طبيعي أن تكثر وتتكاثر الظاهرات الوقتية ...

عقاب يحيى

طبيعي، أو مفهوم.. أن تفجر الثورة السورية كل الخزين المكبوت على مدى العقود، وربما القرون . وأن تظهر على سطحها أفكار وأقاويل، ومحاولات، وطروحات مختلفة.. بعضها طبيعي، وبعضها مستهجن يحمل معه، وفي صلبه شحنات خاصة، أو مشبوهة، أو خطيرة.. كاستبدال الصراع الوطني، والانتماء، والهوية الموحدة بأخرى إثنية، ودينية، ومذهبية، وعشائرية، وربما جهوية، وحتى حاراتية وزواريبية وغيرها كثير مما يطفو اليوم على سطحها .. حيث أن كل شيء  جائز الطرح في سوق التفاعل.. وفي هذه الهبّة التي تشبه الطوف الكبير الذي يحمل معه الكثير من الأنواع والأثقال.. بعضها يفوش على السطح حيناً، وبعضها كالزبد أو الفقاقيع، وهناك الراسخ : النبع والمجرى والأساس ..

ـ السوري العاشق للسياسة والاهتمام بالشأن العام : أهين كثيراً، وتعرّض للذل والإخضاع والكبت والقمع بأنواعه، وصولاً للإقصاء المبرمج، والتهميش، والتدجين المكين، وحتى اغتيال إنسانيته، وأحلامه، وطبيعته.. التي استدلت بأخرى ملفقة، ونفاقية، وانتهازية.. وعابرة ..

ـ والسوري الذي حمل المشروع النهضوي وجاب به الوطن العربي بسماته التوحيدية، الحضارية، الحداثية، وكانت له بصماته القوية في كل أحداث المنطقة، وثوراتها التحررية، والذي بنى أول حالة ديمقراطية كانت رائدة رغم النواقص والجدّة، والتحديات، والذي لم يتخلَ يوماً عن واجباته القومية والإنسانية، وعن استقبال ملايين العرب في محنتهم وشدائدهم.. ذلك السوري الخصب العطاء والإبداع.. أصيب بالخواء القسري، فكبت، وتحمل. صبر وعديده أراد التعويض هجرة واغتراباً، أو صمتاً ومجاملة.. خاصة مع ولادة برجوازيات جديدة لا أب لها ولا أم.. من رحم الطغمة الحاكمة، وعلى هوامشها، أو ضمن خيوطها المافيوزية..

ـ ذلك السوري الذي عاش الهزائم والفوات، ودجل أصحاب الشعارات، وعايش كيف مسخها هؤلاء وداسوها بأقدام نهبهم وفحشهم.. كان يعرف الذي يجري من ممارسات وموبقات، وما يتمّ من تحشيد وموضعات طائفية، وغيرها.. فيكتفي بالهسيس خوفاً من كاتب تقرير، أو جهاز تنصّت، أو " ابن حلال" يقبض أجر ما يكتب ويؤلف.. فعم الخوف، والتوجس وفقدان الأمان والثقة.. وثقافة" دبر رأسك" وسلع الاستهلاك وأفكارها..

وكانت الثورة زلزالاً وتفجيراً لكل ذلك الخزين.. كانت سلمية، حضارية، واضحة المنبت والمطالب والسمت والبوصلة.. فارادت الطغمة تشويهها منذ البداية، ومحاولات حرفها .

ـ الطغمة خبيثة وصاحبة باع طويل في الاختراق والجريمة، وفي الادعاء والتأليف، وفعل ما تخطط له، إن كان عبر تصفية واغتيال أبرز الناشطين، واعتقال عشرات الآلاف منهم ومساومة بعضهم، أو في تجنيد عملائها الكثر، أو في التأجيج الطائفي وصناعة الحكايات واتلقصص، أو في الدفع ـ ما أمكنها ذلك نحو الاحتراب المذهبي، أو في إجبار الناس على حمل السلاح دفاعاً عن الحياة والعرض والكرامة.. ثم محاولة الصيد في هذه التطورات .

ـ  إجبار الثوار على حمل السلاح، وجرائم النظام المبرمجة من جهة، والموقف الدولي من جهة أخرى.. وعدم حسم معركة المصير مع الطغمة من جهة ثالثة.. وطول الوقت من جهة رابعة.. وحال المعارضة التقليدية وأوضاعها، من جهة خامسة، وافتقاد الثورة لإنتاج قيادات من بين صفوفها، من جهة سادسة، ودخول أطراف كثيرة على الخط، من جهة سابعة فيما يشبه التدويل..... وعوامل أخرى تتشابك في اللوحة السورية ..

ـ جميع هذه المفاعلات المتداخلة.. جعلتنا نرى تلاويناً مختلفة تبرز على السطح.. وكأنها هي الأصل، وهي الثورة.. فيصرخ كثير، ويخاف كثير من مآل سلبي، ويركز كثير على السلبيات والشخصنة، وعلى ظواهر خطيرة بالفعل.. ليصدر حكماً، أو يشتقّ حلولاً .

ـ ضمن هذه اللوحة طبيعي أن تظهر دعوات مختلفة.. خطيرة، ومخالفة لروح الثورة، وأسس الوحدة الوطنية، والدولة المدنية الديمقراطية، وان يسعى البعض إلى إيجاد ذواتهم التي سحقت طويلاً في أي ظاهرة، أو "مبادرة"، أو حالة.. لكن.. لن يصح سوى الصحيح.. فالثورة مستمرة، وفي عمقها، وفي ذاتها تولذ الحقيقة . حقيقتها وحلمها ببناء بلد يتجاوز إرث الإجرام والفئوية والاستبداد، فيصون الوحدة الوطنية ويعززها على كل شبر من الجغرافيا، ويحقق المساواة بين المواطنين جميعاً بما يتجاوز كل تخم إثني أو ديني أو مذهبي.. وعندها سترتقي الناس إلى مصاف الحق والعدل .. وستتجاوز أطروحات التفريخ الوقتية.. وستنجح الثورة في تجاوز عديد الظاهرات الطافية هذه الأيام على السطح.. لأنها أصيلة، ولأنها تبني الإنسان السوري على وهجها، ووقع تضحياتها ..