شمسٌ وقمرٌ وبشر

صالح محمّد جرّار/جنين فلسطين

[email protected]

وفي الأصيل ،جرّرَت الشّمسُ أذيالها ، وصارت تهتزّ بين يدَي المغيب ، وهي تبدو صفراءَ عاصبة الجبين ، من هول ما رأت في مملكة النّهار، ثمّ ألقت على عالمنا نظرات التّوديع ، وقد وقعت فريسة العواطف المتباينة . فتارة تستشيط غيظاً على البشر ،فتنتشر الحمرة القانية على وجهها ، وتارة ترثي لهم بنفس تشيع فيها الكآبة والبؤس ،وتتشح بوشاح أصفر كئيب .ثمّ تتعاورها شتّى العواطف. وهي في كلّ مرّة تتلوّن بتلوّنها وكأنّ العواطف كلّها قد استبدّت بها ،فبانت ألوانها معاً على قسمات وجهها.ثمّ ضاقت ذرعاً بهذا الشّطر من العالم ، فأشاحت بوجهها عنه لتُطلّ على شطر آخر، علّها تقرّ به عيناً ، فتمحو من مخيّلتها أطياف الماضي الأليم . وأخيراً غيّبها الأفق بجوانحه الملتهبة. وما لبثت أن اختفت معالمها ،وخلّفت الكون لليل المهيب !

 غير أنّ الشّمس ودّت أن تعرف نهاية ما مُثّل على مرأى منها من تمثيليّات في النّهار، فبعثت القمر نائباً عنها ورسولاً ليرقب من عَلٍ نهاية فصول الرّواية. وأخذ القمر يحبو في أديم السّماء هلالاً في مطلع الشّهر، وأطلّ على الكون من بعيد ، وما كاد يشهد من رواية الليل إلاّ بعض فصل حتّى عاد أدراجه ، والأسف قد أخذ منه كلّ مأخذ ، فبدا أصفر هزيلاً ،وما زال جادّاً في الرّجوع ،حتّى بلغ مأمنه ،وغاب عن الأنظار، وراغ إلى أمّه الشّمس فزِعا مذعوراً ،فطيّبت خاطره ، وهدّأت من روعه وقوّت من عزيمته ، وأوصته بالصبر والتّأنّي ليتمكّن من كشف كنه الكون، والاطّلاع على مكنونات سرّه .

 وهكذا كانت أمّه المتوقّدة مراساً وخبرة تُلَقّنه درساً بعد درس ، وتشُدّ أزره في كلّ مرحلة من مراحل نموّه ، وتدفع به في كلّ ليلة ، ليشهد فصولاً لم برَها من قبلُ ، ولِيُوَسّع مداركه ويزيد معلوماته عن بواطن هذا الكون وظواهره ، وما زال يستكمل مراسه ، ويشتدّ عوده ،وأصبح بدراً كاملاً ، فحقّ له أن يكون ملك الليل ، فبات يرعى الكون من تحته ، ويديم النّظر إلى أفراد مملكته. وكان عادلاً في ملكه، فلئن ارتفع مقامه ، وابتعد مقرّه ، فإنّ نوره في حوز كلّ ضالّ ومستنير ، لم يضنّ به على عاصٍ أو مطيع ، حتّى غدا مضرب الأمثال ، تُشَبّه به الملوك والأقيال . فهذا شاعرٌ يقول في ممدوحه :

كالبدر أفرط في العلُوّ وضوؤه للعصبة السّارين جِدُّ قريبِ

لكنّه غير آبه لمدح النّاس إيّاه أو ذمّهم ، فهو فيلسوف حكيم ، في جعبته الكثير من أخبار أهل الأرض ، فهو يعرف فقيرهم وغنيّهم ، شقيّهم وسعيدهم، غابرهم وحاضرهم . فكم من فصول مُثّلَت تحت أضوائه،وهو يبسم لها ابتسامة الحليم ،غير أنّ للحليم غضبةً يجب أن نحذرها . وقد يشهد هذا الحليم مشاهد لا تطاق ، فيحاول أن يتلفع بأردية السّحب ، أو يغيب عن مملكته، لئلا يبصرها، وقد يشتدّ به الغضب ، فيبدو مخسوفاً من هول ما رأى ، ثم يثوب إليه حلمه ،ويعود سيرته الأولى. يراه الجاهل فيظنه أخرس أصمّ ، ولكنّه في نظري ينطق بالعبر، غير أنّ نطقه يختلف عن نطق البشر، فلا يفهمه إلاّ كلّ عاقل حكيم متبصر في الأمور .

 وفي ليلة من ليالي الصّيف، تخلّصت فيها من مشاغل دراسة العلوم الظّاهريّة ، وهربت من سطور الكتب السّوداء ، واعتليت سطح منزلنا ، لأمتّع بصري وبصيرتي بمشاهدة القمر المنير والنّجوم الزّاهرة . فما مضى إلاّ زمن يسير ،حتّى وجدت نفسي أمام دروس عجيبة، وسطور غريبة غير تلك الّتي هربت منها . إنّها دروس باطنية ، وسطور رمزيّة . فرنوت إلى القمر بعينٍ بصيرة ، وحلّقت إليه بروحي وإحساسي ومشاعري . وطال صمت اللسان ،وبدأ حديث الرّوح والجَنان . فحدّثني القمر حديث الفيلسوف ، وشرح لي أطواراً من حالات النّفوس ، ودعاني إليه لأرقب الأرض معه من هالته ، فبعثت إليه بروحي وإحساسي ، ونظرتْ روحي بمنظار القمر إلى مشاهد الأرض ، فلاح لها في حيّ من الأحياء الرّاقية ،مظاهر التّرف والنّعيم ، في حين باتتْ أحياء أخرى في إطار بؤسها وخشونة عيشها !!

