دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين 1-7

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين "1"

بعيداً عن الجدل القائم حول جنس وهوية حركة طالبان، وما إذا كانت حركةً إرهابية أم جهادية، أو حركة ظلامية أم ثورية، أو أنها حركة منغلقة أم منفتحة، أو أنها جماعاتٌ مقاتلةٌ أم حركةٌ ثوريةٌ، وما إذا كانت ستعود إلى ماضيها وعهدها القديم، وسترجع إلى سيرتها الأولى وشكلها الأول، الذي كان عنيفاً متطرفاً، وقاعدياً منحرفاً، ومتشدداً معزولاً، ومرفوضاً مكروهاً.

أو أنها ستغدو حركة سياسية ثورية بثوبٍ جديدٍ وفكرٍ مختلفٍ، تتجاوز فيه عقد الماضي وشبهات التاريخ، وتقبل بالحداثة والعصرية، وتؤمن بالديمقراطية والتعددية، وتعترف بحقوق الإنسان عامةً والمرأة خاصةً، وتدرك أنها لا تعيش في جزيرةٍ نائيةٍ ولا في عالمٍ مستقل، ولا وحيدةً في كوكبٍ لا يعيش فيه غيرها، وإنما هي جزءٌ من العالم تتأثر به ويؤثر فيها، فتكون مرنةً وتتخلى عن جمودها، وتلتزم القانون الدولي وتعترف به، وتحفظ أمن شعبها وتراعي أمن وسلام جيرانها.

علينا أن نتخلى عن هذا الجدل البيزنطي العقيم، الذي أنسانا الجوانب الإيجابية في التجربة الأفغانية الجديدة، وحرف أنظارنا عن الدروس والعبر التي يمكن أن نستقيها من تجربتهم، وأن نستفيد منها ومن مسيرتهم، علماً أن الدروس المستفادة سلبية وإيجابية، فكما أن فيها الكثير من الجوانب الحسنة التي نأمل أن نستفيد منها ونتعلم، فإن فيها جوانب سلبية ومظاهر سيئة نتمنى أن نتجنبها ونبتعد عنها، وهي الصورة الظاهرية لهم، والفكرة القديمة المأخوذة عنهم، التي يتناقلها الكتاب بسطحية ويتحدث فيها العامة بجهالةٍ.

لكن ينبغي ألا تكون نظرتنا إليهم نظرةً أحاديةً سوداويةً، لا ترى إلا السيئ، ولا تقيم إلا السلبي، ولا تحكم عليها إلا بماضيها، ولا تعترف بالجديد لديها أو بالتطور فيها، فحركة طالبان ليست هي الجهاد الأفغاني القديم وإن كانت امتداداً له وفرعاً عن أصله، ولكنها غدت على مدى العشرين عاماً الأخيرة التي أقصيت فيها عن الحكم وأزيحت عن السلطة، حركةً ثوريةً، تسعى للتحرر من الاستعمار الأمريكي والتخلص منه، وتريد الاستقلال ببلادها وتحرير سلطاتها الوطنية من التبعية للغرب عموماً وللولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.

ولعلها تعلمت الكثير واستفادت من تجربة الإقصاء ومحنة المواجهة، كما لا أستبعد أبداً أن تكون قد طُوِّعت ورُوِّضَت، وهُجِّنت وبُدِّلت، سواء خلال سني الاعتقال الطويلة لبعض قادتها في معتقل غوانتانامو، أو من خلال جولات المفاوضات الطويلة التي خاضتها في الدوحة مع الجانب الأمريكي بوساطةٍ قطريةٍ، كما لا أستثني الرعاية القطرية لقيادتها واستضافتها الكريمة لهم، وسخاءها معهم وتسهيلها لوجودهم وحركتهم في قطر، فضلاً عن رعاية مؤتمراتها وحواراتها الداخلية ولقاءات هيئة الوساطة معهم، التي ترأسها مرشح الرئاسة السابق عبد الله عبد الله، مما يكون قد أثر على سياستها فغيرها.

ربما نحن الفلسطينيين تحديداً، وقوى المقاومة العربية عموماً، في حاجةٍ ماسةٍ لدراسة هذه التجربة الحديثة، فهي لا تقل عن التجارب القديمة التي استفدنا منها، الفيتنامية والجزائرية وتجارب دول أمريكا اللاتينية وغيرها، كونها التجربة الأحدث والأكثر غنىً، التي تمثل قمة النهم الاستعماري الغربي الحديث المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تتردد في استخدام أكثر أسلحتها فتكاً وتطوراً، بما فيها قنبلة جهنم التي استخدمتها في أفغانستان أكثر من مرة، ورغم ذلك فقد انسحبت من أفغانستان، وأنهت وجودها فيه، بغض النظر عن الشكل الذي تم فيه، أو حقيقة الاتفاقيات السرية التي أفضت إلى هذه النتيجة.

ولعل الاهتمام الاسرائيلي الكبير بالتطورات الأخيرة في أفغانستان، الذي بدا عبر تصريحات كبار مسؤوليه السياسيين والعسكريين، وطغا على إعلامهم المحلي ووسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن عديد الندوات والمحاضرات التي نظمتها مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية الإسرائيلية، يدفعنا للتساؤل عن أسباب اهتمامهم ودوافع خوفهم وقلقهم، رغم أن أفغانستان بعيدة عنهم، ولا تؤثر في الصراع عليهم، وقد تفيدهم سمعة طالبان السيئة وتاريخها المشوه في تحسين صورتهم، وضمان تفهم المجتمع الدولي لسياساتهم.

إلا أن هناك جوانب أخرى تقلقهم وتخيفهم، لجهة إعادة التموضع الأمريكي في المنطقة، والسياسات الجديدة التي تنتهجها الإدارة الأمريكية، التي لا يبدو عليها التمسك بالحلفاء والحرص على الأصدقاء، بل يطغى عليها حماية مصالحها، والدفاع عن مكتسباتها، وضمان أمن وسلامة جنودها، وعدم توريطهم في حروبٍ بعيدةٍ عن بلادهم، يدافعون فيها عن غيرهم، ويضحون فيها نيابة عن أصحابها الأصليين.

لهذا ينبغي التوقف ملياً عند التجربة الأفغانية "طالبان" الجديدة، ودراستها بتأنٍ وتمعنٍ شديدين، ومراقبة التطورات والمستجدات اللاحقة، علماً أن الصورة النهاية لأفغانستان، ولما ستبدو عليها مستقبلاً، لن تظهر بسهولة خلال الأشهر القليلة القادمة، إذ يتطلب وضوح الصورة واستقرار الأوضاع فترة زمنية غير قصيرة، فيها تكشف طالبان عن سياستها الجديدة، وتميط اللثام عن مفاهيمها الخاصة في التعامل مع المواطن الأفغاني، رجلاً وطفلاً وامرأة، فضلاً عن المقيمين والأجانب، والإعلاميين والسفارات والبعثات الدولية، التي من خلالها تظهر السياسة الدولية تجاه أفغانستان، سواء لجهة الاعتراف والتعاون، أو رفضها وإنكارها، وحصارها والتضييق عليها، وذلك تبعاً لسياستها التي ستكون محل مراقبة ومتابعة شديدة.

