهاء، بل لقد عد كثير من علماء الأمة الإمام أحمد رحمه الله في المحدثين ولم يعدوه في الفقهاء.

ومع ذلك فقد تعرض العقلي الفقهي العملي الذي مثله الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي وكثير من أتباعهم إلى عملية تحنيط تاريخية عاد فيها "العقل الفقهي" يتعامل مع نصوص ولا يتعامل مع واقع يعتبر " عمل أهل المدينة" مرجعا ، كما يعتبر "المعروف" المجتمعي مرجعا مادام في بحبوحة الخيارات الشرعية .. ثم وبظهور النفط غلب العقل السلفي على الناس، في وقت كانت الأمة أحوج ما تكون إلى فقه عملي يخالط الواقع ويعافسه ويستخرج للناس اللبن السائغ من بين الفرث والدم.

أتحدث حتى الآن عن العقل المثالي عند من يسمون " التيار الإسلامي" ولكنه عند أجيال التيارات الأخرى قادتها وأفرادها ليس أقل شأنا ..

لا أنكر أنه ظهر بين ظهراني السوريين قادة حقيقيون يملكون حظا أو حظوظا من العقل العملي السياسي، ولكن دور هؤلاء ظل يتحرك تحت وطأة العصا الغليظة، التي يمسك بها أصحاب العقل المثالي والمعايير المثالية..

عندما تشعر ، ولعلك كثيرا ما تشعر ، أن في فمك كلاما يجب أن يًقال لأنه في السياق الواقعي هو الصحيح أو الأصح، ثم يمنعك من طرحه خوفُ سوء الفهم، وسوء التقدير، وسوء التوظيف، فإن هذا الشعور هو ما أردت أن أعبر عنه ولعلي ما نجحت!!

المشكلة الأكبر أن مدارس التلقين المثالي لا تزال في عالمنا تصقل وتلمع ..

يكتب أحدهم بالأمس كلاما لا أستطيع أن أعترض عليه يكتب فيتلقى ركاما من التأييدات " لقد نجح الرئيس أردوغان قد نجح لأنه يقيم الصلاة" وها أنا أكتبها وأخاف من تبعة كتابتها!! ويحي أفي كل هؤلاء الصالحين من السوريين لم يكن رجل يقيم الصلاة..!!

حين أتأمل أن الحكمة من صلح الحديبية غابت عن مثل سيدنا عمر أقول، حنانيك يا رب.

وأعود إلى قومي وأدخل في غمارهم وأنادي

" الموت ولا المذلة" ولعلي أعجب ولعلكم تعجبون...!!

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 941