دراويش الناصرية بين مرسي وأردوغان !

دراويش الناصرية بين مرسي وأردوغان !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

رأيت على الشاشة بعض دراويش الناصرية يواصلون وصايتهم المرفوضة على الشعب المصري . لا يتحدثون من منطلق حرية الرأي والتعبير ، ولكن يقررون بما لا يقبل الرد أو النقض أنه ينبغي على الرئيس المصري أن يفعل أو لا يفعل ، وإلا كان غير جدير بمنصبه ووظيفته . كما يجب على الشعب أن يفعل أولا يفعل وإلا استحق حكم الإخوان والظلاميين !

من حق الناس جميعا أن يدلوا بآرائهم ووجهات نظرهم ، ولكن ليس من حق بعضهم أن يفرضوا وصايتهم على الجموع كلها بحجة أنهم يرون ما لا تراه هذه الجموع ، أو إن هذه الجموع –من وجهة نظرهم -  قاصرة في الفهم والتفكير والتخطيط .

الأقلية الناصرية تحاول أن تبدو أنها الأكثر فهما ووعيا ووطنية وديمقراطية ، ولكن الواقع يقول غير ذلك ؛ فعشرات الملايين من المصريين يملكون فهما ووعيا ووطنية وديمقراطية تفوق ما تملكه الأقلية الناصرية والمتحدثون باسمها . وهذه الملايين تعرف شيئا لا تعرفه الأقلية الناصرية ، وهو فضيلة التواضع .. التواضع .. التواضع !

كان المتحدث على الشاشة مع صاحبه غاضبين من زيارة الرئيس مرسي لتركيا ، واتهماه بالكذب لأنه قال إن وزير الخارجية التركي أول من زاره للتهنئة عقب فوزه بالرئاسة ، وزعما أن أول من قام بالتهنئة والزيارة هو وزير إماراتي وآخر عراقي ، ورأى الناصريان الوصيان أن هذا يعد نفاقا من رئيس مصر للأتراك !

حسنا ، النفاق مقابل ماذا ؟ هل هناك  مصلحة شخصية للرئيس في هذا النفاق ؟ لماذا يفعل ذلك ؟ المسألة تبدو ذات بعد بعيد لا نفهمه نحن ، فالرجل ، أي الرئيس  ، يعرف جيدا أول من هنأه وأول من زاره لأنه المعني بالموضوع ، حتى لوا فترضنا جدلا أنه نسي – وهذا وارد – فالمسألة لا تعني أنه ينافق الأخوة الأتراك . ولكن الوصاية الناصرية المصنوعة على عين الأمن اللاظوغلي تقرر أن الرئيس منافق وكذاب ! أليسوا معارضين على الطريقة اللاظوغلية التي شرعها الرائد موافي وصبيانه ؟

المتحدث على الشاشة يرى أن الزيارة فاشلة ، وأن أردوغان انتهازي ، وكان يذوب تحت أقدام الاتحاد الأوربي ليقبل تركيا عضوا فيه ، ولما فشل اتجه إلى البلاد العربية ومصر . وان إصلاحاته في تركيا لا تغفر له سلوكه الذي أدار فيه ظهره لمصر والعرب في أوائل حكمه ، وأنه حبس سبعين صحفيا تركيا ،وأغلق العديد من الصحف وقنوات التلفزيون ، وأن المسيحيين الأتراك انخفضوا في عهد أردوغان من 10 % إلى 1 % مما يدل على أنه رجل غير صالح . ويقرر المتحدث الناصري الثوري التقدمي أنه لا يوافق أن يصطحب الرئيس معه رجال أعمال في زياراته الخارجية مثلما حدث في زيارته للصين .

تركيا شئنا أم أبينا شقيقة للعرب والمسلمين ، والعلاقة بين مصر والأتراك ممتدة في عمق التاريخ إلى ما قبل أربعة قرون ، والدماء التركية والمصرية مختلطة في كثير من الأسر على الجانبين ، وفي استانبول سوق قائم حتى الآن يسمى سوق المصريين ، وقد زرته قبل أعوام . والأتراك يرون الأزهر قبلتهم العلمية ومناط فخارهم وعزهم ومجدهم . وكانت مصر والعرب والمسلمون يرون الدولة العثمانية ردا قويا على جرائم الصليبيين ووحشيتهم بعد سقوط الأندلس وبداية الاستعمار الغربي ، وسلخ أجزاء عربية وإسلامية وسقوطها في قبضة القراصنة الأوربيين .