************************

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين "2"

الثقة واليقين والثباتُ والصمودُ

للوصول إلى النصر المنشود وتحقيق الأمل المعقود والحلم الموعود، ينبغي ألا ينتاب الحركات الثورية يأسٌ أو إحباطٌ، ولا يعتريها شكٌ أو تردد، أو يستبد بها ضعفٌ وخورُ، أو يسكنها الجبنُ والعجزُ، مهما كانت الصعاب أو التحديات، وأياً تكن الفروقات والاختلافات، فلا تشعر بالخيبة بسبب اختلال موازين القوى وتفوق العدو واستعلائه، وقوته وجبروته، فهذا هو بداية طريق النصر وأساس الظفر، وإلا فلا غلبة لمتردد ولا نصر لضعيفٍ عاجزٍ، ولا كسب أو فوز لمرتعشٍ خائفٍ، وهذا ما يحدثنا به التاريخ القديم وملاحم حركات التحرر في القرن المنصرم، الذين انتزعوا النصر من الأقوياء، وأرغموا المحتلين على الانكفاء والجلاء، ولملمة الجراح وجمع الموتى وتهيئة الأكفان.

وليس أقوى ولا أعتى بين دول العالم كله في العصر الحديث من الولايات المتحدة الأمريكية، فهي رأس الإمبريالية العالمية، وسيدة الرأسمالية المتوحشة، ورائدة الاستعمار الجديد، الخشن بقوة السلاح وبطش التدمير، والناعم بخبث الحصار وشدة التجويع، والتي لم تتأخر يوماً على مدى عشرين عاماً متواصلة، في استخدام أقصى ما لديها من قوةٍ مدمرةٍ في قصف الأفغان، مدناً وجبالاً، بيوتاً ومدارس، شوارع وأسواق، مدنيين وعسكريين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، ومقاتلين في الميدان ومتطوعين في المراكز والمخيمات، ولعلها قتلت من المدنيين أضعاف المقاتلين، وأضرت بالشعب الأفغاني أكثر مما أضرت ببنية المقاتلين وقدراتهم.

ظن كثيرٌ من المراقبين والمتابعين، بعد أن شكلت الولايات المتحدة الأمريكية عام 2001 أكبر تحالفٍ دوليٍ لحرب طالبان وإسقاط نظامها وتفكيك إمارتها، وضمت إليها دولاً لا تقل عنها شراسةً ووحشيةٍ، بالنظر إلى تاريخها الاستعماري وماضيها العسكري كفرنسا وبريطانيا وأستراليا وغيرها، أن الزمن لن يعود إلى الوراء أبداً، وأن حركة طالبان لن تنهض من كبوتها، ولن تستفيق من الضربة التي وجهت إليها، وأن زمانها الذي حكمت فيه وسيطرت قد ولى إلى الأبد، فقد ضربها التحالف الدولي بعنفٍ مطلقٍ وقوةٍ مفرطةٍ، ثأراً وانتقاماً وكياً لوعيهم، لئلا يفكروا بالعودة إلى ما كانوا عليه، وأظهرت في عدوانها عليهم غطرسةً وغروراً، واستكباراً وعلواً، وظنت أنها لن تشبه السابقين أمثالها، وأن ما أصاب الإنجليز والاتحاد السوفيتي لن يصيبها.

منيت حركة طالبان والمؤيدون لها على مدى العشرين عاماً الماضية، بآلاف القتلى ومثلهم من الجرحى والمعتقلين، وتشتت في أطراف الأرض وتمزقت، ولجأت إلى الجبال والكهوف والوديان، وحرمت من كل وسائل التواصل والتنسيق، وفتحت لها السلطة الأفغانية الجديدة عشرات السجون والمعتقلات، زجت فيها قادتهم ومقاتليهم، وأنشأت لها الإدارة الأمريكية معتقلاً خاصاً في غوانتانامو، ليكون منفىً لقادتها وعزلاً لعناصرها، وعقاباً وجزاءً لهم على قتالها.

وزادت خسائر الحركة أكثر بانفضاض الشعب من حولهم، وتخلي الناس عنهم، فقد أساؤوا سياستهم، وأخطأوا في التعامل معهم، إذ ضيقوا عليهم وتشددوا في تطبيق الشريعة "التي يرونها" عليهم، فضاق بهم الشعب ذرعاً، ونأى بنفسه عنهم، وتعامل بعضه مع الأمريكيين ودول التحالف ضدهم، كرهاً فيهم وخوفاً من عودتهم.

لكن حركة طالبان، التي راجعت سيرتها، وعدلت منهجها، واستفادت من أخطائها، وتخلت عن تشددها، وبنت علاقات حسن جوارٍ مع جيرانها، وأرسلت رسائل إيجابية إلى كل من تظن أنه مؤمنٌ بها وضنينٌ عليها، استطاعت بعد أن أدركت أخطاءها وصححتها، وعرفت اعوجاجها وقومته، أن تعيد  بناء صفوفها بثقةٍ ويقينٍ، وعزمٍ ومضاءٍ أقلق الأمريكيين وأرعبهم، ودفعهم خلال أكثر من إدارةٍ إلى التفكير الجاد في الخروج من أفغانستان، والتخلي عن أحلامهم فيها، وتسليمها إلى أهلها بعد أن رعت انتخاباتهم وشكلت سلطتهم، ودربت جيشهم وأهلت مؤسساتهم، على أمل أن تواصل السلطة "العميلة" ما بدأت، وأن تكون أمينةً على الأهداف التي سعت إليها وضحت من أجلها.

واصلت حركة طالبان قتالها، رغم فداحة الخسائر وفارق القدرات، وأصرت على مقاومتها، وبدأت تجني حصاد تغيير سياستها وتبدل أفكارها، فقد عقدت ندوات ومؤتمرات، واستضافت شخصياتٍ وخبراء، واستمعت إلى أصدقاء وحلفاء، ونسجت علاقاتٍ مع الصين وإيران، ومع العرب والهند وباكستان، ما حقق لها التغيير المنشود، والشكل الجديد الذي يُرجَى أن يكون مختلفاً، فالتحق بها وانضوى تحت صفوفها الكثير من الأفغان الذين يناوئونهم ويخاصمونهم، ويخافون منهم ولا يطمئنون إليهم، واستطاعت رغم ضراوة الحرب وشدة العدوان، وعنف وغطرسة الأمريكان، أن تحقق انتصاراتٍ عديدة في أكثر من ولايةٍ ومدينةٍ، وسارت فيها بثباتٍ ويقينٍ سير السكين في الزبد الطري، فسقطت في أيديها ووالتها، ورحبت بها وأيدتها.

