دوائر الظلال

دوائر الظلال

مأمون احمد مصطفى*

[email protected]

قبل الحادي عشر من سبتمبر اعتقد بعضُ العرب والمسلمين أن الغرب والولايات المتحدة قد وصلوا إلى مرحلة التفهُّم الحضاري للوجود العربي الإسلامي، ضمن دواوين الأمم والشعوب والثقافات، بل وانطلق الكثير من الكتَّاب والمفكِّرين إلى تمجيد الرُّؤَى الغربية والشرقية، التي تجاوزت عصور الأحقاد والضغائن والكراهية المُبَرْمَجة للثقافة الإسلامية، فأصبحوا روَّادًا للفكر الغربي الذي كان ينتشر بين المثقَّفين - أو بالأصح: مدَّعي الثقافة - للوقوف أمام الفكر الإسلامي والنهضة الإسلامية، على أنهما جزء من زمن ولَّى واندثر، وفَقَد قدرته وبريقه وتأثيره، إلا القدرة على التخلف، والقتل، والجريمة، والعنف، والارهاب.

وأصبحت الحركات والأحزاب والجماعات الإسلامية هدفًا واضحًا، بطريقة طلية جذَّابة ممنطقة لأقلام المتغرِّبين والغربيين ومَن هو مثلهم في الدول الشرقية، وتحوَّل قادة العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه، بفعل تَبَعيَّتهم المطلَقة وغير المحدودة للقُوَى العالمية الفاعلة والقادرة، والناهضة بالصناعة والتكنولوجيا والعلوم، والأهم العلوم العسكرية والحربية المتطورة والفتَّاكة، والقوة الاقتصادية التي تركَّزت في بقعة من الكرة الأرضية، بل وفي أيدي نخبة محدودة داخل العالم، تحوَّلوا إلى منفِّذين بارعين ومحترفين، لتسويق أفكار السادة، ومؤدِّين دَوْرَ الحارس الوَفِيِّ، الذي من شأنه أن يمنع انكشاف الحقائق التي أدَّت إلى انقسام المجتمع الإسلامي انقسامات موزَّعة بين الجهل، والتبعية، والانبهار، والخيانة، والتنكر للحضارة الإسلامية والثقافة الدينية.

وليس خافيًا على مَن يتمتع بأقل أدوات الوعي والإدراك، بأن الأمم تتعفَّن وتصدأ، وتنهار وتتهاوى حين تَفقِد حلقة الوصل بين حاضرها وماضيها؛ للارتقاء بالمستقبل وتكوينه، هذه كانت مهمة أنظمة الحكم في الوطن الإسلامي، ومَن يقترن بها، ومَن يخاف على مصالحه المنتفخة، عن طريق التشوه والتشويه، إذا ما كان هناك نفوذٌ للفكر الإسلامي على أرض الواقع والتطبيق.

يشهد على ذلك الصدامات المسلَّحة والدامية بين الحركات الإسلامية وأنظمة الحكم في الوطن الإسلامي، حين تم إقصاء الحركات الإسلامية عن العمل السياسي، والمشاركة الفعلية في بناء المجتمع والدولة الإسلامية المعاصرة، صراعاتٌ عَصَفتْ بدولٍ إلى حد لم نتمكَّن حتى الآن من إحصاء عدد القتلى الذين سقطوا في السجون وتحت سطوة أنظمة التعذيب، حتى تم تسجيل ملاحظة واضحة في نَفْس المواطن المسلم ورُوعه، بأن الاقتراب من اللحية، أو المساجد، أو الغَيرة على الدين يمكن أن يُوصِله في رحلة مجانية إلى ما وراء الشمس.

