أحداث غزة كشفت عن الوضع القائم في عالم اليوم المعطلة قوانينه ومؤسساته الدولية والسائبة أموره
بداية لا بد من التذكير بموقف الغرب المنحاز كليا إلى الكيان الصهيوني إثر حدث طوفان الأقصى الذي هو في الحقيقة عبارة عن رد فعل لفعل الحصار الخانق الذي ضربه هذا الكيان على قطاع غزة لعقود ، وكان يهاجمه بين الحين والآخر، وهو في هذا الوضع المزري ، لكن الغرب اعتبر الطوفان فعلا غير مسبوق بفعل سابق عليه وليس رد فعل، بينما اعتبر اجتياح الكيان للقطاع ومحاصرته ، وإبادته الجماعية لأهله وتجويعهم رد فعل على الطوفان.
ولقد كان من المفروض أن يكون للقوانين والمؤسسات الدولية ، وعلى رأسها مجلس الأمن موقفا من عقود الحصار الجائر على قطاع غزة باعتباره تصرفا خارج عن القانون الدولي ، وغير مقبول من الكيان الصهيوني إلا أن ذلك لم يحدث لذلك كان لا بد من زحزحة وضعية هذا الحصار بطريقة أو بأخرى من طرف المحاصرين الذي اختاروا اختراقه في عملية سموها طوفان الأقصى ، وهي تسمية أريد بها لفت أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية التي لم تسو بعد مرور عقود على احتلال فلسطين ، وبعد أن تم تجميد ما سمي بمسلسل السلام ، وبعد ما بدأ الحديث عن تنزيل ما سمي بصفقة القرن ، أو الشرق الأوسط الجديد، أو البيت الإبراهيمي، وهو ما أفرز التطبيع على حساب قضية الشعب الفلسطيني .
ولقد تزامن العدوان الصهيوني على قطاع غزة ردا على انتفاضة طوفان الأقصى مع فترة انتقال صنع القرار من الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوي في الولايات المتحدة ،وهما معا يدعمان وبلا حدود الكيان الصهيوني ،بل يتنافسان في ذلك كأشد ما يكون التنافس . و لقد استغل الكيان الصهيوني هذه الفترة الانتقالية كي حصل على المزيد من الدعم بكل سخاء من الحزبين معا ، فشحنت إليه كل أنواع الأسلحة التي لم تستخدم من قبل ، وقد ذهل العالم لما أحدثته من دمار شامل غير مسبوق في قطاع غزة .
وانتظرت شعوب العالم أن تفعل القوانين الدولية عبر مجلس الأمن إلا أن الفيتو الأمريكي لم يقف عند حد نقض قراراته المتتالية بخصوص قطاع غزة تدين العدوان على أهله ، بل عطلها كليا ، وشلّ هذا المجلس وحال دون القيام بمهامه على غرار ما كان عليه حين كان الأمر يتعلق بدول معتدية وخارجة عن القوانين والأعراف الدولية . ولم يبق مجلس الأمن هو المؤسسة الدولية الوحيدة التي عطلت بسبب الفيتو الأمريكي المستعمل أكثر من مرة خلال العدوان على قطاع غزة، بل عطلت أيضا المحاكم الدولية سواء محكمة العدل أو محكمة الجرائم ، وقد أدانتا معا رئيس وزراء الكيان الصهيوني ، ووزير دفاعه باعتبارهما مجرمي حرب مسؤولين عن جرائم إبادة جماعية . ولم يقف الأمر عند حد انتقاد الولايات المتحدة هاتين المحكمتين، بل هددت قضاتهما .
وهكذا أصبح العالم في وضعية المعطلة قوانينه ومؤسساته الدولية ، واغتنم الكيان الصهيوني هذه الوضعية كي يتمادى في غطرسته ، وعدوانه على ملوني شخص محاصرين في قطاع غزة ، وهم يتعرضون للإبادة الجماعية، لا يتوقف طيرانه الحربي ،ومسيراته ، ومدفعيته عن دكهم ليل نهار . وآخر أسلوب في هذه الإبادة هو قنص جنود الاحتلال من يصطفون من الجياع في طوابير للحصول على لقمة طعام تسد الرمق ، وتدفع عنهم خطر الهلاك بسبب مجاعة قاتلة .