لست فيما أكتب مدَّاحاً لحركة طالبان ولا مؤيداً لها أو داعٍ إليها، ولكنني كما كنت شغوفاً بدراسة تجارب الفيتناميين الذين حرقت بيوتهم ودمرت بلداتهم، والجزائريين الذين انساح دمهم في الشوارع وجرى سيولاً لكثرة الشهداء، فإنني أرى أن حركة طالبان قد مضت على نهجهم ونجحت، وسارت على دربهم ووصلت، فما بالنا نحن الفلسطينيين لا نكون مثلهم، ولا نتشبه بهم، ونرفض أن نستفيد من تجربتهم، فلا نخضع لعدونا ونخنع له بحجة اختلال موازين القوى وتغير معادلات الصراع، فصاحب الحق هو الأقوى، والمقاتل في الميدان هو الأصدق، والثابت على المبادئ هو الأقدر، والمضحي في سبيل حقوقه هو الأجدر بالنصر والأحق بالفوز.  

************************

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين "3"

المفاوضاتُ قوةُ العزيزِ وإرادةُ الواثقِ

المفاوضاتُ ليست عيباً ولا تفريطاً، وليست ردة ولا خيانة، وليست اعترافاً وقبولاً، أو خضوعاً وخنوعاً، أو تنازلاً واستسلاماً، بل هي إن جرت على أصولها، وحافظت على ثوابتها، وتمسكت بشروطها، ولم تقدم تنازلاً يخل بها أو تقبل بشروطٍ تقيدها وضوابط تكبلها، فإنها تكون شكلاً من أشكال المقاومة، ووسيلةً من وسائل النضال، وقد تحقق بذكاء المفاوضين وحنكة الممثلين، وثباتهم على مواقفهم وإصرارهم على حقوقهم، وعنادهم في سبيل غاياتهم، ما عجزت عن تحقيقه البندقية، وما فشلت في الوصول إليه القوة.

ولست هنا أتحدث عن القضية الفلسطينية التي لا ينطبق عليها المثال، ولا يتشابه معها الحال، فهي لا تخضع للتجربة، ولا يجوز فيها المغامرة أو المجازفة، فالمفاوضات الفلسطينية مع العدو خيانة، وهي تفريطٌ وتنازلٌ، وهي مدعاة للخسارة والفقد، والتسليم والاعتراف، وهي تشريعٌ للغاصب وتقنين للمحتل، وهي تحريضٌ للآخرين للتقليد وتشجيعٌ لهم للتشبه، وتبريرٌ لهم للجريمة، فلا يجوز في قضيتنا الفلسطينية اللجوء إليها والقبول بها أصلاً وحكماً، شرعاً وقانوناً، ووطنية وقومية، فكيف الحال بعد التجربة الطويلة والمحادثات الفاشلة، والوساطات الكاذبة، والنتائج المشوهة والواقع المرير، الذي أنتجته سنوات الحوار والمفاوضات، وخلقته أوسلو وبقية الاتفاقيات، التي أثبتت عقمها وأظهرت فشلها، وأكدت على أصل بطلانها.

لكن حركة طالبان التي ما زلت أرى وجوب وأهمية دراسة تجربتها، وتقييمها من مختلف الاتجاهات، كونها التجربة الأحدث والأقرب إلينا والأكثر تأثيراً علينا، بعيداً عن تأييدها والإشادة بها كما يظن البعض ويعتقدُ، فهي لم تظهر حسناً بعدُ، ولم تبدِ تغيراً لافتاً أو تبدلاً حقيقياً، وإن كانت تبدو أنها على الطريق نحو التغيير الحقيقي لا الشكلي أو الظاهري، ولعل تجربتها تفيدنا كثيراً انطلاقاً من واقعها المرتبط مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبر سند الكيان الصهيوني وحاميةً له، إذ أنها وبكل الوجوه والاحتمالات والتصورات والخيالات، قد تمكنت من فرض إرادتها على الإدارة الأمريكية وأرغمتها، وأجبرتها على تقديم تنازلاتٍ موجعةٍ، ما كانت تظن يوماً أنها ستقدم عليها وستتنازل عنها.

صحيحٌ جداً أن دولة قطر هي التي سعت وبادرت، وعملت واشتغلت على إحداث شرارة التفاوض وتحقيق اللقاء بين الإدارة الأمريكية وحركة طالبان التي تستضيفها، ولكنها ما كانت لتقدم على هذه الخطوة لولا الموافقة الأمريكية، بل تأييدها ومباركتها إن لم أقل أنها هي التي طلبت وتمنت، وأنها التي سعت وحاولت، فحركة طالبان التي تتهم بأنها خشبية العقل جامدة السياسة، متطرفة الفكر متشددة السلوك والممارسة، ما كانت لتفكر يوماً بالجلوس على طاولة المفاوضات مع قاتلها ومحتل أرضها، وخالق فتنتها وصانع أزماتها، ولكنها وجدت نفسها أخيراً تقبل بالعرض الأمريكي، وتوافق على الخيارات المطروحة أمامها على الطاولة.

لكن الحركة التي قبلت بالمفاوضات، ووافقت على الحوار، وضعت جملةً من الشروط والتعهدات، وألزمت الولايات المتحدة بالتعامل معها والاستجابة لها، فهي لم توقف القتال أبداً، واستمرت في عملياتها النوعية ضد أهدافٍ أمريكية وحكومية، ولم تكن تسكت عن أي خرقٍ يقع من الجانب الأمريكي أو الحكومي دون أن ترد عليه بقوةٍ وعنفٍ، ورفضت مطلقاً القبول بوقف العمليات القتالية من طرفها ما لم توقف الولايات المتحدة الأمريكية وكل حلفائها جميع عملياتهم العسكرية، وهو ما تحقق على الأرض بالفعل.

اشترطت حركة طالبان على المفاوضين بالنيابة، وعلى الأصلاء في الحوار، وجوب الإفراج عن آلاف المعتقلين من عناصرها من سجون ومعتقلات الحكومة الأفغانية، ولم تباشر حوارها حتى رأتهم يخرجون من السجون، ولا يتعرضون للتضييق والملاحقة، حتى ولو التحقوا بمجموعاتهم المقاتلة على الجبال وفي الجبهات، ولم تقبل بمحددات الحكومة وشروطها، ولا بقوائمها وأسمائها، وإنما وضعت على الطاولة كشفاً بأسماء جميع المعتقلين، وأصرت على الإفراج عنهم جميعاً، وهو ما تم بالفعل.

لم تقتصر شروط طالبان على الأمريكيين بوجوب الضغط على حكومة كابل التي ترعاها، وإنما طلبت منهم الإفراج عن معتقليها في سجون باكستان وغوانتانامو، وهو ما تم بالفعل بالصورة والصوت، إذ أن مفاوضي حركة طالبان، كانوا هم أنفسهم السجناء في السجون الأمريكية الأصلية أو بالوكالة، وهم الذين انتقلوا إلى الدوحة، وجلسوا على طاولة المفاوضات، وطرحوا شروطهم، وحددوا مسارهم، وألزموا بها عدوهم.