وهذا ما أدَّى بدوره إلى ظهور طبقات في المجتمع لا دخلَ لها بفضيلة، أو خلق، أو سلوك حسن؛ لتقول، وتقود، وتنشر في المجتمعات ما شاءت من مخالفات ليس للشرائع الإسلامية فقط، بل وللعرف والتقليد العربي؛ فنشأتْ مجموعةٌ ضخمة من الكتَّاب الذين لم يتحسَّسوا مشاكل المجتمع بما فيه من فقر، وتخلف، ومآسٍ، وحزن، يكاد يمزِّق نياط الروح والقلب، وجلُّ ما رَأَوه الكتابة عن قصص الحب المُتْرَفة، والغارقة بتفاصيل الجنس والرذيلة إلى حد تعافُه العقول قبل أن يعافه الشعور، وانطلقت مجموعاتٌ أخرى تَلْهَث خلف القادة وبِطانتها، وخلف الاستعمار وأطيافه، وأخرى خلف الجاه والشهرة مهما بَهَظ الثمن وارتفع سهم التنازل والتلون والمحاباة، تَبِع هذه المجموعات ما يسمَّى بدار الخيال - ورجال ونساء فنِّها - وكذلك الرائي؛ فاستبسل أصحاب تلك الصناعة في ابتكار القصص والروايات المغذَّاة على الجنس والسقوط والانحراف والرذيلة، بطريقة تثير الدهشة والتساؤل، بل وتُخرِج الرأس من مكانه، فما كان من المحرَّمات في العرف والتقاليد والنخوة العربية، قبل أن يكون من المحرمات شرعًا ودينًا؛ أصبح مباحًا إباحة مَحَقت المروءة والعزة والطهارة العربية، وسَحَقت التعاليم الأخلاقية التي ركَّزها الدين ووطدها كعلامات من فضائل لا يمكن التنازل عنها، أو إنكار بَكَارتها ونقائها وصفائها.

أليس من غريب الغرائب أن يتم تصويرُ وبثُّ مشهدٍ جنسي ساخن مُلْتَهِب بين ممثل وممثلة أمام الملايين، وعلى شاشات تكاد تكون في كل منزل ومسكن؟! وفي المقابل يتم اعتقالٌ مِن قِبَل شرطة الآداب لمن يمارس الجنس بعيدًا عن عدسات الكاميرات، وشاشات الرائي، ودار الخيال؟! هذا ليس تناقضًا كما يظن البعض، لكن الدولة تريد ممن يمارس الرذيلة والعهر والفحش أن يكون مسجَّلاً لديها بصفة شرعية! وتحت مسمَّى يمنحه الملايينَ

والقيمةَالاجتماعية؛ ليكون هو الناطقَ باسم الأمة وأخلاقها ودينها، بالشكل والطريقة التي تريدها الأنظمة المتلقية الأوامر من الأسياد.

قد يكون هناك أزمنة فيها انحطاطٌ ما، لكن الزمن الذي يخرج فيه ممثِّل وممثِّلة مارسا الجنس على الشاشات - ودون أي وازع من خجلٍ أو حياء - ليتحدَّثا عن مشاكل الأمة أو المجتمع؛ هو الزمن الذي يخجل فيه الانحطاط من انحطاطه، وتخجل الرذيلة من رذيلتها، ويخجل العار من عاره!

في مثل هذا الزمنِ لا ضيرَ أن يكون العربي في القواميس الأمريكية - كقاموس "وبستر" - موصوفًا " بالمتسكع، والشحاذ".

أما قاموس "روجتس نيو ميللينيوم"، فيعرِّف العربي بـ" المتسكع، المتشرد، المتسول، المنحرف، الأفَّاك، العالة، الصعلوك، المنبوذ، التائه، الزائغ، الأخرق، المتبطل، المستجدي، الكسول، المهمل، الولد الشرير، الشارد، الضال، الزُّقَاقي، العائم، الهائم على وجهه، الهادر وقته، المُقَامِر، المبذِّر، البائع الجوَّال، التاجر، المتاجر، المزايد، المضارب، المحتال".

وليس المقصود هنا كم الكلمات، لكن المدلولات التي يمكن استنباطها من كل مفردة تعريف، فإذا لم تعجبْك هذه فهذه، وإلا بإمكانك الدخول بحالة تأمل طويلة لتفصل مدلولاً يتناسب مع ما تريد من تأثير.

