الطهارة الثورية

بين معاقبة آدم ... والعفو عن إبليس :

ربيع عرابي

لم أكن أرغب في الحديث عن أخلاق وسلوكيات الثوار المجاهدين في ميدان المعركة المحتدمة على أرض الشام …. إلا أن الحملة الشرسة التي يشنها في هذه الأيام الحاقدون وبعض الذين انساقوا وراءهم من قليلي الخبرة بالحرب النفسية والإعلامية وبعض ضعاف النفوس جعلني أمسك بالقلم محاولا وضع النقاط على الحروف وإضاءة الطريق للجاهلين ذوي النوايا الحسنة أو الذين تجتذبهم الشعارات والكلمات الطنانة دون أن يميزوا السم من الدسم أو يتبينوا الحق الذي يراد به الباطل.

ومما أثر عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله المشهور : "لايُعرفُ الحقُّ بالرجال ... إعرف الحقَّ تَعرِفْ أهله" وقال الغزالي تعليقا على هذه الكلمات : "إعلم أن من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال"

فكان لابد من نصب بعض المنارات في الطريق تنير درب الحائرين وتزيل الغبش عن عيون الطيبين وترغم أنوف الحاقدين مصداقا لقوله تعالى : "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّـهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿٢٣﴾"الجاثية وقوله عز من قائل : "لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ﴿٦٠﴾ مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ﴿٦١﴾ سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا ﴿٦٢﴾" الأحزاب .

أولى هذه المنارات :

لم يدَّعِ أحد من الثوار المجاهدين في بلاد الشام في يوم من الأيام أنه إله يسجد له من دون الله ويطاع أمره ويعصى الله عز وجل .... ولم يدَّعِ أحد منهم أنه نبي معصوم من الزلل والأخطاء مؤيد من رب السماء .... ولم يدَّعِ أحد منهم أنه إمام من الأئمة المعصومين الطاهرين المطهرين أو أية من آيات رب العالمين له من المكانة ما لم يبلغه ملك مقرب أو نبي مرسل .... ولم يدَّعِ أحد منهم أنه باب أو نائب أو وكيل أو ممثل أو حتى ذنب لإمام معصوم أو مستور .... ولم يدَّعِ أحد منهم أنه قائد خالد ملهم لم ولن يلد الزمان مثله أبدا.

هم بشر .... بشر عاديون جدا .... مثلي ومثلك .... فيهم كل عيوب البشر .... وفيهم كل ميزات البشر .... هم بشر يخطئون ويصيبون .... فيعاقبون أو يكافؤون .... وهنا تكمن المشكلة الحقيقية .... فبظهور القادة البشرالخطائين سقطت أقنعة الأفاقين والدجالين .... وسقطت ورقة التوت فانكشفت عورات المحتالين .... وفضح ثعبان موسى مكر سحرة فرعون وابتلع أفاعيهم وانتهت الكذبة الكبرى .... كذبة الألوهية والنبوة والإمامة والولاية المزورة .... وانتهت أسطورة القائد الخالد الملهم .... وغيرها من عشرات الأكاذيب والأساطير .... التي ملأ بها الأفاقون عقول الناس فسحروا أعينهم واسترهبوا نفوسهم.

وقد يبدوا الكلام السابق نوعا من الإعتذار والتبرير والدفاع عن الثوار المجاهدين والذب عنهم .... وليس الأمر كذلك بل هو تقرير لحقائق بديهية أولية بسيطة نسيناها ضمن مجموعة كبيرة من كنوز ومبادئ وأخلاق وقيم الشعب السوري التي غيبها طغيان النظام السابق وفجوره .... فالشعب السوري شعب عريق ذو رصيد هائل من الأعراف والعادات والتقاليد والقيم الروحية والإجتماعية والتي تشكل بمجموعها كنزا من كنوز الإنسانية يتباهى بها الشعب السوري بين الأمم.

ولنا كل الحق أن نتساءل هنا عن أولئك المجرمين الذين نشروا بين الشعب السوري و خلال العقود الخمسة الأخيرة من تاريخه المديد رذائل الغدر والقتل والتنكيل والتعذيب والإغتصاب والرشوة والواسطة والمحسوبية والطائفية (الكريمة طبعا) وغيرها من الرذائل والدنايا.