لا شك أنه كان للإدارة الأمريكية شروطٌ مقابلة، ربما يكون بعضها سرياً ولم يكشف عنه بعد، لكن الأحداث الراهنة وتوالي الأيام أظهرت أن شروطهم كانت فقط في ضمان خروج قواتهم الآمن من أفغانستان، وعدم التعرض لهم وللمتعاونين معهم والراغبين في مغادرة البلاد خوفاً منهم، والالتزام بعدم الاقتراب من مطار كابل حتى يتم خروجهم الكامل من البلاد، ولعل هذا الشرط لا يدل على عزة طالبه بقدر ما يدل على خوفه وقلقه، فالولايات المتحدة الأمريكية التي قدمت تنازلاتٍ مقابل شرطها، ما كانت لتحققه بقوتها، ولو كانت تستطيع ما أقدمت على تمريغ أنفها، وتعريض سمعتها للنقد، وتوجيه اللوم الشديد لإدارتها ورئيسها على ما أطلقوا عليه "الخروج الفوضوي الذليل".

إن دولةً عظمى مدججة بكل أنواع الأسلحة، ومزودة بأحدث التقنيات العالمية، تهين نفسها وتلطخ سمعتها، وتتنازل عن ترسانتها العسكرية، بكل ما فيها من معسكرات وثكناتٍ وآلياتٍ ودباباتٍ وطائراتٍ ومروحياتٍ ومعداتٍ وتجهيزاتٍ وغيرها، يشير بوضوحٍ إلى أن مفاوضها الذي نجح في الميدان، واستعلى في القتال، قد نجح أيضاً في المفاوضات، وأخذ أقصى ما كان يتمنى، ولعله قدم تنازلاتٍ لشعبه، وتعهد بالالتزام لصالح بلاده، ووعد بالمشاركة السياسية وضمان حقوق الإنسان، وليس في هذا تنازلٌ مهينٌ ولا خضوعٌ مذلٌ، بل هو تأكيدٌ لعزة المقاوم، وترجمة لإرادة الواثق بالنصر والمصر عليه والساعي إليه.

************************

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين "4"

وضوحُ الهدفِ ورفضُ المساومةِ

لا يمكن لثورةٍ أن تصل إلى مبتغاها، وتحقق الغايات التي انطلقت من أجلها وضحت في سبيلها، وتنتصر على عدوها وترغمه، وتتغلب عليه وتطرده، ما لم تكن أهدافها واضحة، وخططها محددة، ومسارها دقيق، ومنهاجها نظيف، وأساليبها موثوقة، فوضوح الرؤية وتحديد الأهداف، والتمسك بها والثبات عليها، والبعد عن التشتت والفوضى، ورفض المساومة والتخلي عن العروض، ضرورة ماسة لتحقيق النصر، وشرطاً أساسياً لنجاح الثورة والحفاظ على مكتسباتها، وإلا عُد القتال عبثياً، والنضال تزجية وقتٍ، ووسيلة للتكسب والبقاء، وأعتبر خيانةً للشعب واستهتاراً به، واستخفافاً بتضحياته وهدراً لطاقاته، وتدميراً لأجياله ورهناً لمستقبله.

حركة طالبان، وإن بدت مهلهلة فوضوية، متعددة القيادات متفرقة المراكز، مغمورةً بأسمالها ومتنكرة بأشكالها، إلا أنها كانت واضحة وصريحة، وصادقةً ومباشرة، إذ أعلنت منذ عشرين عاماً وما زالت، عزمها على إخراج القوات الأمريكية وحلفائها من بلادها، ووصفتها بأنها قوة احتلال، غزت بلادهم وقتلت شعبهم، وعاثت فساداً بينهم، فينبغي قتالها والتصدي لها وإخراجها بالقوة، ولم يفت في عضدها أو يضعف عزمها أو يغيرُ قرارها، الفارقُ المهول في ميزان القوى، والتفوقُ الخيالي في الأسلحة والعتاد والعدد.

وصفت طالبان السلطة التي عينتها والحكومات التي نصبتها بأنها قوى الأمر الواقع، وأنها غير شرعيةٍ ولا قانونية، ورأت أنها تابعة للاحتلال ومنفذةً لأهدافه، وأداةً طيعة في يده، وعميلة تعمل عنده ومن أجله، وأن الانتخابات التي جاءت بها وهمية وزائفة، ولا تعبر عن إرادة الشعب ولا تمثله، وهي صنيعة أمريكا وحلفائها وأداتهم القذرة على الأرض، فكما يجب العمل على استئصال الاحتلال وطرده، وتحرير البلاد والعباد منه، ينبغي إسقاط كل سلطةٍ أنشأها، وكل حكومةٍ نصبها، وطرد كل قيادةٍ صنعها، كونها امتداداً لها، وجزءً منه لا تنفصل عنه ولا تختلف، لارتباط مصالحهم وتوافق أهدافهم، وحتمية مصيرهم، وهو ما تبين قطعاً وتحقق فعلاً بعد ذلك.

أخطأت الولايات المتحدة الأمريكية، وكل قوى الاحتلال الأخرى التي تحتل أرض غيرها، وتنتهج نهجها وتفكر مثلها، إذ ظنت أنها تستطيع تقويض إرادة الشعب، وثنيه عن أهدافه، وحرفه عن غاياته، وتزوير مستقبله وتزيين واقعه، وتجبره على القبول بها والسكوت عنها، واعتقدت واهمةً أن الأمر قد استقر لها، وأن العقبات التي تقف في طريقها قد سويت وانتهت، ولم يعد هناك ما يعرقل مشروعها أو يهدد وجودها، ونسيت أن البلاد لأهلها، والشعوب لا تسكت على سلب إرادتها ومصادرة حقوقها، ورهن مستقبلها وتزوير حقيقتها، وأن قوة الاحتلال مهما عظمت وتوحشت، فإنها أضعف من أن تفرض إرادتها، وأوهى من أن تستمر وتحافظ على وجودها، ومصيرها الحتمي وإن تأخر إلى زوالٍ وانتهاءٍ.

حاولت الإدارة الأمريكية بصورةٍ مباشرةٍ وعبر وسطاء ومتعاونين، أن تثنيَ حركة طالبان عن موقفها، وأن تقبل بالتغيير الحادث في بلادهم، مقابل وعودٍ يمنحونهم إياها، وتعهداتٍ يقومون بها، ففاوضت سجناءها في معتقلاتهم، وجلست مع قادتها في مغترباتهم، واستمعت إلى الوسطاء الذين اجتمعوا بهم واستمعوا إليهم، ونقلوا لهم العروض الأمريكية السخية، والأحلام الوردية، والمستقبل المشرق والاقتصاد المزدهر الذي يعدونه بهم ويضمونه لهم، شرط أن يلقوا السلاح ويتخلوا عن المقاومة، ويجلسوا على طاولة المفاوضات ويقبلوا بالحلول المطروحة  والعروض الممكنة.