بعد الحادي عشر من سبتمبر، الذي نُسِبت أحداثه إلى تنظيم القاعدة، وأنا أقول: نُسِبت؛ لأن هناك أصواتًا كثيرة في الغرب ظهرت ومعها وجهات نظر قوية تَنفِي أن تكون تلك الأحداث من تنفيذ القاعدة، لأسباب تتعلَّق بقدرتها، وتتنافي مع إمكانية اختراق القاعدة لكل النظم الأمنية التي تفرضها الولايات المتحدة على الأجواء، والقوانين التي يمكن النفاذ إليها ومنها؛ ولكن سنفترض - تسليمًا ووَفْق الرواية الحكومية الأمريكية - أن تنظيم القاعدة هو المسؤول عن تلك الأحداث.

فماذا حصل؛ ردًّا عليها؟!

علينا قبل الانتقال إلى الرد وطبيعته وما رافقه من أحداث وأهوال وتَبِعات؛ أن نركِّز على مفهوم ضروري، وحيوي، وحاسم، وقاطع، وهو أن القاعدة تنظيم ديني سياسي، وليس دولة، أو مؤسسة دينية تابعة لدولة إسلامية، أو اتحاد ديني إسلامي؛ أي: إن التنظيم هو نتاجُ جهوِد مجموعةٍ من الأشخاص التي تصوَّرت الحلول للوضع الإسلامي تتمبطريقة المواجهة مع الولايات المتحدة، دعم هذا التوجه مجموعاتٌ من الشباب المسلم المصاب بالإحباط والهزيمة، والقهر والذل من ممارسات الولايات المتحدة، وأنظمة الحكم في الوطن الإسلامي المدعومة لبقائهامن أمريكا نفسها.

لكن الأمر الفاصل بين كل شيء، هو أن التنظيم مثَّل نفسَه وأتباعه، ولم يمثِّل بأي شكل من الأشكال قمة الهرم الإسلامي كدول أو منظمات دولية إسلامية، وبهذا يكون الفعل الناتج عن تصرفاته بعيدًا عن التيارات الدينية المؤسَّسة والمتكوِّنة بقالب ديني، يطمح إلى إحداث تغيير في الوطن الإسلامي وحتى العالمي، ضمن تعاليم ونواميس الرسالة التي يؤمن بها العالم الإسلامي برمته؛ لأن هذه الرسالة ومكوناتها ومؤسساتها العلمية والدينية تتَّجه إلى تجاوز الظروف الحالية، من خلال تأمين الوعي بالإسلام، عن طريق المدارس الدينية، والجامعات، والمنظمات المتواصلة مع الجاليات المسلمة الموزَّعة في العالم، وكذلك مع المجتمعات المدنية والدينية في كل مكان، مُحتَذِية طريقة الدعوة النشطة والمؤثرة؛ للوصول إلى كمٍّ أكبر من المناصرين لقضاياها، سواء عن طريق دخولهم الإسلام، أو عن طريق إقناعهم بالتواصل مع معطيات الإسلام الثقافية والحضارية.

لكن الولايات المتحدة - ومعها العالم برمته - لم تشأ أن تفرِّق بين التنظيم الذي يشكِّل ذاته وأفراده، وبين الرسالة والمجتمعات الإسلامية والمؤسسات الدينية؛ فأَطْلَق "بوش" جملته الشهيرة التي لم يَلبَث أن تراجع عنها تحت ضغط هائل من إدارته، الجملة التي وصف بها الرد الأمريكي على تلك الأحداث بأنها "حرب صليبية"، وأن الإسلام هو دينٌ فاشيّ، وختم كل ذلك بأنْ وَضَع العالم كله تحت طائلة المحاسبة الأمريكية، حين أعلن بوضوح سافر: "مَن ليس معنا فهو علينا".

حتى استنكار العلماء المسلمين والمؤسسات الدينية والحكومات الإسلامية للأحداث، لم يَشْفَع عند أمريكا للمسلمين الذين سيتحوَّلون إلى جثث في العراق، وأفغانستان، وباكستان، وغيرها من الدول.

قتل مئات الآلاف، بل مئات مئات الآلاف، وربما وصل العدد إلى مليون أو ما يربو على ذلك، فالعراق وحدها سقط فيها ما يفوق الخيال.

كانت وما زالت حربًا شاملة، لكنها حربٌ قادتْها أنظمة الحكم في أوروبا، وأمريكا، وآسيا، والعالم بشكل تقريبي، وليس هناك تنظيمٌ لا يمتُّ بصلة إلى أنظمة الحكم ومؤسسات الدولة.

