الموضوع الأخطر.. وبعض الناس لا يلقي له بالا

في الخبر عن وزارة الدفاع السورية الثلاثاء 3/ 6/ 2025.. أن الوزارة تشتغل عبر فريق من المختصين، على صياغة عقيدة عسكرية لكل السوريين، ويردف المتحدث باسم الوزارة: لا نريد أي شرخ أو تشرذم في بنية الجيش السوري!!

وبوصفنا مجتمعا خارجا من محنة أو حرب فرضت عليه، أقترح أن نعيد صياغة العبارة الأخيرة فأقول: لا نريد أي شرخ أو تشرذم في بنية مجتمعنا السوري…

إن الوعد الجميل الذي تطلقه وزارة الدفاع في الاشتغال على العقيدة العسكرية للدولة السورية، وليس فقط للجيش السوري، لهو أمر جميل ومبشر؛ ولكنه في رأيي يستحق دائرة أكبر من المشاركين في بناء عقيدة عسكرية ركينة للمجتمع وللجيش السوري.

وفي الحديث عن العقيدة العسكرية لعلنا نحتاج إلى شيء من الشرح وزيادة التفصيل.

 والجانب الذي يهمني بوصفي مواطنا عاديا يهتم بالخلفية الفكرية والأخلاقية لكل المشاعر التي يجب أن تسود في عالمنا النفسي، والسلوكات التي يجب أن تضبط أفعالنا وتصرفاتنا، إزاء جميع الدوائر المجتمعية التي نعيش على تماس معها؛

لن أمر في هذا المقال على جملة الاستراتيجيات والقواعد التشغيلية التي يجب أن تشتمل عليها العقيدة العسكرية، والتي تنطلق من خلفيات أو تحدد القواعد والأساليب والتكتيكات..!! فهذا الجانب التقني التخصصي من العقيدة العسكرية ليس من شأننا في هذا المقام، وإنما سأكتفي في هذا المقام بالتعامل مع الجانب الإنساني والأخلاقي الذي يجب أن تحدده العقيدة العسكرية، ثم تبنيه الدولة بكل مؤسساتها بثبات ووضوح ودأب في نفس كل فرد ينضم إليها. تبنيه على مستوى الشعور والفكر والسلوك في وقت معا، وتتضافر جميع المؤسسات الوطنية على توضيحه وترسيخه.

وإذا طلبتم مني أن أوجز "العقيدة العسكرية" بكلمة واحدة لقلت إن تجسيد العقيدة العسكرية يتمثل في إعادة "إيقاظ الضمير الحي" في قلب كل عسكري بل في قلب كل مواطن. والضمير العسكري هو البوصلة الحية التي تظل ترشد كل إنسان في المواقف الصعبة: افعل.. أو لا تفعل..

انتبهوا..

أتحدث عن افعل ولا تفعل ليس في ميدان التصدق على فقير بدرهم أو دينار.. بل في ميادين تتعلق في أخص خصوصيات الإنسان

وباللغة الصريحة الفصيحة : اقتل.. أو لا تقتل.. وعكسها استقتل بمعنى عرض نفسك للقتل، فالأمر يستحق، أو لا تفعل فالأمر أقل استحقاقا..

في المجتمع الذي نشأنا فيه، والذي طويت مع الأسف أعلامه، تحت وطأة فقه وافد استبد بنا تحت وطأة الكثير من العوامل؛ عُلّمنا أن القتل هو أعظم جريمة يرتكبها الإنسان بعد الشرك بالله..

ثم عشنا في العقود الأخيرة مرحلة مظلمة شاع فيه شعار "القتل للقتل" ومن قتل أكثر كان لله أقرب!! وأصبح الاشتراك في القتل أو في التقاتل، معلما من معالم البطولة عند جمع من المتحاربين..

وأظن أن مثل هذا كان في كوسوفو وسراييفو وفي الحرب في رواندا بين التوتسي والهوتو، وفي مواطن أخرى سأتجنب ذكرها لئلا أثير عليّ أصحاب النعرات..

الجانب الذي يهمنا من العقيدة العسكرية كجمهور وطني عام أن نحدد بدقة وبجلاء وبوضوح وبحسم من غير تردد:

من هو العدو…

ولأي سبب مقنع سأقتل أو سأقبل أن أُقتل؛ عندما تصدر لي الأوامر من قيادتي العليا بالقتال. وكل من قاتل كان عرضة ليكون مقتولا أو قاتلا…

في شريعتنا الإسلامية الضابط العملي للقتال أن يكون "في سبيل الله" ولكننا رأينا أن هذا الضابط مع قدسيته وتعاليه، بقي بفعل الفاعلين مع الأسف أكثر مطاوعة لمن أراد توظيفه…

أعجبتني ملاحظة صحفي أمريكي كان يراقب قتالا فصائليا على جبهة من الجبهات، فكتب: يستيقظون في الوقت نفسه، يتوضؤون بالطريقة نفسها، يتوجهون إلى القبلة نفسها، يقرؤون من الكلمات نفسها، يركعون ويسجدون للخالق الواحد نفسه… ثم إذا انفلتوا من صلاتهم فتحوا النار على بعضهم كأنهم…!!

إذن..

نريد عقيدة عسكرية وبمعنى أدق عقيدة قتالية أكثر وضوحا وأكثر حسما وأقل غبشا وأقل نزقا..مما سوّف المسوفون.

عقيدة عسكرية

تحدد لنا من هو العدو.. تصف العدو بفعله وليس بهويته!! كما فعل القرآن الكريم تماما: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ..) استثناهم بأفعالهم، وليس بلون عيونهم!!

علمنا القرآن الكريم أن نميز بين العدو المحارب، والمخالف الذي لم يحارب. فهل نمتلك الجرأة لنقول كما قال القرآن!!

نريد عقيدة عسكرية..

تحدد لنا منظومة قيم الحفاظ وترتبها في سلم أولويات....

وتضع القيم الإنسانية الكبرى في سياقاتها الشرعية والمدنية..

نريد عقيدة عسكرية تلحق بالكتب المدرسية، لتعلم على مقاعد الدراسة الابتدائية فلا يتلاعب بها مستبد فاسد، ولا متعالم جاهل، عقيدة تحمي الحق في الحياة والحق في الاعتقاد والحق في التفكير والحق الصون…

نريد عقيدة عسكرية..

 يشترك في صياغتها أولو الأحلام والنهى في مجتمعنا السوري، الذي يحاول أن يستعيد عافيته.. لا تعلم للعسكريين فقط بل تعلم لتلميذات وتلاميذ المدارس في صفوفهم الأولى..

إن خللا كبيرا قد أصاب عقيدتنا هذه في الصميم خلل لم يعد ينفع معه الترميم.. بل لا بد لنا من إعادة البناء على الأسس الركينة بالفهم الرصين..

ومررت بهذه التجربة منذ 1964..

كان أحدهم يتباهى أمامي بأنهم قتلوا ويقتلون!! قلت لهم أنت تقتل أناسا مختلطين فيهم كما تقول البر والفاجر..فكيف تفعلون؟؟

أجابني: نعجل بالفاجر إلى النار، وبالبر إلى الجنة!! كنت صغيرا يومها لأقول له: إن الله سبحانه قال لنبيه: (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ)، وقال له (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)

سنضاعف الشكر لوزير الدفاع إذا استرعف لصياغة الجانب الإنساني من عقيدة جيشنا العسكرية بأكابر الأكابر من رجال الفقه والثقافة والسياسة إلى جانب ما يقتضيه المقام من أصحاب الاختصاص..

لقد سئمنا من أفعال القتل والتفجير والتدمير...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1127