لم تكن حركة طالبان تمتلك غير بندقيتها المقاتلة، وشرعيتها المقاومة، وأرضها التي تقف عليها وترابط فيها وتقاوم منها، ويقينها الذي لا يتزعزع، وثقتها التي لا تضعف، إذ كانت مشردة في الأرض، وتائهة في الوديان، وهاربة فوق الجبال، ومطاردة من السلطات ومستهدفة من الاحتلال، بينما قادتها في السجون والمعتقلات يرزحون في قيودهم، ويعانون في أغلالهم، ورغم ذلك لم تتنازل عن أهدافها، ولم تقبل بالمساومة على حقوقها، وبقيت متمسكة بما أعلنت عنه وانطلقت من أجله وقاومت في سبيله.

لم تجدِ الإغراءات الأمريكية والوعود الأوروبية في ثني طالبان عن هدفهم، وحرفهم عن مسيرتهم، أو تشويه صورتهم وتغيير حقيقتهم، إذ عرضوا عليهم المناصب والمواقع، وقدموا لهم الامتيازات والهبات، والوعود والالتزامات، وراقبتهم الأجهزة الأمريكية في أماكن إقامتهم ومراكز اجتماعاتهم، فرأتهم بأثوابهم البسيطة وأسمالهم الشعبية يتسربلون، وعلى قصعةٍ واحدةٍ وطعامٍ بسيطٍ يجتمعون، وفي مكانٍ ضيقٍ وفراشٍ متواضعٍ ينامون، فلا تهمهم كثيراً تسهيلات الشخصيات المهمة، ولا امتيازات القادة والمسؤولين، بقدر ما كان يهمهم رحيل الاحتلال عن أرضهم، وتحقيق الاستقلال لبلادهم، وقد باتوا يحسنون التفاوض ويبرعون فيه، حسنهم في القتال وإبداعهم في المقاومة، وهو ما أرغم أمريكا على احترامهم ولو كرهاً، والاستسلام لهم، والخضوع لشروطهم، والقبول بطلباتهم.

وضوح الأهداف ضرورةٌ، والثبات عليها قوةٌ، والتمسك بها يفضي إلى تحقيقها، والمساومة عليها والتفاوض حولها يقود إلى الهزيمة والخسارة، ويؤدي إلى ضياع الحق وخسارة الأرض، والتراجع عنها خطوة يعني التراجع دوماً، والتنازل البسيط يقود إلى التنازل الكبير، ولا شيء يغيظ العدو أكثر من طفلٍ يطالب بحقه وهو الصغير، ومن أسيرٍ يصر على أهدافه وهو السجين، ومن لاجئٍ يتمسك بوطنه ويؤمن بحتمية العودة إليه وهو المشتت البعيد، فهنيئاً لشعبٍ صمدت قيادته، وصدقت ريادته، وحملت الراية بقوةٍ وسلمتها بأمانةٍ، وحافظت عليها بشرفٍ وصانتها بصدقٍ، تلك القيادة سَتُحمدُ، وعلى صدقها سَتُشكرُ، وبأمانتها سَتُذكرُ، ويقيناً عليها يتنزل النصر، وعلي يديها يتحقق الظفر.

************************

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين "5"

مخاوفٌ مشروعةٌ وهواجسٌ مبررةٌ

ما زال الحدث الأفغاني هو الحدث الأبرز والأكثر صخباً، وهو الأكثر حضوراً وتحليلاً في الأوساط السياسية والإعلامية، ولدى الأنظمة والحكومات والمنظمات الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان وغيرها، فضلاً عن المراقبين والمتابعين من العرب والمسلمين الأكثر تأثراً بما يحدث، فهم وغيرهم غير قادرين على استيعاب ما جرى، أو القبول بما آلت إليه الأوضاع في أفغانستان، والاطمئنان إلى الواقع الجديد والتسليم به، ولديهم ما يبرر خوفهم ويجيز قلقهم، ويفرض عليهم الاهتمام بمجريات الأمور وتطور الأوضاع في هذا البلد، رغم أنه نائي عن بعضهم وبعيد، إلا أن ماضيه الأليم حاضر، والصورة القاتمة التي رسمت فيه ما زالت عالقة في الأذهان ولم تنسَ.

فقد هالهم جميعاً تتابع الأحداث وتوالي المستجدات، وأربكهم وصدمهم، وأيقظ عندهم جميعاً المخاوف القديمة والهواجس المخيفة، التي ارتبطت بها حركة طلبان وعُرفت بها، وعانى منها شعبها والعالم، إذ ذاقوا المر خلال فترة حكمها وسنوات سيطرتها، وشكوا من سياستها، وعانوا من أفكارها، وتعقدت حياتهم نتيجة تطرفها المفرط وتشددها المنفر، حتى غدت نموذجاً مكروهاً ومثالاً منبوذاً، وتجربةً سيئةً تمنوا لو أنها ما كانت، بالاستناد إلى المظاهر السلبية التي خلقتها، والسلوكيات العجيبة التي مارستها، والقوانين الظالمة التي فرضتها، والأفكار المتطرفة التي صدرتها، والمجموعات التكفيرية التي كونتها وآوتها، وساعدتها وأيدتها.

لهذا يعُذرُ كل من شكك في الحركة وخاف منها، وتوجس من سياستها وقلق على المستقبل في ظلها، أو لم يصدقها ولم يطمئن إليها، فهي لم تستطع بعد أن تغير الصورة النمطية التي خلفتها سنوات حكمها، فقد كانت حركة ظلامية متطرفة متشددة، مستبدة ظالمة منحرفة، قيدت الحريات، وحاربت الأفكار، وانتهكت حرية الإنسان، وعادت الجوار، وانبتت عن المحيط، وألبت المجتمع الدولي كله ضدها، وخسرت الأصدقاء والحلفاء، وفقدت المحبين والمناصرين، وغدت تتصرف مغالاةً وكأنها خليفة الله عز وجل على أرضه، تحاكم وتجرم وتخون وتكفر وتقتل، وتشرع ما تريد وتفرض ما يحلو لها، فأرهبت شعبها وخوفت أهلها، وشوهت ديننا وأضرت بسمعة إسلامنا.

يجب على حركة طالبان أن يتسع صدرها لكل هذه الانتقادات، وأن تغفر لمن شك فيها واتهمها، ولمن لم يثق فيها وكذبها، ولمن يخشى عليها ويتمنى صدقها، ولمن يرجو صلاح أمرها وتغير حالها، وعليها أن تبرر للجميع مخاوفهم وتقبل منهم هواجسهم، فماضيها يصعب تجاوزه، وسياستها القديمة يتعذر نسيانها، والطريقة التي تمت فيها السيطرة على البلاد مثار شبهةٍ وموضع اتهام، فأمريكا ليست سهلةً ولا بسيطةً، وليست جاهلةً أو سفيهةً، فهل من اتفاقياتٍ سريةٍ بينهما، وهل هناك شروط التزمت بها، ومهامٌ ستقوم بها بالنيابة عن الأمريكيين، وهل ما حدث على الأرض هو عملية استبدال للأدوات وتغيير للموظفين فقط، وأنها ستفي لأمريكا بما طلبت، وستلتزم تجاهها بما تعهدت.