دمِّرت أفغانستان والعراق، والكثير من المناطق الباكستانية، بتخطيط دول، ومؤسسات حكم، وإرادة جيوش، ووزارات دفاع، واستُهدِف الإسلام، والمدارس الدينية، ومناهج التعليم، والمساجد، والجاليات الإسلامية في كل مكان؛ من أجل حدثٍ لم يتجاوز ضحاياه ثلاثة آلاف قتيل، تسبَّب بمقتلهم - كما قلنا - تنظيم خاص لم يجد أي مباركة من نظام حكم، أو رجال علم، أو مؤسسات دينية.

روسيا أيضًا - عن سبق إصرار وترصد - أمعنت دمارًا وقتلاً وتمثيلاً بالشعب الشيشاني المسلم، والصين كذلك، وقبلها الاتحاد السوفييتي، والبوسنة فعل فيها ما فعل، وكذلك الهند، وكل هذا يتم

بإرادة أنظمة حكم، وقيادات عسكرية، ووزارة داخلية وخارجية ودفاع، لكن ليس من حق المسلم الردُّ، أو الاعتراض، أو وصف تلك الحكومات بالإرهابية، والفاشية، والنازية.

وللتذكير فقط، يوم قامت "حركة طالبان" بتفجير تماثيل بوذا، قامت الدنيا كلِّها على رِجل واحدة مستفزة، تحرَّكت وسائل الإعلام برمَّتها من العالم قاطبة تستنكر وتشجب، وتصوِّر الحدث على أنه في منتهى التخلف والرجعية والغباء، وصوِّر الدين الإسلامي كعدو للثقافات والديانات والحضارات، تمامًا كما صوِّر بعد أحداث سبتمبر، وأصبحت القضية الكونية كلُّها تقف على تلك الفعلة التي نالت من تاريخ قديم، وجهد إنساني رفيع في فن النحت والتشكيل، ولم تلقَ كل دعوات الاستنكار الإسلامية من علماء ومؤسسات أيَّ أذن مُصْغِية،وحتى زيارة الشيخ "يوسف القرضاوي"- بما يمثل من مكانة علمية وإسلامية في العالم - لم تؤثِّر أبدًا في حجم الهجوم المُشَنِّ على الإسلام وعلى العَرَب.

وحين هُدِم "المسجد البابري" في الهند، مرَّت الحادثة مرورًا، وكأن ما حصل أن سيلاً مرَّ من فوق مجموعة من الحصى فبَعْثَرها؟!

اليوم تحدث مجازر يومية - لا مثيل لها ولا شبيه - في بورما ضد المسلمين، تغتصب النساء بشكل جماعي ويقتلن، يقاد الآلاف من الأطفال، والنساء، والرجال، والشباب، والشابات إلى محارق جماعية، ويحرقون بمباركة الرئيس ونظام الحكم، وبدعوة صريحة وواضحة ومعلنة من رهبان بوذا، ويقتل الآلاف من الأطفال ذبحًا وسلخًا، وتُربَط سواعدهم إلى الخلف، ويلقون بالآلاف في الأنهر والبحار ليموتوا غرقًا، ويخيَّر المسلم بين الردَّة وأكل لحم الخنزير، أو القتل والتنكيل، تُسَن قوانين من أجهزة الدولة مجتمعة بدعوة من الرهبان؛ لإجهاض المسلمات وتعريتهن كل أسبوع قسريًّا أمام لجان تدَّعي أنها طبية، تُحرَق القرى والبيوت على من فيها، ويلاحق الفارُّون بالمراكب، ويقتلون وسط الأمواج، ويتم إغراقهم.

ترتكب الفظائع باسم الدولة والدِّين، فظائع يَنْدَى لها جبين التاريخ، ويجلِّل العار عنق الحضارة الإنسانية في العالم كله، وتستباح الحريات - الدينية، والجسدية، والفكرية، والثقافية، والحضارية - باسم الدولة والدين والرهبان، ولكن! ليس هناك مَن يهتم أو يريد الاهتمام؛ بل العكس، تقدِّم الولايات المتحدة الصامتةُ على المذابح، والحرائق، والاغتصاب، والإغراق، والتدمير، والسلخ، والذبح، إلى إحدى نساء بورما هديةً، وتُستَقبل في الغرفة البيضاوية، التي لا يستقبل فيها إلا الرؤساء.