من الذي حارب الله والرسل والإيمان والأديان والأخلاق والفضيلة وجند الناس لحربها .... من الذي حارب الحجاب والكتاب وشجع الجهالة والتفاهة والسفاهة حتى صار أتباع النظام الفاسد (المنحبكجية) مضرب المثل بين الناس في الحمق والغباء .... من الذي نشر العهر والتحلل الأخلاقي والنفاق الإجتماعي والوصولية السياسية والإقتصادية .... من الذي ملأ ربوع الشام بدور الدعارة واستورد البغايا من روسيا وأكرانيا وكل بقاع الأرض .... من الذي رعى بيوت الرذيلة وقننها ونظمها بإشراف وخبرة العمائم المجوسية تحت ستار نكاح المتعة .... من الذي زرع  و وزع وشجع وحمى تجارة المخدرات ونشرها بين شباب المجتمع .... من الذي خرب البنية التحتية والفوقية والبينية وجعل ابن البلد مخبرا (أي جاسوسا)على أخيه ابن بلده وشرد ابن البلد ليصبح مغتربا يستجدي زيارة وطنه واستورد المغترب ليبتزه ويسلبه ماله وأخلاقه .... من .... ومن .... ومن .... ومن .....

أين تلقى هؤلاء الثوار المجاهدين تربيتهم وتعليمهم .... أليس في طلائع البعث وشبيبة الثورة وخلايا الحزب  .... ألم ينشؤوا منذ نعومة أظفارهم حتى خشونتها على شعارات الوحدة والحرية والإشتراكية ألم يرضعوا مع حليب أمهاتهم لباب الصمود والتصدي ثم المئاومة والممانعة على أيدي قائد المئاومة في سوريا وسيد المئاومة في لبنان والراعي المجوسي للمئاومة في إيران.

ثم شاهدوا بأم أعينهم كيف بيع (وتحت شعار الوحدة ذاته) الجولان لبني صهيون ومن ثم إمارة الأهواز لآيات المجوس وأخيرا لواء اسكندرون للإستعمار التركي (حسب مناهجهم وكتبهم) .... ورأوا كيف كان الرفاق البعثيون العراقيون والسوريون ينشرون غسيل بعضهم القذر في المحافل العامة دون حياء أوخجل وكيف تحاك المؤامرات بينهم في جنح الظلام ....  وأخيرا هاهم يتابعون وعلى الهواء مباشرة كيف تسعى القيادة الحكيمة الملهمة جاهدة إلى تمزيق سوريا إلى دويلات طائفية (كريمة) تتناحر وتتقاتل فيما بينها.

 وشاهدوا بأم أعينهم كيف تم وتحت شعار الحرية تأسيس عشرات الأجهزة الأمنية وآلاف المعتقلات والسجون ومقرات التحقيق والتي لا شاغل لها إلا عد أنفاس الناس وإذلالهم وقهرهم وتعذيبهم وسلبهم كرامتهم وتشويه إنسانيتهم .... ورأوا كيف تمادت هذه الأجهزة فأعطت لنفسها الحق في قراءة أفكار الناس والتلصص على خلجات نفوسهم والتجسس عليهم حتى في الخلاء أو في الفراش مع زوجاتهم .... وعرفوا كيف جعلت هذه الأجهزة القميئة أحدهم لايأمن أخاه ولا ابنه ولا زوجه ولا صديقه .... وعايشوا تحول حياتهم إلى كم هائل من الأذونات والموافقات الأمنية تكاد تشمل حتى دخول الحمام والخروج منه.

وشاهدوا بأم أعينهم كيف ترجمت الإشتراكية باستيلاء أقارب القائد الخالد (من مخلوف إلى شاليش إلى الأصدقاء والمنتفعين) على أراضيهم ومحاصيلهم وبيوتهم وتجارتهم وأموالهم وأعراضهم وأفكارهم وكرامتهم فعرفوا وعاينواعن كثب قيمة المواطن الحقيقية في الدولة الإشتراكية ذات المرجعية المجوسية والإرتباطات الصهيوعالمية .... ورأوا كيف يؤدى الخمس للقيادة الحكيمة الملهمة عن طيب خاطر وتغتصب الأربعة أخماس المتبقية في أقبية السجون.

