إلى أفق الريادة من جديد

لن تُطوى إشراقات الوجوهِ التي ترسم محياها إمارات الوفاءِ والأمل ، ولا خفقات هذه القلوب التي تحدو نبضاتها لمجد أثير ، وتاريخ حافل بالبطولات وبالمآثر التي قدَّمتها أمتنا المجيدة للعالمين . وكم أفرحُ حين أرى أو أسمع عن أبنائنا وهم يتغنون بأجمل الأناشيد التي خلفتها الأجيال السابقة في حقب العزة والكرامة والفتوحات . وأشعر ساعتها أن الأيام تخبئُ لهذه الأمة مكانة عالية من جديد ، وهي مكانتُها التي منحها اللهُ لها منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم .   ويبقى هذا الشعور الغامر يزخرُ بِسِير الأبطال الفاتحين من أجدادنا الأباة ، وقد أنعمَ اللهُ عليهم بالمجدِ السابغِ ، والخيرِ الوريفِ ، وبالإنجازات العظيمة التي حققتها مساعيهم الكريمة خدمة لأهل الأرض ، وذلك  بفضل اللهِ تعالى أولا ، ثم بما ملك أولئك الأبرار من قدرات سخروها لإسعاد البشرية ، ولم يعرف التاريخ أرحم من أمتنا عندما ملكت مشارق الدنيا ومغاربها .

أجل لن تطوى صباحات الآمال  التي تتجدد كل يوم بنور جديد ، وهمم قوية ، وعزائم استيقظت على نداءات الضمائر الحية ، وتطلعات العيون التي أرقتها الكوارث التي حلَّت بأمتنا . ولعلها تتجددُ هذه الهممُ القوية ، وتتحفَّزُ العزائمُ التي استنفرتها استفزازاتُ أعداء أمتنا ، فلن تكسر عنفوانَ شباب هذه الأمة وطأةُ الأحزان ، ولا مكابدةُ الآلام الجسيمة ، والأوجاع القاسية ، فحيوية الأمة أيضا لاتطويها الأحداث التي هزَّت أركان وجودها . وحاولت بعثرة قوتها وتطلعاتها ، فإنها الأمة التي كلأها الله بالثبات ، وأعزها بالقرآن الذي لايأتيه الباطل ، ولا تطمسه الأحقاد والمؤامرات ، وإنها الأمة العزيزة بربها وبدينها القويم ، وبما تملك من إيمان مكين ، ويقين لايتلاشى في الأحناء العامرة بالحكمة والوعي والعنفوان . وبشبابها الذي رسَّخ في نفسه أسباب القيام ، القيام من وهدة الهوان والاستكانة ، إنهم شباب الأمة الذين استشعروا أهميتهم في نهضة أمتهم وقيادتها على مدارج العزة بعد الهوان ، وعلى دروب الخير والاستثمار بعد شدة التصحر الذي أصابها . فلقد علمتهم الأيام معاني الوفاء ، وقيمة الإخلاص ، وأهمية الحماس للنهوض بأمتهم بعد تعثرها وانكسارها ، والخروج بها من ربقة التبعية التي جلبت لها الاستكانة القاتلة ، وضياع ثمرات المجد السابغ السابق ، وتلك من مصداقية النفوس مع أمتها ، فلهم أن يصدقوا مع أسباب إعادة موكب العزة والكرامة على جادة  السعي الحثيث  ، في حضور مميز لاتشوبه الأهواء ولا المصالح الرخيصة .

    أجل ... إن أمتنا تملك من أسباب الريادة والقيادة العالمية ما لا تملكه أي أمة على وجه الأرض ، وها نحن نرى اليوم آثار هذه الحضارة البائسة ــ نَعَمْ البائسة ــ على الإنسان وكرامته وأسباب سعادته ، فما بالكم بأبناء أرقى دولة في هذه الحضارة يبولون ــ أكرمكم الله ــ على إنسان من بلد آخر  يعيش على أرضهم وفي ظل حكومتهم ، إنها الحضارة القذرة التي تشمئز منها النفوس الكريمة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . ألا فلنجدد وجه حضارة أمتنا الكريمة السامية ، حضارة الإخاء والسلام والتسامح ، حضارة تسخير الطاقات والمواهب والقدرات لخير البشرية جمعاء ، حضارة العدل  والوئام والمساواة واحترام مشاعر الخلق أجمعين . ألا فَلْنوقد جذى العزائم لبناء حضارة إنسانية إيجابية ترسخ قيم احترام الإنسان لأخيه الإنسان ، وتعمل بالضوابط العالية لحفظ ما للإنسان من حقوق ، وما على المسؤولين من واجبات . فالناس بحاجة إلى مايسد جوعهم ، ويكسو أبدانهم ، ويسعد أيامهم ، وليسوا بحاجة إلى حضارة اختراع آلات التدمير والهلاك . وليسوا بحاجة أبدا إلى هذا التسابق المحموم لإيجاد وسائل جديدة أشد فتكا من سابقاتها ، وليسوا بحاجة إلى منظومة عنتريات القوى التي يسمونها بالقوى العظمى ، الناس بحاجة إلى : ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾  يقول الإمام الرازي  رحمه الله: ( لفظ العالمين يتناول جميع المخلوقات، فدلَّت الآية على أنه رسولٌ للخَلْقِ عامة إلى يوم القيامة ) .

وهذا واضح في دعوة الإسلام أنه دين للناس جميعا إلى قيام الساعة . يقول سبحانه : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ  ﴾ 41/ الزمر . فالهداية هي خيمة الإخاء والسلام والتكافل الاجتماعي  والمساواة بين الخلق ، وأكرم الناس عند الله هو أتقاهم لله ، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالمعروف ، وفي ذلك بيان لايخفى على ذوي الألباب ، يقول الله عزَّ وجلَّ :  ﴿ إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم إن اللَّه عليم خبير ﴾ 13/الحجرات .

وسوم: العدد 968