السؤال: ماذا لو قامتْ دولةٌ إسلامية بمحاصرة قرية مسيحية أو بُوذِية، وفعلتْ فيها عُشْر ما فُعِل في بورما؟!

الإجابة تكمن في قول "أيوجين روستو" - رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية، ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس جونسون لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967م -‏:‏

"‏يجب أن نُدرِك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية، ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية‏،‏ لقد كان الصراع محتدمًا ما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة،‏ ومنذ قرنٍ ونصف خضع الإسلامُ لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي"‏.‏

إن الظروف التاريخية تؤكِّد أن أمريكا إنما هي جزءٌ مكمل للعالم الغربي - فلسفته، وعقيدته، ونظامه - وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي، بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك، فإنها تتنكَّر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها‏؛‏ ‏(‏معركة المصير - صفحات 87-94‏)‏.

ويؤكِّد "باترسون سمث" - في كتابه "حياة المسيح الشعبية" - بأن الحملات الصليبية كلها باءت بالفشل، لكن الحملة التي قادها "اللنبي" على القدس أثناء الحرب العالمية الأولى قد حقَّقت الهدف، وأُطلِق عليها اسم "الحرب الصليبية الثامنة"؛ مجلة الطليعة القاهرية، مقال وليم سليمان، عدد ديسمبر عام 1966 - صفحة 84‏)‏.

ولتأكيد توجُّه الدولة ومؤسَّساتها على صحة النوايا، قامت الصحف البريطانية بنشر صور "اللنبي" على صفحاتها مع مقولته المشهورة: "اليوم انتهت الحروب الصليبية"، وإمعانًا بتأكيد النوايا المؤسساتية للدولة، قام "لويد جورج" وزير الخارجية البريطاني بتهنئة "اللنبي" في البرلمان البريطاني على النصر الذي أحرزه في حملة من الحملات الصليبية، والتي أطلق عليها الحملة الصليبية الثامنة.

أما فرنسا، فقد تمثَّل موقفها يوم انتصار الجنرال "غورو" على جيش "ميسلون" خارج دمشق، وتوجَّه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي - رضي الله عنه وأرضاه - ورَكَله بقدمه، وقال جملته الشهيرة: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"؛ القومية والغزو الفكري - ص 84‏.

أما "راندلوف تشرشل"؛ فقد قال - عام 1967، بعد سقوط القدس -: "لقد كان إخراج القدس من سيطرة الإسلام حلمَ المسيحيين واليهود على السواء، إن سرور المسيحيين لا يقل عن سرور اليهود‏.‏

إن القدس قد خرجتْ من أيدي المسلمين، وقد أصدر الكنيست اليهودي ثلاثة قرارات بضمها إلى القدس اليهودية، ولن تعود إلى المسلمين في أية مفاوضات مُقبِلة ما بين المسلمين واليهود‏"؛‏ ‏(‏راندولف تشرشل، حرب الأيام الستة - ص 129 من الترجمة العربية‏)‏.

ولو أخذنا مقولات متفرِّقة من هنا وهناك؛ فإن النوايا تتثبَّت وتتعمَّق، بل وتكون واضحة وصريحة إلى حد التحدي والاستفزاز، يقول لورنس براون: ‏"‏إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي"؛ التبشير والاستعمار - ص 104.

ويقول "غلادستون" - رئيس وزراء بريطانيا سابقًا -:‏ "ما دام هذا القرآن موجودًا في أيدي المسلمين؛ فلن تستطيع أوربا السيطرةَ على الشرق‏"؛‏ ‏(‏الإسلام على مفترق الطرق؛ لمحمد أسد - ص 39‏)‏.

ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر - في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر -: "إننا لن ننتصرَ على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نُزِيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم"؛ (المنار - عدد/1962‏)‏‏.‏

في افتتاحية عدد "22 أيار عام 1952" من جريدة ‏"‏كيزيل أوزباخستان‏"‏ - الجريدة اليومية للحزب الشيوعي الأوزباخستاني - ذكر المحرِّر ما يلي‏:‏ "من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام نهائيًّا"؛ ‏(الإسلام والتنمية الاقتصادية - جاك أوسترى - 56‏)‏‏.‏

يقول "بن غوريون" - رئيس وزراء الكيان الصهيوني سابقًا -‏:‏ "إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالَم العربي محمد جديد‏"؛ (‏جريدة الكفاح الإسلامي لعام 1955 - عدد الأسبوع الثاني من نيسان)‏.

يقول لورانس براون‏: ‏"كان قادتنا يخوِّفننا بشعوب مختلفة، لكننا بعد الاختبار لم نجد مبررًا لمثل تلك المخاوف،‏ كانوا يخوِّفنا بالخطر اليهودي، والخطر الياباني الأصفر، والخطر البلشفي‏، لكنه تبيَّن لنا أن اليهود هم أصدقاؤنا، والبلاشفة الشيوعيون حلفاؤنا، أما اليابانيون، فإن هناك دولاً ديمقراطية كبيرة تتكفَّل بمقاومتهم، ‏لكننا وجدنا أن الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته المدهشة‏"؛ (‏المجلد الثامن صحفة 10، لورانس بروان نقلاً عن التبشير والاستعمار، صفحة 184).

يقول المستشرق الفرنسي "كيمون" - في كتابه ‏"‏باثولوجيا الإسلام‏" -‏‏: "‏إن الديانة المحمدية جُذَامٌ تفشَّى بين الناس، وأخذ يَفتِك بهم فتكًا ذريعًا، بل هو مرض مريع، وشلل عام، وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه من الخمول والكسل إلا ليدفعه إلى سفك الدماء، والإدمان على معاقرة الخمور، وارتكاب جميع القبائح،‏ وما قبر محمد إلا عمود كهربائي يبعث الجنون في رؤوس المسلمين، فيأتون بمظاهر الصرع والذهول العقلي إلى ما لا نهاية، ويعتادون على عادات تنقلب إلى طباع أصيلة، ككراهة لحم الخنزير، والخمر، والموسيقا‏، إن الإسلام كله قائم على القسوة والفجور في اللذات‏.

أعتقد أن من الواجب إبادة خُمْس المسلمين، والحكم على الباقين بالأشغال الشاقَّة، وتدمير الكعبة، ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر‏"؛ (الاتجاهات الوطنية ج 1 - ص 321، وتاريخ الإمام ج 2- ص 409، والفكر الإسلامي الحديث ص 51، والقومية والغزو الفكري - ص 192‏).

ويقول المبشِّر "وليم جيفورد بالكراف"‏:‏ "متى توارى القرآن، ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذٍ أن نرى العربي يتدرَّج في طريق الحضارة الغربية بعيدًا عن محمد وكتابه"‏؛ (‏جذور البلاء - ص 201‏)‏‏.

ويقول المبشِّر "تاكلي"‏: ‏"يجب أن نستخدم القرآن - وهو أمضى سلاح في الإسلام - ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تمامًا، يجب أن نبيِّن للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأن الجديد فيه ليس صحيحًا‏"؛‏ ‏(‏التبشير والاستعمار - ص 40 ‏(‏طبعة رابعة‏)‏‏.‏

يقول "مرماديوك باكتول‏": ‏"إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم في العالم الآن بنفس السرعة التي نشروها بها سابقًا‏، ‏بشرط أن يَرجِعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حين قاموا بدَوْرهم الأول؛ لأن هذا العالَم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم‏"؛ ‏(‏جند الله - ص 22‏)‏‏.‏

يقول "صموئيل زويمر" - رئيس جمعيات التبشير في مؤتمر القدس للمبشرين المنعقد عام 1935م -‏:‏ "إن مهمة التبشير التي ندبتْكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية، ليست في إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريمًا، إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام؛ ليصبح مخلوقًا لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، ولذلك تكونون بعملكم هذا طليعةَ الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، لقد هيأتم جميع العقول في الممالك الإسلامية لقبول السير في الطريق الذي سَعَيتُم له، ألاَّ يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، أخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي مطابقًا لما أراده له الاستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، حتى أصبحت الشهوات هدفَه في الحياة، فهو إن تعلَّم فللحصول على الشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوَّأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات‏.‏‏.‏ إنه يَجُود بكل شيء للوصول إلى الشهوات، أيها المبشرون‏:‏ إن مهمتكم تتم على أكمل الوجوه‏"؛‏ ‏(‏جذور البلاء - ص 275‏)‏.