وهل ستحافظ الحركة على حقوق الإنسان، وتحترم مواطني بلادها وتصون كرامتهم وحريتهم، وعلى وجه الخصوص المرأة الأفغانية التي اضطهدت في عهدهم الماضي وظلمت، وعانت وأهينت، وسجنت في بيتها وضربت بتهمة نشوزها، وهل ستعود إلى ضوابطها المسلكية وشروطها الحديدية المتعلقة بالهيئة العامة واللباس، وإطلاق اللحى للرجال، وفرض النقاب على النساء، وحرمانهن من التعليم والعمل، ومن التجول والتنقل، وإكراههن على الزواج صغيراتٍ، ومعاقبتهن على استخدام الزينة أو ظهورهن في الأماكن العامة، وغير ذلك مما فرضته على سكان البلاد من شروطٍ وقيودٍ وصفت بأنها مذلةٍ ومهينةٍ.

وهل ستلتزم بتشكيل حكومة وحدةٍ وطنيةٍ جامعةٍ، تشارك فيها كل الاثنيات والقوميات والمذاهب، ولا تستثني أي مكونٍ أفغاني إلا أن يختار بنفسه عدم المشاركة، أم أنها ستعود فتستأثر بالحكومة وحدها، وتفرض نظامها الخاص وتصورها القديم للسلطة، وتعيد مجالس الشورى وأهل الحل والعقد العقيمة في البلاد، وبذا تؤسس من جديدٍ لنظامٍ قمعي شمولي ديكتاتوري، كذاك الذي كان قديماً وكان سببا في انفضاض الشعب من حولهم، وتخلي العرقيات الأخرى عنهم، وتأليب المجتمع الدولي ضدهم.

وهل ستحترم دول الجوار وشعوب المنطقة، فتسالمهم وتعاهدهم، وتضمن أمنهم وسلامة أراضيهم، ولا تستخدم بلادهم بما يضر بأمنهم أو يفسد حياتهم، وتعلم أن أمنها من أمنهم، وأن استقرار بلادها من استقرار بلادهم، وتلتزم بمحاربة الإرهاب وتجفيف منابعه، ومنع انتقاله إلى دول الجوار أو إلى غيرها، وتكف عن تصدير الأفكار المتطرفة والجماعات المتشددة، وتؤمن بالوسطية والتسامح، وبالمصالحة والتعايش، وترفض المذهبية والطائفية، وتعزز التعددية السياسية وتضمن حرية الاعتقاد الديني والانتماء المذهبي.

ربما يشعر البعض أن طالبان صادقة في توجهاتها، وأنها جادة في تغيير صورتها القديمة، وتبديل سياستها السابقة، فانتشارها الآمن في الولايات الأفغانية، والتزامها عدم استخدام القوة ضد المواطنين، إلا من بعض الحوادث القليلة المتفرقة، واحترامها لمؤسسات الدولة الإدارية، وشرطتها المرورية وهيئاتها القضائية، وإعلانها الحفاظ على مؤسسة الجيش، وعدم حله وتفكيكه، ودعوة جميع المنتسبين إليه بالعودة إلى ثكناتهم، وجميع الموظفين بالالتزام بوظائفهم، ودعوتها لتشكيل حكومة وحدةٍ وطنيةٍ تشمل جميع مكونات الشعب الأفغاني، فضلاً عن إعلانها العفو العام عن جميع المتعاونين السابقين، والمترجمين والإعلاميين وغيرهم، وترحيبها بتسهيل سفر كل من أراد مغادرة البلاد والخروج مع القوات الأجنبية.

ما زال الوقت مبكراً جداً للحكم على حركة طالبان والاطمئنان إليها، وحتى ذلك الحين ينبغي عليها القيام بالكثير من المهام التي ذكرت آنفاً وغيرها، حتى نطمئن إليها ونثق بها، ونصدقها وندافع عنها، وحتى تنفذ تلك الالتزامات وغيرها، فإن عليها أن تغض الطرف عن كل صوتٍ صاخبٍ وناقدٍ، وأن تسكت عن كل متخوفٍ وقلقٍ، وأن تغفر لكل مشككٍ ومتهم، حتى تثبت لهم العكس، وتظهر لهم الوجه الأصيل لأفغانستان الجديدة، التي لا وجود  فيها لأمريكا ظلاً تابعاً أو فعلاً ظاهراً.

************************

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين "6"

المخاوفُ الإسرائيليةُ والتحدياتُ الوجوديةُ

لم يعتبر الإسرائيليون أنفسهم بمنأى عما يحدث في أفغانستان، أو أنهم غير معنيين بها أو متضررين منها، كونها تقع بعيدة عنهم، ولا تشكل خطراً عليهم، ولا تؤثر على أمن كيانهم ولا على سلامة مستوطنيهم، ويلزمها الكثير من الجهد والوقت لتخرج من أزماتها، وتقف على أقدامها، بل وجدوا أنفسهم متأثرين بها جداً، ومتضررين من انعكاساتها كثيراً، ومتخوفين من تداعياتها أكثر، فقد جرت الرياح فيها بما لا تشتهي سفنهم، وبما تتعارض مع مصالحهم، فأقلقتهم على مصيرهم، وأهمتهم على مستقبلهم، ودفعت كبار مسؤوليهم للتعبير عن مخاوفهم، والتحذير من تداعيات الانسحاب الأمريكي الصادم منها.

وصف مسؤولون إسرائيليون كبار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بأنه يشبه انسحابها من لبنان عام 2000، وهو الانسحاب الذي مكن حزب الله في الجنوب اللبناني على حدودها الشمالية، وجعل منه عدواً شرساً لها، يهدد أمنها، ويستهدف وجودها، ويعرض مصالحها للخطر، حتى بات اليوم من القوة والتمكين ما جعل أمن الشمال مهدداً على مدى الساعة، إذ يستحيل استئصاله أو نزعه من محيطه ونسيجه الاجتماعي الذي انتشر فيه وتوسع.

لم يخفِ بعض الإسرائيليين حقيقة شعورهم من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ووصفوه بأنه انسحابٌ متسرعٌ مذلٌ مهينٌ وفوضويٌ، وأنه تم بالإكراه لا بالتراضي، وشبهوه بانسحابهم من جنوب لبنان، الذي تم بسرعةٍ وخفيةٍ ومذلةٍ، حتى أنهم لم يجدوا الوقت لجمع معداتهم وتفكيك معسكراتهم، والتخلص من بقايا وجودهم الطويل في لبنان، ولعل هذا الصورة منطبعة بقوةٍ لدى الكثير من جنودهم العائدين من لبنان، وهي صورة مؤلمة لا تنسى من ذاكرتهم، ولا تشطب من مخيلتهم، بدليل أن الكثير منهم اضطر لزيارة الطبيب النفسي للجيش لأكثر من مرةٍ، وبعضهم سرح من الجيش ولم يعد صالحاً للخدمة فيه.