وشاهدوا بأم أعينهم كيف تدار معارك الصمود والتصدي والممانعة والمئاومة بالشعارات والخطابات ويوفر الرصاص والقنابل والصواريخ وما خلق الله تعالى من سلاح ليستقر في صدور المواطنين وبيوتهم بدلا من هدره في الجولان وفلسطين أليس السوريون أولى به من غيرهم ألم يسرق ثمنه من جيوبهم.

ثم ألم يتربى هؤلاء في مدارس الأسد وعلى مناهج الأسد وأخلاق الأسد وإنجازات الأسد .... ألم يشبوا على مبادئ البعث وأخلاق البعث وإنجازات البعث .... فشاهدوا كيف خربت المدارس والمعاهد وقزمت الجامعات فتحولت كلياتها العريقة إلى أشباه كليات تدرس بدلا من الطب والهندسة والعلوم تاريخ الطب وآثار الهندسة ومتحف العلوم .... مراكز علمية لا تحتوي على مخبر محترم ويندر أن تجد فيها أستاذا مرموقا ولاتمتلك مناهج متطورة ولا حتى جهاز كمبيوتر حديث .... بعد أن هجر العلماء والباحثون أو وضعوا في أقبية السجون .... أو استشهدوا تحت سياط الجلادين.

ألم يتذوقوا أثار أخلاق الأسد متغلغلة في الجيش السوري المقدام الذي تحول من نعجة تحت قدمي أسياده اليهود إلى شمشون الجبار أمام الشعب السوري الأعزل فراح يدك المدن والقرى الآمنة بالطائرات والمدفعية والدبابات .... وينهب المنازل والمتاجر وحتى المواقع الأثرية والمرافق الحيوية .... ألم يتعرفوا على آثار أخلاق الأسد جلية في عناصر المخابرات الجوية والعسكرية والسياسية واالداخلية والخارجية والسماوية والباذنجانية وكيف تزهق تحت ضربات سياطهم أرواح الأبرياء وتنتهك أعراض العفيفات الطاهرات ويمثل بأجساد الأطفال الأبرياء وهم لازالوا أحياء .... ألم يعاينوا أخلاق الأسد في إخوان الشياطين من الشبيحة والنبيحة قتلة الأطفال ومرتكبي المجازر وأعداء البشرية .... ألم يلمسوا أخلاق الأسد في حلفائه من جنود إبليس حثالة نصر اللات وفيلق الغدر ومقتدى الخسة والعار .... ألم تبهرهم أخلاق الأسد نفسه كازانوفا الرؤساء المتقلب بين أحضان الناصحات العاشقات.

ألم يروا إنجازات الأسد وإصلاحاته التي أعادت سورية إلى عصر ما قبل الدولة .... بلا دستور ولا مؤسسات .... بلا طرق ولا كهرباء ولا ماء ولا خدمات .... ولو خلا له الجو لتركها خاوية بلا بشر.

نعم إنهم بشر .... ولكن الله عز وجل أراد رغما عن المجرمين الفجرة أن تولد أصالة الشعب السوري من جديد على أيدي هؤلاء الثوار المجاهدين الذين تربوا مكرهين مجبرين في محاضن السوء التابعة لهذا النظام الفاجر الغادر .... ثم نفضوا عن أرواحهم وعقولهم غباره النجس الآسن .... وطهروا أنفسهم من رجسه وآثامه .... إنهم بشر ويعترفون ويقرون ويفتخرون بأنهم بشر .... يخطؤون ويصيبون ويتوبون ويستغفرون .... وهذا هو مربط الفرس وزبدة القول.

ثاني هذه المنارات:

إذا كان لا بد من محاسبة الجناة المجرمين وفضح الفاسدين المفسدين فليكن ذلك ولنبدأ بإحصاء الجرائم المشهورة الموثقة المعروفة وهي كثيرة وفيرة جليلة تنوء بثقلها الصحف وتئن لفداحتها وهولها السموات والأرضين ويحار في تفسير نذالتها وخستها ووضاعتها المؤرخون والمحللون لأنها لا تنم إلا عن نفوس تشربت الشر والحقد وتشبعته فصار يجري في عروقها مجرى الدم.