نقل هذه الأقوال التي تعتبر غيضًا من فيض، ليس فقط للتذكير أو التنبيه والتلميح، بل للوعي المركَّز القوي الذي يُمسِك الحروف والمفردات بمفتاح العقل والتبصر، والتحليل والتفكيك؛ ليدرك حجم الهول والخطر المشبع بكل حرف ومفردة، ليستطيع أن يحس بقوة التأثير المبذول من أجل صياغة العقل الإسلامي والعربي، بطريقة تتوافق وتتواءم مع مصالحهم وتطلعاتهم.

ولو عدنا الآن إلى الوقت الذي نحيا فيه، وركزنا البصر والبصيرة - الرؤية والرؤى - وقمنا بفرز الأحداث وتشريحها بمِبْضَع العقل والوعي والتأني؛ لعَرَفنا لماذا حين يُهَاجَم فردٌ من أيِّ ديانة غير ديانة الإسلام، كيف تتحرَّك الأساطيل وحاملات الطائرات، وحين تقرِّر قيادات الغرب تصنيفَ الشعوب حسب رغبتها ومصالحها؛ فإنها لا تتوانَى أبدًا عن وصم الإسلام وما يتبعه من مؤسسات دينية بأنها حاضنات للإرهاب، حتى المدارس الدينية مطالبة بتعليم القرآن الكريم والعلوم الشرعية حسب الرؤية الأمريكية.

أمريكا وبعد أحداث سبتمبر، وضعتْ قوائم للمطلوبين إلى "عدالتها"، فلاحقتْ العالم كله ملاحقة كاملة؛ فهي تختطف شخصًا من هنا وشخصًا من هناك، تُرسِله إلى أَقْبِية السجون في الوطن الإسلامي؛ حتى لا تتحمَّل هي طائلة العار والخزي، لكنها لا تخجل أبدًا من إنشاء سجن "غوانتانامو"؛ ليشكِّل علامة فارقة في تاريخ الشعوب والثقافات والحضارات، وكذلك سجن "أبو غريب" في العراق الذي مُورِست فيه ممارسات لم تختلف كثيرًا عن محاكم التفتيش، وسراديب إيفان الرهيب، وهي ما زالت حتى اليوم تحلِّق في أجواء العالم؛ باحثة عمن تتهمُّهم بالإرهاب، فتقصف، وتقتل من الأبرياء قبل أن تستطيع محاولاتها المتلاحقة بإسقاط الأبرياء أن تنال من المتهمين.

أما المسلمون الذين يذبَّحون بمئات الآلاف في أفغانستان والعراق، ومئات الآلاف التي تذبح وتحرق في "ميانمار"، ومع كل التجاوزات التي تمارسها الدولة والحركة الدينية البُوذِية التي تحض وتشارك وتدعو إلى القتل والترويع، والسلخ والذبح؛ فإن الصمت

من الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وكل مؤسسات الحرية والديمقراطية، وحقوق الإنسان - هو الشعار الأسمى والأعلى، كيف لا والداعون إلى القتل والجريمة دولة غير مسلمة، وحركة دينية بُوذِية، لا تختلف في طباعها وتركيبتها عن طباع وتركيبة الوحوش الاستعمارية.

حتى الحرية والديمقراطية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة، فإنها تستطيع أن تضع قانونًا يمنع البشر كلهم - وعلى مستوى العالم - أن يتطرَّقوا - أو حتى يفكروا بالتطرق - إلى تاريخ هتلر، وما فعله باليهود، والويل كل الويل لأي دين أو مذهب، لأي شخص، أو مؤسسة، أو دولة تفكِّر في نقض القانون أو تتجرَّأ عليه، لكن النَّيل من المقدَّسات الإسلامية، والعقائد الدينية التي ربِّينا عليها، ابتداءً من الرسول الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - وانتهاء بالقرآن الكريم، مرورًا بإباحة ذبح المسلمين في فلسطين، وتمزيق وطنهم بما فيه المسجد الأقصى، كل هذا مباحٌ، وَفْق حرية الرأي والتعبير.