ويحدث كل هذا والدول الغربية خصوصا بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا وبما في ذلك الولايات المتحدة ماضية في تزويد الكيان الإجرامي بالمزيد من الأسلحة الفتاكة ، وهي لا تبالي بما يرتكبه من جرائم إبادة الجماعية ، ولا بالمجاعة الفتاكة التي يتعرض لها أهل غزة، بالرغم من خروج شعوبها الغاضبة في مسيرات ومظاهرات مليونية منددة بذلك ،فضلا عن مثلها في باقي الأقطار الغربية ، وسائر أقطار العالم ، ويكتفي بعضها بالتعبير الفاترعن أسفها عما يحدث من إبادة عن طريق القصف ،والتقتيل ، والتجويع ، بكل لطف تطلب من الكيان الإجرامي السماح بإدخال بعض الطعام إلى القطاع المحاصر والمجاعة قد استفحلت .
أما ما يسمى بالدول العظمى كالصين وروسيا ،فلا أثر لدورهما في إيقاف هذه الحرب القذرة ، ذلك أن روسيا مشغولة بحربها مع أوكرانيا ، والصين مشغولة باقتصادها وتنافسها مع الولايات المتحدة على قيادة العالم . ولقد كان من المفروض وهما قوتنا نوويتان أن يصدر عنهما موقف صارم من تعطيل القوانين والمؤسسات الدولية ، ومن دوس الكيان الصهيوني عليها استخفافا بها حتى بلغ به الأمر حد قرصنة البواخر في المياه الدولية والعدوان على الدول العربية المجاورة لفلسطين وحتى البعيدة عنها ،فضلا عن دولة إيران . وهذا الموقف من الصين وروسيا إنما يدل على تواطىء صارخ منهما ، كما يدل على انشغالهما بمصالحهما على حساب مظلمة الشعب الفلسطيني . ويحدث هنا في غياب منظمة المؤتمر الإسلامي الذي صار اسما بدون مسمى .
وأما باقي دول العالم وعلى رأسها الدول الإسلامية التي توصف بالنمور الأسوية وهي الباكستان ، وماليزيا ، وأندونيسبا إلى جانب تركيا ،فلا يزيد موقفها عن الشجب والتنديد بالإبادة الجماعية وبالتجويع ، وهي لا تبالي أيضا بمسيرات ومظاهرات شعوبها المليونية الضاغطة من أجل فك الحصار عن القطاع .
وأما دول العالم العربي فلا يختلف موقفها عن موقف باقي الدول التي تتفرج على أهل غزة ، مع أنها معنية بالقضية الفلسطينية بالدرجة الأولى، وبعضها قد صارمطبعا مع الكيان الصهيوني ولما تسو بعد المشكلة الفلسطينية ، لا يجرؤ على إدانته أوشجب جرائمه ، و بينما البعض الآخر لا يتجاوز الشجب والتنديد ، وربما ترغمه على ذلك مسيرات ومظاهرات شعوبه المنددة بجرائم الإبادة الجماعية، والتجويع ، والحصار الخانق. ويحدث هذا في غياب جامعة الدول العربية التي تمر بموت سريري منذ عقود .
وأما السلطة الفلسطينية فهي تحمل من سماهم رئيسها أولاد الكلب من المقاومين المرابطين على ثغر غزة مسؤولية ما يحدث في القطاع منتظرا تصفية الكيان الصهيوني لهذه المقاومة كي يستتب له الوضع لبسط سلطته هناك ومواصلة التنسيق الأمني معه كما هو عليه الحال في الضفة الغربية منذ اتفاقية أسلو وفي ظرف انتشار المستوطنات في طولها وعرضها.
وأما باقي دول العالم في القارة الإفريقية ، وفي أمريكا اللاتينية، فمعظمها غائب عن المشهد الدولي ، وبعضها له علاقة دبلوماسية مع الكيان الإجرامي ،وأنظمتها تؤيد الكيان العنصري الإجرامي .
وفي هذا الوضع الغريب الذي آل إليه عالم اليوم ،يصول الرئيس الأمريكي ويجول ، ويهدد ، ويتوعد ، ويبتز ، ويهين ويسخر من قادة الدول الذين يحضرهم قسرا إلى بيته الأبيض مرغمين صاغرين ،ويساومهم في مقدرات بلدانها بما فيها المدسوسة في باطن الأرض من أجل تحقيق رفاهية بلاده ،وكأنه سيد هذا العالم دون منازع ،وهو ماض مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني في مخطط التهجير القسري لأهل غزة من أجل تحقيق حلم " الريفيرا " الذي يحلمان بالاستجمام بها بعد توسيع دائرة التطبيع ، وتحقيق حلم الوطن التلمودي العنصري من النهر إلى البحر ، وما بعدهما إلى أبعد الحدود .
فهل سيستمر وضع عالم اليوم على ما صار عليه أم أن ما بعد طوفان الأقصى ستجري رياح بما لا تشتهي سفن ترامب، ونتنياهو ، وقادة الغرب ،وكل الخاضعين، والمنبطحين ، والخاذلين قضية فلسطين المقدسة ؟؟؟
وسوم: العدد 1129