من الذي تحالف مع الصليبيين ضد أبناء جلدتهم ووطنهم وجيرانهم وحاول مرارا إغتيال نور الدين وصلاح الدين محرري القدس أليسوا أجداد الممانعين والمئاومين الجدد .... من الذي انضم إلى الحلف غير المقدس بين الشيعة المجوس وهولاكو قائد المغول وجيوش الصليبيين وساعدهم على احتلال بغداد وحلب وحمص وحماة ودمشق .... أوليسوا الأجداد .... من الذي خان بلده وتحالف مع الفرنسيين وطالبهم بتـأمين انفصاله عن سوريا واعدا متعهدا لهم أن يكون مخلصا وفيا لأحبائه من اليهود .... أوليسوا الأبناء .... من الذي  عقد العهود والمواثيق السرية والعلنية مع اليهود والمجوس والروس والصين وكل من عادى الشام في شرق أوغرب .... أوليسوا الأحفاد.

من الذي خطط ونفذ انقلاب الثامن من آذار الذي ألغى الشرعية الدستورية وعطل الحياة البرلمانية وزور إرادة الشعب وهدم بنية الدولة السورية الحديثة.

من الذي تبجح وتواقح وكتب في مجلة جيش الشعب يقول : ( إن الله والرأسمالية والإقطاع أصبحت دمى محنطة في متحف التاريخ .. )

من الذي هدم مسجد السلطان ( أهم مسجد في حماة)  بعد أن دخله بالدبابات ثم دخل بالدبابات مسجد خالد بن الوليد في حمص  و المسجد الأموي في دمشق مرتكبا المذابح بحق المواطنين الآمنين العزل.

من الذي باع الجولان بملايين الدولارات (مائة مليون دولار شيك لصالح حافظ ورفعت) وتسبب في تدمير الجيش السوري بعد أن سرح أو قتل أو اعتقل ضباطه الشرفاء وسلم القنيطرة للعدو قبل وصول جيشهم إليها بساعات طوال.

من الذي قام بانقلاب تشرين على الرفاق القدامى بعد أن تلقى التدريب والدعم من المخابرات الغربية ليقوم بإيصال الطائفة (الكريمة) أو على الأصح زعرانها وحثالتها إلى سدة القيادة والحكم رغما عن الشعب والدستور والأعراف والقوانين.

من الذي أهدر نصر رمضان وأعطى الأوامر بالإنسحاب الكيفي من القطاع الشمالي للجبهة .... وتسبب في وصول المدفعية الإسرائيلية إلى مشارف دمشق .... ومن الذي تسبب في مقتل خيرة الطيارين السوريين في سماء لبنان بعد أن سلم إحداثياتهم للإسرائيليين.

من الذي أعدم الشيخ المجاهد مروان حديد .... ومن الذي دشن حقبة المجازر في سورية ولبنان .... من تدمر إلى جسر الشغور إلى سرمدا إلى حماة التي قضى فيها على قرابة الثلاثين ألفا من الأبرياء الآمنين إلى تل الزعتر إلى طرابلس الشام وخطط وشارك في صبرا وشاتيلا ثم اغتال إيلي حبيقة ليخفي معالم الجريمة .... وغالبية القتلة لازالوا يسرحون ويمرحون داخل سوريا وخارجها تحت أعين هيئات حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية يتمتعون بثروات الشعب التي نهبوها بعد أن سفكوا دماءه واستباحوا حرماته دون حسيب أو رقيب.

من الذي أسس ورعى الحلف غير المقدس بين الطائفة (الكريمة) ومجوس لبنان والعراق وإيران ليتم الإستيلاء على العراق بحماية أمريكية ومباركة إيرانية ومفخخات سورية فتنهب ثرواته وتدمر مقدراته وتسفك دماء أبنائه .

من الذي شرد عشرين مليونا من السوريين من خيرة أبناء البلد علما ومكانة إجتماعية وقدرات إقتصادية ليعيشوا خارج وطنهم وتجير إمكاناتهم لغير أبناء بلدهم.

من الذي اغتال بنان الطنطاوي ورفيق الحريري وغيرهم .... ومن الذي اعتقل المحامين والأطباء والمهندسين والعلماء والفضلاء .... ومن الذي اعتقل طل الملوحي ولفق لها من التهم الدنيئة ما يندى له الجبين.

