مدينتي، لقاء بعد خمسة عشر عاما من الغياب القسري
ماإن ارتميت في أحضانها بعد رحلة مضنية من الانتظار والترقب و من التأرجح بين اليأس والأمل بلقائها ، ومن طول السفر وضنك المسير ، حتى فاجأتني سحنتها المنهكة ، وصعقني محياها الهرم.
رأيتها تقوم مترنحة من رقاد المرض وغيبوبة السقم ، تحت وطأة رصاص القناصة ،وقنابل الموت، وركام المنازل ،وأشلاء الموتى ، وبراثن الجوع ، ومتاهات الظلام، وشح المياه ، وكارثة الزلزال.
رأيتها تصارع لأجل البقاء رغم جراحها المثخنة وأوصالها المتعبة ،وذهلت حقا أمام سبل عجيبة لكسب الرزق ولقمة الحلال . لقمة تأبى التسول مغلفة بالكرامة وبعزة نفس لا تضام.
لقمة تائهة بين باقات الورود الحمراء التي تصارع الذبول قبل أن تصل إلى يد عاشق ويصل ثمنها رغيفا في بطن جائع.
لقمة تائهة في سيارات كهربائية تؤجر لراكبيها من الأطفال في الحدائق العامة .
تائهة في أكياس الخبزعلى رؤوس النساء والرجال والأطفال في حر الأصائل اللاهب .
تائهة في عربات هزيلة تدفعها مخلوقات هزيلة لأجل كسب هزيل .
رأيت طفولة بائسة (جيل المستقبل الواعد) طفولة تتربع على أكوام القمامة ، تتناقل شم (الشعلة) عسى أن تنعم بغيبوبة عن ماض مفجع، وحاضر مؤلم ، ومستقبل مجهول .
رأيت المقاهي متخمة برواد الشيشة من الشبان والشابات .
رايت الإنسانية تسقط زيفا لانهيار صنم الساحة ، ولم تسقط أمام انهيار الطفولة المحتضرة ، والصبا الضائع.
رأيت المقاهي تحتل أرصفتها ، والسيارات ذات الأرتال الثاني والثالث تحتل شوارعها ، ولامكان للمشاة!.
ولكن ، وللأمانة لم يقتصر لقائي بها على هذا الكم من الهجيرالمادي والمعنوي ، بل كانت هنالك واحات ظليلة من صداقات قديمة نهضت بعد طول رقاد ، لتغمرني حبا ودفئا وسلاما، فودعت فيها غير آسفة حمية صارمة ، أمام موائد الكرم والسخاء الحلبي التي لاتضاهى .
بل لم أصدق أنني سأعثر على واحة مدهامة الظل من الأمل والأمن والأمان.. حتى زرت جنانها الخفية ، في ربوع الجوامع المنسية . الفردوس الأثري والظاهرية والرحيمية والحلوية.
في رحاب هذه الجوامع ، عثرت صدفة على براعم فتية ، معدمة حقا ، ولكن في أحداقها يكمن بريق الإيمان .
فهي تقتات بالذكر، وتعيش في ظلال التقوى ،وترفل بحلل حفظ القرآن.
أزجيت في إحدى زواياها، كلمة مقتضبة عنوانها( البحث عن السعادة) فشعرت بالاستحياء وأنا أطرح مفهوما باهظ الفهم على حضور متواضع الأحلام.
كانت السعادة كلمة مجهولة وعويصة المعنى وعصية تماما على الفهم، لدى الفتيات الصغيرات ، التي لم تطمح قلوبهن للسعادة في ظل الحرمان والجوع والفاقة .
هكذا كان لقائي ب مدينتي الوليدة ، المتعثرة في أولى خطوات الحياة .
مدينتي اليوم تنتظر عودة أبنائها في الخارج ، إنها تنظر بشوق عارم وصبر نافذ إلى عقول راجحة ، وسواعد قوية ، وهمم عالية ، وثروات بناءة ، وقبل كل شيء قلوب عامرة بالحب والشوق والوفاء.
عندما حان الرحيل وقفت على أعتابها وأشحت بوجهي عن أكداس الفوضى والمعاناة والألم والتناقض ، وهتفت من أعماقي ، أحبك يا مدينتي ،أحبك ياحلب ، والحب لايشترط الكمال.
وسوم: العدد 1129