لكن وزير الحرب السابق موشيه يعالون كان أكثر صراحةً ووضوحاً عندما قال "إن سيطرة طالبان على أفغانستان سيؤثر على أمن وسلامة بلادنا"، وأضاف "رغم أن أفغانستان تقع بعيدة عنا، إلا أن لسيطرة طالبان عليها تداعيات خطيرة علينا"، واعتبر أن انسحاب أمريكا السريع والمفاجئ من أفغانستان، دون ترتيب الأوضاع فيها أمرٌ مقلقٌ جداً ويضر بهم، رغم أن حكومته ارتكبت الخطأ نفسه في لبنان عام 2000، وانسحبت بالليل بسرعةٍ ودون تنظيمٍ، وخلفت وراءها آلاف المتعاونين معها، دون أن تقوى على حمايتهم أو ضمان سلامتهم، بعد أن عجزت عن نقل أو اصطحاب أغلبهم معها.

وفاقم مخاوفَ الإسرائيليين اللقاءاتُ التي جمعت قيادة حركة طالبان مع قيادة حركة حماس في العاصمة القطرية الدوحة، والتقارير التي تفيد بعمليات التنسيق وتبادل الخبرات بينهم، وحالة الفرح والسعادة التي بدت على قيادة حماس ومناصريها، والتي عبر عنها بيان تهنئتها لحركة طالبان، والرسالة التي أرسلها رداً عليهم رئيسُ مكتبهم السياسي الملا عبد الغني برادر إلى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الأستاذ إسماعيل هنية، التي أبدى فيها تضامن حركته مع حماس، ودعمها للقضية الفلسطينية، واستعدادها للقتال إلى جانب الفلسطينيين، حتى يحققوا أهدافهم ويحرروا وطنهم.

كما أقلق الإسرائيليين كثيراً الرسائلُ الإيجابية المتبادلة بين حركة طالبان وإيران، التي استضافت قيادتهم، وأكرمت وفادتهم، وأحسنت نصحهم، وحرصت على توجيههم، وقدمت لهم التسهيلات التي تلزمهم، وربما أمدتهم بما ينقصهم، أملاً في تصحيح مسارهم وكسب ودهم، وقد بدا فعلاً أنهما تجاوزا خلافاتهما، ونسيا سنوات الجفاء بينهما، واتفقا على التعاون المشترك والتنسيق الدائم، وحفظ أمنهما وسلامة حدودهما، بما يحقق مصالحهما المشتركة والعامة، وهو ما يغيظ الإسرائيليين ويخيفهم، ويقلقهم من تنامي نفوذ إيران واحتوائها أفغانستان كما اليمن والعراق.

بعض الإسرائيليين يتهمون الإدارة الأمريكية بأنها المسؤولة عن توسيع محور "الراديكاليين"، وأنها بانسحابها غير المنظم، أظهرت ضعفها وأعطت الضوء الأخضر لإيران وحلفائها للحلول مكانها والاستفادة من غيابها، وهو ما من شأنه أن يزيد من قوة إيران ومحورها، الذي يدعو إلى إزال دولة إسرائيل، ويعمل على إرهاقها المستمر وتوترها الدائم، ويبدو من خلال الأيام القليلة الماضية، التي تلت انسحاب القوات الأمريكية، وسيطرة حركة طالبان على معظم الأراضي الأفغانية، أن إيران قد بدأت بنسج علاقاتها مع أفغانستان الجديدة، فأجرت لقاءات حدودية مع طالبان، وأعلنت استعدادها لتزويدها بالكهرباء، والآتي سيكون أكبر وأعظم.

ليس من المستبعد أبداً أن تصبح أفغانستان قاعدة جديدة لحركة حماس على وجه الخصوص، التي ستتعدد فوائدها من سيطرة حركة طالبان عليها، وهي التي التقت قيادتها على مدى سنواتٍ خلال إقامتهما المشتركة في قطر، ونسجت معها علاقاتٍ متينةٍ، يمكن وصفها بأنها طبيعية ومتوقعة، كما أن رصيد حركة حماس سيزيد لدى حلفائها، المعنيين بها والمستفيدين من علاقاتها، والمتطلعين إلى توسيع محور المقاومة، إذ أن من صالح إيران أن تطمئن إلى سلامة أمنها وضبط حدودها مع أفغانستان، وهذا ما يمكن لحركة حماس أن تلعبه بقوة، وأن تحقق فيه نجاحاتٍ كبيرةٍ، تحسب لها وتزيد في رصيدها.

ليس من صالح الكيان الصهيوني أن تتغير حركة طالبان، وأن تصبح حركةً ثوريةً نضاليةً متحررة، وأن تنظم إلى المحور المعادي لها، وأن تتخلى عن صورتها القديمة وشكلها السابق، فلا تتهم بالإرهاب ولا توصف بالتطرف، ولا يعود ينظر إليها العالم على أنها حركة ظلامية متشددة متطرفة، وتتوقف عن عزلها وحصارها، وتبدأ في نسج علاقاتها الدولية وبناء تحالفاتها الإقليمية، وتتمكن من الحصول على الاعتراف الدولي والتعاون الاقتصادي والسياسي، فهذا مؤشرٌ خطيرٌ وإنذارٌ كبيرٌ يتهددها، ويحرض الآخرين عليها، ويشجع "الإسلام الراديكالي" ضدها، فهي عمقٌ جديدٌ للمحور المعادي لها، وهي أرضٌ غنية بالإمكانيات وزاخرة بالثروات، ولديها قدرات عسكرية وتجارب قتالية عالية ومتنوعة.

************************

دروسٌ طالبانية متعددةُ الاتجاهاتِ ومختلفةُ العناوين "7"

اليومَ أفغانستان وغداً وسوريا والعراق

لم يأت الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عن رضى نفسٍ وطيبِ خاطرٍ، ولا هو بسبب يقظةِ ضميرٍ أو إحساسٍ بالندم، أو رغبةً منها في منح الأفغان حقوقهم والسماح لهم بإدارة شؤونهم، بعد اطمئنانهم إلى قوة السلطة التي بنوها، والحكومة التي أنشأوها، والجيش الذي أسسوه ودربوه وأهلوه وسلحوه، أو نزولاً عند القانون الدولي والتزاماً بأنظمة الأمم المتحدة التي تمنع الاحتلال وتحارب العدوان، ولا هو نتيجة تفاهمٍ سريٍ بين الإدارة الأمريكية وحركة طالبان، وإن كان شكله العام يدل على اتفاقٍ بين الطرفين عامٍ ومعلنٍ، بل جاء قرارها بالانسحاب من أفغانستان عنوةً، وإخراج قواتها منها بالقوة، والتخلي عن أحلامها فيها مرغمةً، نتيجةً لحسابات المكسب والخسارة، بعد أن تفاقمت الكلفة، وارتفعت فاتورة البقاء، وكثر عدد قتلاهم، وزادت شكوى مواطنيهم، وتأخر الحسم وتعذر النصر.