من الذي دمر باباعمرو .... ومن الذي قصف حمص وإدلب وحلب ودمشق ودرعا ودير الزور بالمدفعية والدبابات والطائرات .... من الذي قتل أطفال الحولة ومن الذي قتل حمزة وهاجر وعفاف و .... ومن .... ومن .... ومن .... ومن ....

لم ننته ولن ننته سريعا فالجرائم مهولة وتحتاج لآلاف الصفحات لسردها وتسجيلها وما هذا إلا غيض من فيض وبالكاد يكفي لتبيان شناعة الجريمة المرتكبة بحق أبناء سوريا وقذارتها.

ولنكن هنا واضحين كل الوضوح وليتأكد الجميع أن الحساب على هذه الجرائم لن يشمل المنفذ النهائي لها فحسب ليقدم كبش فداء وينجو المجرمون الحقيقيون من سيف العقاب ، بل إن الحساب يشمل فيمن يشمل من أعطى الأمر ونقله ونفذه وأعان على تنفيذه وتستر على المجرمين وحماهم .... يستوي في ذلك من كان من هذه الطائفة (الكريمة) أو تلك.

وبما أننا أكدنا منذ البداية أننا مع مبدأ الحساب والعقاب فلنبدأ بهؤلاء القتلة والمجرمين ليأخذ العدل مجراه كاملا غير منقوص ثم نثني بالثوار المجاهدين فنحاسبهم على أخطائهم وزلاتهم.

ثالث هذه المنارات :

العقاب والعفو من القيم الإنسانية الأساسية والهامة ليستقيم ميزان الحياة بين الناس .... ومن أقبح الأفعال أن يقلب الحق باطلا والباطل حقا فيوضع العفو مكان العقاب ويحل العقاب مكان العفو فتضيع الحقوق ويختل ميزان العدل.

ولعل من العور الفكري والنفسي أنك تجد أولئك المطالبين بمحاسبة الثوار المجاهدين على أخطائهم وزلاتهم سرعان ما ينقلبون إلى الحديث عن التسامح والعفو حين تذكر جرائم النظام وأفراد النظام وتفيض ألسنتهم بالعبارات الشاعرية الرومانسية الرقيقة فيحدثونا عن (نسيان الماضي الأليم) .... و(القفز على الجراح) .... و(نحن أولاد اليوم) .... و(بدنا نفتح صفحة جديدة) .... ويستحضرون جميع مفردات الرحمة والإحسان والعطف والمحبة والود والإنسانية وماإلى ذلك .... فإذا عاد الحديث إلى الثوار المجاهدين انتفخت أوداجهم غيرة على الحقوق والأخلاق والطهارة الثورية مطالبين بإحقاق الحق والقصاص من المجرمين والتشهير بالفاسدين المفسدين.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو من الذي أعطى هؤلاء القوم الحق في التنازل أو التفاوض على دماء شهداء تدمر وحماة وحمص ودرعا وجسر الشغور وحلب ودمشق وغيرها .... من الذي فوضهم ليتنازلوا عن دماء حمزة وهاجر وعفاف ولين وعبد الله وسندس وريماس وريان وجود ومريم .... من الذي أذن لهم بالتسامح في أعراض بناتنا وأخواتنا .... من الذي أعطاهم الإذن للتنازل عن أموالنا المنهوبة وأعمارنا المسلوبة وبيوتنا المنكوبة.

هؤلاء المتفيقهين الذين يحاولون الإختباء وراء خطاب الرسول J لقريش يوم فتح مكة حين قال لهم "إذهبوا فأنتم الطلقاء" نقول لهم نعم لقد أمن النبي J يوم فتح مكة الناس إلا نفرا أمر بقتلهم وقال :"اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" لعظم جرمهم بحق الأمة.

فالعقاب الزاجر الرادع هو الحكم الفصل مع الذين سفكوا الدماء وهتكوا الأعراض وباعوا البلاد وتحالفوا مع الأعداء وخانوا الأمة .... والعفو والرحمة هو الحكم العدل مع الجاهلين والفاسدين والوصوليين والإنتهازيين الذين لم تغمس أيديهم في تلك الجرائم .... والقصاص أو العفو هما حقان من حقوق الأمة لا يحق لفرد منها أن يقرر اختيار أحدهما دون إذن وتفويض واضح بين من الأمة بذلك.