أنا لا يَغِيظُني أبدًا أن يكون الغرب وأعداء الأمة على هذا الدرب؛ فهذا دينهم ودَيْدَنهم، وسيبقى كذلك إلى أن تقوم الساعة، لكن ما يَغِيظُني أن أجد "مثقفين في الوطن الإسلامي والعربي"، لم تصلهم كل هذه المفارقات، بل ولم يتبيَّنوا من أحداث الحاضر ما يدعم رؤية الماضي واستمراره على نفس الدرب.

يغيظني إلى حد الانفجار المدَّعون النباحون العواؤون المفاخرون بتَبَعِيَّتهم للغرب ومفاهيمه، والمتشدِّقون الذين يظنون أن الدفاع عن الديمقراطية - والعلمانية الزائفة التافهة والممزقة - يمنحهم قيمة ومكانة بين الناس وبين المجتمعات، دون أن يُدرِكوا - أو حتى يحاولون الإدراك - بأن ثقافتهم هباء مفرَّغ من الهباء، وأن ذكاءهم ما هو إلا غباء مغرق في الغباء، وأن المرايا التي يحدِّقون فيها صباحَ مساءَ تَلعَنُهم أكثر مما تُرِيهم تفاصيل أجسادهم الضاجة بالرياء والتبعية، والزحف واللهاث خلف فقاعات فارغة.

تخيلوا - فقط تخيلوا - لو خرجتْ حركةٌ في العالم الإسلامي تطالب بإعمار نُصُب "لأسامة بن لادن"، أو خرجتْ مجموعة في دولة إسلامية ووضعتْ في منهاجها سيرة "أيمن الظواهري" وغيره، كيف سينقلب العالم ويختلف التاريخ، وكيف ستكون الصحافة ذات شكل متمرس متخصص بالدعوة والتعبئة، ليس ضد المجموعة التي ارتأت ذلك، بل ضد الدين وضد العالم الإسلامي برمَّته، وكيف سيكون المسلم مطارَدًا في كل شارع ورصيف من أرصفة العالم وشوارعه، وكيف ستظهر قوانين تمنح الدول حق مهاجمة البلدان والحواضر والقارات إن اقتضى الأمر ذلك؟!

لا ضيرَ في شرع الحاضر أن تقوم الدول بكل مؤسساتها، والدين بكل تعاليمه ورجاله بقتل المسلمين والتنكيل بهم على شاشات البث الحي، لا بأس في هذا أبدًا؛ لأن المسلم خطر، أو عدد، أو شيء زائد يجب استئصاله دون أن يمنح حتى الحق في الدفاع عن نفسه.

لكن الويل كل الويل للمسلم أن اقترب من الجهاد، أو المقاومة دفاعًا عن دينه وعِرْضه ووطنه، ويل يأتي محملاً بكل أنفاس الموت، والفناء، والدمار، والإبادة.

لا تحزن أيها المسلم، ولكن اغضب على أناس يعيشون بين أعطافك، ويبيحون دينكَ وعِرْضكَ ووطنكَ، كما يُبِيحه أصحاب الديمقراطية والعلمانية، والحرية وحقوق الإنسان في الكون من قاعه إلى قمته.

وأدرك الآن؛ فقد حان للأعمى أن يرى، وللأطرش أن يسمع، وللأخرس أن يتحدَّث، والمجنون أن يُشفَى، إن العنصرية لم تمارس فقط باللون، بل مورست بالديانة أيضًا؛ فان كان مسلمو "بورما" يتحملون البلاء كله، وليس هناك سببٌ، سوى أنهم مسلمون خُلِقوا ليتحملوا بلاء الأمم الأخرى.

هذا عُرْفُ ديمقراطية العصر الحديث، ومبدأ عدالة القرن الحادي والعشرين، وتقليد علمانية التطور والابتكار، وأسُّ الحرية والانفتاح، وحَجَر زاوية حقوق الإنسان، ومرتكز أخلاق الدول التي تملك القوة الفصلَ في التدمير والإبادة والإفناء.

               

*فلسطين- مخيم طول كرم