غزت الولايات المتحدة الأمريكية أفغانستان عام 2001، وقد عزمت على طول البقاء واستمرار الاحتلال، ووطنت نفسها وبنت تحالفها مع شركائها في أوروبا وكندا وأستراليا، وأقنعتهم بسهولة المهمة، وعدم وجود كلفة، وأغرتهم بالمكاسب والمنافع، وبالفوائد والامتيازات، وباشرت بعد قصفها المهول لكل مكانٍ في أفغانستان، استخدمت فيه أشد ما في ترسانتها العسكرية من أسلحةٍ مدمرة، وقنابل مروعة، بقتل المواطنين الأفغان وتدمير بلادهم، ونهب خيراتهم وثرواتهم، واستخدمتهم لتطويع الجيران وترهيب الآخرين، وتبرير عدوانها وتشريع احتلالها، ومضت على سياستها العدوانية عشرين عاماً متوالية، لم تتعظ خلالها من تجربتي انجلترا والاتحاد السوفيتي، اللذان انسحبا من أفغانستان هرباً، بعد أن دفنوا فيها أحلامهم وأطماعهم.

رفض الأفغان احتلال بلادهم، وحملوا البندقية دفاعاً عنها، وقاتلوا الأمريكيين وحلفاءهم، وقاوموا وجودهم وهاجموا تجمعاتهم، واستهدفوا مصالحهم وفجروا مقراتهم، ولم يجبنوا عن مواجهتهم أو يترددوا في قتالهم، بحجة اختلال موازين القوى، وتفوق الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها عليهم بالسلاح نوعاً وكماً وفتكاً وتدميراً، ورفضوا الاستسلام أمامهم، أو تشريع احتلالهم، أو القبول بالحكومات التي نصبوها، وبالسلطات التي بنوها، بل أصروا على مواصلة قتالهم، وتحدي عدوانهم، والصبر على إيذائهم، ولم تغرهم العروض الأمريكية، ولم يقعوا في شباكهم وحبائلهم، رغم اشتداد محنتهم وتعاظم خسائرهم البشرية.

أدركت الولايات المتحدة الأمريكية، أنه لا قِبَلَ لها بمواجهة شعبٍ يرفضها، وأرضٍ تلفظها، وقوىً تقاومها، وإرادةٍ تتحداها، ومجهولٍ ينتظرها، وتأكد لديها أن هذه المقاومة لا تنكسر، وأن هذا الشعب لا يستسلم، وأن هذه الأرض يوماً لم تخضع، وأنها أبداً لغير أبنائها لا تذعن، وقد زادت خسائرهم وتعاظمت، وكثر قتلاهم واشتكى أهلهم، ولم يعد أمامها من سبيلٍ سوى الرحيل والمغادرة، قبل أن تسوخ أقدامها أكثر، وتتورط في أرضٍ بعيدةٍ عنها أكثر، بما يذكرها بهزيمتها في فيتنام وخسائرها فيها، ورحيلها الذليل منها، وانسحابها المخزي من أرضها، وتخليها المعيب عن أعوانها وعملائها.

هذا هو مصير الولايات المتحدة الأمريكية، المتغطرسة المستكبرة المستعلية، الظالمة القاتلة المعتدية، فقد أفل نجمها وخبا بريقها، وبدأت قوتها تضعف، وامبراطوريتها تتفكك، ولم تعد قادرة على تحقيق أحلامها وتنفيذ رغباتها، وسيأتي اليوم الذي تغيب فيه شمسها عن بلادنا، وترحل جيوشها من أرضنا، فلا شرعية لها، ولا حاجة لنا بها، ولا مصالح لنا تجمعنا معها، فهي تضرنا ولا تنفعنا، وتنهبنا ولا تمنحنا، وتتآمر علينا ولا تخدمنا، ووجودها في بلادنا دمارٌ وخرابٌ، وسياستها ضدنا حربٌ وحصارٌ، جرت علينا الكوارث وتسببت لنا بالويلات، في سوريا والعراق، كما في فلسطين ودعمها للكيان والإرهاب، وفي أفغانستان وقتلها للعباد.

لن يقف الأمر عند انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان فقط، فكما انسحبت منها وهي تجر أذيال الخيبة، وتتعثر في خطاها، وتغطي وجهها مكسوفة، وتبرر لنفسها فعلتها ولشعبها ضعفها، فإنها ستنسحب عما قريبٍ من العراق أيضاً مرغمةً ذليلةً، خاسئةً حسيرةً، وقد قال شعبه كلمته، وطالبها عبر برلمانه بالخروج من بلادهم، وإلا فإن مقاومة الشعب العراقي الجسورة ستخرجهم، وقواه الحرة ستطردهم، وفصائله المسلحة ستجبرهم على سرعة الرحيل وعجلة السلامة، وقد جربت بطشهم وذاقت مرارة فعلهم، وتعرف قدراتهم وتدرك بأسهم، وتعلم أنهم يتحرقون شوقاً لقتالها، ويتمنون نزالها.

أما مصيرهم في شرقي سوريا فلن يكون أحسن حالاً مما وجدوه في أفغانستان، ومما قد يجدونه في العراق، فقد ارتكبوا في سوريا جرائم كبيرة، واحتلوا شطراً من أرضها، وعاثوا فساداً في بلادها، ونهبوا خيراتها، وسرقوا نفطها، وكذبوا إذ ادعوا محاربة داعش ومطاردتها، وهم الذين ساهموا في تأسيسها، وساعدوا في انتشارها، واستخدموا لمآربهم، ووظفوها لمصالحهم، فعليهم أن يتوقعوا عاقبة أمرهم ونتائج عدوانهم، إما رحيلاً مخزياً أو طرداً مكلفاً.

جِبلة الاحتلال واحدة، وطباعهم لا تختلف، فهم يستضعفون الأمم ويستقوون على الشعوب، ويستخدمون الأنظمة، ويسترقون الأجراء والعبيد لخدمتهم والعمل لمصلحتهم، ويبقون ما ضمنوا الحياة وأمنوا الخسارة، ولكنهم في اللحظة التي يشعرون فيها بفداحة الثمن، وارتفاع كلفة الاحتلال، وتفاقم الخسائر، وزيادة عدد القتلى والمصابين، فإنهم حينها يقررون الرحيل، ويعجلون بالانسحاب، وقد يغلفون فضيحتهم ببعض أدوات التجميل ووسائل التخفيف، إلا أن الحقيقة أن هذه الخاتمة هي مآلهم، وهذا الرحيل هو مصيرهم، إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.

 يتبع....

وسوم: العدد 943