وهم القداسة... يرسل لي إخوة وأصدقاء أحباب...يسألونني رأيي!!

يرسل لي إخوة وأصدقاء أحباب خطبا وكلمات مصورة لدعاة، وعلماء أحباب يتحدثون فيها في الشأن العام، بعضهم يفعل ذلك في زي ديني، وأقصد الجبة والعمامة، وآخرون بزي مدني، والكل يبدأ مقامه باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، ثم يفيضون فيما يفيض الناس فيه من أمور الحياة والسياسة، مما يتجاذب الناس الحديث فيه، ولا يدخل في دائرة " البينين" من حلال وحرام.. وقد يصيب أحدهم الاجتهاد، وقد يخطئ كما كل الناس يجوز عليهم فيما يرون وفيما يقررون الخطأ والصواب..

الأحباب الذين يرسلون لي ينتظرون مني أن أقول: أخطأ صاحب التسجيل أو أصاب، وما أعتقد أن هذا لي بحق، ولكن الحق الذي أراه أننا يجب نحسن استقبال كلمات هؤلاء الناس، ونضعها في سياقها، من ميزان الخطأ والصواب، . فنستقبلها كقضايا مجردة قابلة دائما لحسن الاعتبار.

حتى المفتي نفسه لو ذهب إلى السوق ليشتري لبنا على طريقتنا أيام زمان، لا تغنيه عمامته في معرفة اللبن الخالص من الممزوج إلا اعتماده ثقة البائع، أو يدخل أصبعه كما كنا نفعل بطرف علبة اللبن فيتذوق بعض ما فيه.

وصاحب العمامة نفسه عندما يزوج ابنه أو ابنته، يتخير ويفتش ويستشير ثم يستخير ثم يأخذ قراره. وكثيرا ما يشعر أن قراره لم يكن موفقا أو سديدا...!!

موقفٌ نفسيٌ خاطئ أن نستقبل كل ما يصدر عن صاحب المظهر الديني، أو المدني ضمن غلالة من المصداقية المقدسة. وهذه القداسة يجب أن تماط عن اجتهادات البشر العامة. (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) وما ننسى فلا ننسى من اجتهادات الرسول الكريم حادثتي ماء الرجيع وبئر معونة اللتين أقضتا مضاجع المسلمين. وكلتاهما تسبب فيهما غدر المشركين، وحسن ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في الأولى استشهد عشرة من خيار المسلمين، وفي الثانية استشهد سبعون من كرام الصحابة على الصحيح من الأقوال...!! هي دروس وعبر لمن يريد أن يُفيد...!!

الموقف من الحرب التي يديرها الروس اليوم في أوكرانيا. ليس موقفا شرعيا يحسم مباشرة بقال الله ، قال رسوله، قال الصحابة أولو العرفان...وكأننا نتحدث عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير !! إنه موقف اعتباري -تقديري نسبي- يمكن لكل إنسان أن يقايسه على قاعدة وباعتبار. وطريقة. ويمكن أن تختلف فيه اعتبارات المقايسين، حسب ظروفهم وأحوالهم وزوايا رؤيتهم وطرائق استشرافهم...

السوري يرى في تورط بوتين في أوكرانيا أمورا لا يراها من لا يحتل بوتين بلادَه. ويرى في الظلم الذي يقع على الأوكرانيين شبيها بالظلم الذي وقع عليه، ويأخذ الأشباه والنظائر. ويقايس، ويستشرف المستقبل فيأمل...

الفلسطيني - مثلا - يذكر موقف الحكومة الأوكرانية، والرئيس الأوكراني من قضيته، فيدعو الله أن يهلك ظالما بظالم ...

في عالم السياسة الذي يموج بقواعد التدافع، لا يوجد شر مطلق، ولا خير مطلق, لا يوجد صلاح مطلق، ولا فساد مطلق، ولذا اعتبر العلماء أن أعلى مراتب الفقه هو التمييز بين كبرى وصغرى المصلحتين أو المفسدتين.

وهمُ القداسة هو الذي يجب أن ينزع من عقولنا وقلوبنا ونحن نتلقى ونتعلم ونحاور ونجادل..

تأمل هذا الدرس من السيرة النبوية إذا شئت وعلى مثله فقس:

قال الحباب بن المنذر يوم بدر:

يا رسول الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلت، أمنزلٌ أنزلكه الله ما يكون لنا أن نتحول عنه، أو هو الرأيُ والحربُ والمكيدةُ؟؟؟

قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأيُ والحربُ والمكيدةُ. فنحى ثوبَ القداسة عن طبيعة القرار والاختيار، وصاروا إلى التفاوض الذي تعلمون!!

أحدثكم عن قرارات نبي رسول وسنته وطريقته.. وليس لأصحاب العمائم عندنا إلا البر والوفاء.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 973