 رأت في الحيّ الأولّ مسارح الطّرب والغناء ، تعُجّ بالمترفين والأغنياء وكؤوس الطّلا تتراقص في أيديهم ،وضجيج عربدتهم قد صمّت آذهن الجوزاء . فأشاح القمر وروحي بوجهيهما عن هذه السّاحات المعربدة، وتطلّعا إلى الحيّ المتواضع الفقير ، فإذا بأصواتٍ تختلف في نغماتها ، وتتحد في مطالبها ، إنّها جميعاً تطلب غوث الرّحمن ورحمة الدّيان !!

 فهذا بيت ينطلق منه صراخ أطفالٍ فقدوا عائلهم ، وهم يتضوّرون جوعاً ، بينما تفنى أمّهم في الدّعاء إلى الله السميع العليم الرّحيم أن يهبها من أمرها فرَجاً !!

 وذاك بيتٌ آخر يُؤوي أمّاً وطفلاً وأباً شابّاً في عمره كهلاً في جسمه ونفسه ، فقد ناء عليه الدّهر بكلكله ، فرماه بسهام الفقر والفاقة ، وسلّط عليه وحوش الأمراض تنهش من جسمه!! ومن هذا البيت تتصاعد أنغامٌ

حزينة تذيب لفائف القلب والفؤاد .

 وطفقت روحي تسيل مع نور القمر، في كلّ بيت فيه ترحة ، وفي كلّ كوخ فيه لهفة ، حتّى سكرت من غير المدام ،وكادت تفقد الوعي والشعور كلّياً ، فنبّهها القمر من غيبوبتها، وأنهضها من سكرتها، وأخذ يُنشد :

 رُبّ ليلٍ في الدّهر قد ضمّ نحساً وسعوداً وعُسرةً ويسارا

 ثمّ همّ بتوديعها ، غير أنّه دعاها أخيرأ ليريها حقيقة الإيمان، وكنه السّعادة في الدّنيا . فأشار بنوره إلى قصرٍ مُنيف ،قد جُلّل بالسّتائر الحريريّة وغطّت جدرانه الدّاخلية الطّنافس والزّخارف ،وأضاءته الأضواء الملوّنة بشتّى الألوان المغرية ، وجال وانتشر في أنحائه الجواري والقيان والخدم والولدان ، وكلّهم يسْعَوْن لخدمة سيّدهم ،وتوفير أسباب الرّاحة.ولكنّ سيّدهم هذا أبعدُ ما يكون عن الرّاحة ، فهو في جنّته الزائفة ، مغمومٌ مهمومٌ ، لا يذوق للرّائحة الحقيقية طعماً ، فهو مشغول بالأموال وتثميرها والحرص عليها ، وكثيراً ما يهرب من هذه الهموم إلى كؤوس الطّلا ومعاشرة الحسان ، وهو بذلك يهرب من شرّ إلى شرّ فلبئس هذه الحياة الّتي يحياها !!

 ثمّ أشار بأنواره ثانية إلى كوخ لا تأبه له العين ، ليس فيه فيض الثروة ولا نعيم الغنى ،لا يعرف أهله من الأضواء إلاّ ضوء القمر المنير ، ففيه يجدون هناءهم وسعادتهم ، وإذا ما حُرموا أنواره الفضيّة ، عمدوا إلى نور مصباحهم الضّئيل ، ليبدّدوا ظلمة الليل البهيم . إنّهم زوج وأمّ وأطفال صغار ، يرتدون الأسمال البالية ،تبين أجسامهم من فتوقها . ها هم في مرحٍ وحبور ، وقد استداروا حول طبق من القشّ ، عليه طعام العشاء ، إنّه خيز الشّعير مع حبّات من التّمر . ها هم قد انتهوا من تناول عشائهم ، فحمدوا الله ـ سبحانه وتعالى ــ على نعمه وآلائه ، وقاموا فأدّوا صلاتهم وعبادتهم لله تعالى ثمّ قضَوا شطراً من ليلهم في ضحك ولعب ومسرّة ، وراحوا يعد ذلك يغطّون في نوم عميق ، هادئين مطمئنين،فهتف القمر :إنّها القناعة كنز لا يبلى ، إنّها سر السّعادة، إنّ السّعادة هي سعادة النّفس ، وليست سعادة المال ثمّ أنشد قول الشّاعر :

يا خادمَ الجسم ،كم تشقى لخدمته أتطلب الرّبح ممّا فيه خسران؟

أقبل على النّفس واستكمل فضائلها فأنت بالنّفس لا بالجسم إنسانُ

 وودّع القمر روحي ، وسار مسرعاً إلى غايته ،فانتفضتُ من ساعتي منتبها، ورحت مهرولا إلى الفراش، حيث بدأت أحلم بما حدّثني به القمر المنير !!