رابع هذه المنارات :

لا بد لنا من التأكيد في هذا المقام على أهمية التوعية السلوكية والخلقية للثوار المجاهدين حتى يكونوا جنود الحق على أرض الشام فإن بدر منهم ما يعيب من سلوكيات فاسدة من نتاج البيئة العفنة للنظام المجرم عولج ذلك بالنصح والتوجيه والإرشاد والزجر والتأنيب لا التشهير وتتبع العورات واقتناص الزلات والشماتة والتشفي .... وإن ارتكب بعضهم جنايات تخل بميزان العدل عوقبوا بسيف الحق حتى تطوى بذلك صفحة الفوضى وضياع الحقوق.

كان أبو مِحْجَن الثقفي رضي الله عنه لا يزال يُجلد في الخمر فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه .... فلما كان يوم القادسية رآهم يقتتلون فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين .... فأرسل إلى إمرأة سعد يقول لها : إن أبا مِحَجن يقول لك : إن خلّيت سبيله وحملته على هذا الفرس ودفعت إِليه سلاحاً ليكونَنّ أول من يرجع إليك إلا أن يُقتل .... وأنشأ يقول:

كفى حَزَناً أن تلتقي الخيل بالقنا                  وأُترك مشــــــدوداً عليَّ وثاقيا

إِذا قمت عنَّاني الحــديدُ وغُلِّقت                   مصارعُ دوني قد تُصمُّ المناديا

فحلّت عنه قيوده وحُمل على فرس كان في الدار وأُعطي سلاحاً.... ثم خرج يركض حتى لحق بالقوم.... فجعل لا يزال يحمل على رجل فيقتله ويدقّ صلبه وجعل لا يحمل في ناحية إلا هزمهم الله .... فنظر إليه سعد فجعل يتعجَّب منه ويقول: من ذلك الفارس؟ .... الضبر ضبر البلقاء .... والطفْر طفْر أبي محجن .... وأبو مِحْجَن في القَيْد .... فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى هزمهم الله .... ورجع أبو مِحجَن رضي الله عنه وردّ السلاح وجعل رجليه في القيود كما كان.

فجاء سعد رضي الله عنه فقالت له إمرأته : كيف كان قتالكم؟ فجعل يخبرها ويقول: لقينا ولقينا حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق لولا أنِّي تركت أبا مِحجَن في القيود لظننتُ أنها بعض شمائل أبي مِحجَن .... فقالت: والله إنه لأبو مِحجَن كان من أمره كذا وكذا فقصّت عليه قصّته .... فدعا به وحلَّ قيوده وقال: والله لا نجلدك على الخمر أبداً .... قال أبو محجن رضي الله عنه : وأنا والله لا أشربها أبداً.... كنت آنف أن أدعها من أجل جَلْدكم .... قال : فلم يشربها بعد ذلك.

كلمة أخيرة :

لأولئك الذين يفركون أيديهم فرحا حين تقع أعينهم أو تلتقط مسامعهم شيئا يظنونه إدانة للثوار المجاهدين وطعنا في خلقهم وشرفهم نقول لهم : " قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ " آل عمران 119 فلئن كانوا قد ارتكبوا إثما أو معصية فقد حملتم أنتم وزرها وباؤوا هم بشرف الجهاد في سبيل الله وبؤتم أنتم بذل الدنيا والآخرة.

وسيخرج علينا منكم ومن أمثالكم في يوم من الأيام من يطالب بإعدام آدم عليه السلام والتشهير به جزاء معصيته وأكله من الشجرة المحرمة رغم توبة الله عليه وغفرانه له .... ويطلب العفو والرحمة لإبليس اللعين مراعاة لمشاعره الرقيقة وحفاظا على اللحمة الوطنية وصيانة لطائفته (الكريمة) واحتراما لحقوق الجن والشياطين.

ربيع عرابي

شرح المفردات : مئاوم ومئاومة هو التعبير العصري لمقاوم ومقاومة باللغة المجوسية ويقابل باللغة العربية الفصحى معنى الجهاد .