وقد تمكن الغرب مع اليهود من تفكيك دولة الخلافة وإنشاء دولة علمانية في تركيا بقيادة كمال أتاتورك الذي ألغي العمامة والطربوش وفرض القبعة ، وأزال اللغة العربية وأحل مكانها لغة تركية جديدة تضم أشتات لغات أوربية تكتب بالحرف اللاتيني ، وحرّم الأذان بالعربية وشطب الشريعة الإسلامية ، ونصب المشانق في ميادين المدن والقرى وعلق عليها علماء الإسلام ، وقليل منهم استطاع الهروب بجلده ، وقبيل وفاته استدعى أتاتورك السفير البريطاني ليحكم تركيا بعد رحيله ولكن الأخير اعتذر !

ظل الإسلام مطاردا وملاحقا ومعتقلا في تركيا حتى انتصر حزب العدالة والتنمية بفضل الله  ، وتحولت تركيا من دولة فاشلة مدينة بعشرات المليارات إلى دولة ناهضة ضمن الدول العشر المتقدمة ، وفي إبريل القادم تدفع تركيا آخر دولار من ديونها المتراكمة عبر عقود العلمانية المتوحشة .

حكومة أردوغان كانت تعلم جيدا أنها لن تُقبل عضوا في الاتحاد الأوربي ؛ لأن جيسكار ديستان رئيس فرنسا الأسبق أعلن بالفم الملآن أن أوربة ناد مسيحي ، أي لا يفتح أبوابه للمسلمين ، ولكنها استفادت من سعيها للعضوية في تحرير قوانينها وإرادتها من هيمنة العسكر والحكومة الخفية في تركيا التي كانت تمثلها عصابة " أورجينيكون " ( تشبه الحكومة العميقة عندنا !) .  وقد استطاع حزب الحرية والعدالة التركي أن يقود البلاد إلى " تصفير " مشكلاته الإقليمية والعالمية  ، وأن يبني الاقتصاد التركي وفقا لنظام عملي لا يتيح فرص النهب والسرقة والاختلاس والفساد . في تركيا أربعة بنوك غير حكومية ( غير ربوية ) تقود الاقتصاد التركي بوعي وذكاء وتشارك المستثمرين ورجال الأعمال في مشروعاتهم وتشتري إنتاجهم وتسوقه ، دون أن تعطي مستثمرا نقودا في يده يهرب بها إلى الخارج ، ويخرج لسانه للسلطة والشعب معا كما يحدث في مصر ! إنها أي البنوك غير الحكومية تدرس المشروع وتقوم بتوفير الأرض والآلات والكوادر العاملة ،وتترك للمستثمر واجب العمل والإنتاج .

عندما يسافر أردوغان أو جول إلى بلد عربي أو إسلامي أو إفريقي يصحبون معهم عشرات رجال الأعمال والمستثمرين ليكتشفوا فرص العمل والإنتاج المشترك .

لم يعرف عن أردوغان أنه تحدى القوانين أو أزري بها في تركيا ، فإذا كان الادعاء بحبس الصحفيين وإغلاق القنوات صحيحا ، فلا بد أن القانون هو الذي تحرك .

كنت أتمني من قومنا الناصريين أن يفقهوا شيئا من الجغرافيا أو التاريخ ليعلموا أن نسبة المسلمين في تركيا كانت تزيد دائما على 99% وأن الكلام عن انخفاض نسبة المسيحيين من 10 إلى 1 % مجرد ترهات لا أساس لها في الواقع التركي ، ثم إنه لم يسمع أن الحكومة التركية الإسلامية مارست عبر سنواتها الماضية تهجيرا للمسيحيين أو اضطهادا لهم .

التعامل مع الأتراك مفيد لمصر اقتصاديا وسياسيا ، وهي أقرب إلينا من دولة العدو الصهيوني ، ومن دول الاستعمار التي لا تشبع نهبا وهيمنة ، وعلاقات الدول أولا وآخرا هي مصالح متبادلة ، وليتنا نتعلم من الأتراك الاعتماد على النفس بعد  الاعتماد الله ، ونستثمر إمكاناتنا ، ونحرك طاقاتنا الكامنة في شتى الاتجاهات لنبني مصر المسلمة بعيدا عن شعارات عبد الناصر وخطبه التي ما قتلت ذبابة ، وإنجازاته الورقية التي جعلت اليهود يحتلون سيناء والقدس والضفة والقطاع وغور الأردن ومزارع شبعا والجولان .. ومعذرة يا دراويش الناصرية ، فمصر وتركيا يد واحدة .