يا مصر الجميلة يا أمي

يا مصر الجميلة يا أمي

يسري الغول*

[email protected]

... الحافلة تمضي بنا إلى المعبر، المخيم يعبر الذاكرة، الشوارع المغبرة بالأتربة، الضيقة بما تحمله على أكتفاها من تكدس المباني والسكان. نصل المعبر، نتوقف عند صالة شبكية في العراء، ننزل لأكثر من نصف ساعة، أعود فيها لقراءة رواية (رائحة القرفة) للسورية سمر يزبك التي لم انته منها بعد، أقرأ، أتأمل العابرين على شريط الوطن، ينادي السائق علينا كي نعود إلى الحافلة، فنفعل، ومنها نتوجه إلى الصالة المركزية، التي تغيرت معالمها كأنها لم تعد التي سافرت خلالها أكثر من مرة، حتى لون الطلاء تغير، فبعد أن كان أزرقاً هادئاً، أضحى بنياً قاتماً بعض الشيء، لكنه جميل أيضاً. انتظرت حتى يتم المناداة على اسمي وختم الجواز، يسألني أحدهم: أين أنت ذاهب ولماذا؟ ثم يضع ختم الرحمة ونمضي إلى الحافلة الأخرى التي ستقودنا باتجاه المعبر المصري، وعند البوابة السوداء (ولا أعرف سبب اختيار ذلك اللون المفزع) نقف قرابة الساعة أيضاً، في الحر والانتظار والملل، ننزل أيضاً، نحتمي بجدران المعبر الغربية، وبعد أن يفتح الباب ويسمح لنا بالدخول، تقف الحافلة مرة أخرى بعد عدة أمتار حيث يقوم الضابط بالتأكد من الأوراق. ثم يسمح لنا بالدخول وهناك، ككل مرة، إجراءات التفتيش المتعسرة.

ندخل الصالة المصرية، ساعات طويلة نقضيها بانتظار المناداة على أسمائنا، بعد قرابة الساعتين أحصل على جوازي الأسود كوجه غزة الآن، وعند بوابة الخروج أتفق مع السائق على دفع 120 جنيهاً للوصول إلى مدينة القاهرة، منطقة فيصل، ثم نمضي، ورغم محاولات الباعة الحثيثة بشراء شريحة فودافون أو اتصالات المصرية ب6 جنيهات، إلا أنني أرفض لامتلاكي واحدة قديمة، أكتشف فيما بعد أن صلاحيتها انتهت فبت في حاجة إلى شريحة جديدة، مما كفلني الكثير في القاهرة.

وتمضي بنا السيارة، نتوقف عند كوبري السلام، الشاحنات تضج بالمكان، تزدحم بنا الشوارع والأزقة، فنخرج كي تستريح أقدامنا قليلاً وكي نصلي الظهر والعصر (جمعاً وقصراً)، ثم نمضي، لنتوقف بعد ذلك بساعة لتعبئة السيارة بالوقود مجدداً، أتأمل المشهد، كأننا في غزة ومآسيها، طوابير من العربات المتهالكة تنتظر دورها، يتقدم أحدهم بحافلته عنوة محاولاً التقدم بهمجية، يتحدث معه السائق بهدوء لكن الشاب يصرخ كأنه يرغب بالمشاجرة، فتدعو النساء عليه كعادة نساء غزة، وحين نجد الوقت قد هزمنا وتأخر، نخرج لنصلي في المسجد المجاور لتلك للمحطة، ننتهي من الصلاة، نعود أدراجنا والعربة تسابق الزمن.

بجواري يجلس عجوز يريد السفر إلى الإمارات وموعد طائرته الساعة 10:30 مساء، وامرأة ينتظرها ابنها العشريني في موقف الإسماعيلية، ونحن نتألم بسبب المسافات الطويلة، والرجل الصائم الذي يجلس أمامي، يكتفي بإفطار بسيط على ماء وحبة خوخ رفحية.

... الوقت يمضي سريعاً، نصل القاهرة، كأنها المرة الأولى التي أرى فيها قاهرة المعز، جميلة، تتلألأ بالأنوار، الناس يتكاثرون كالهشيم، ينزل السائق باحثاً عن زميل له سيوصلني إلى فيصل، ويأخذني السائق الجديدة إلى هناك، في الطريق يحضر لي سندوتش بضعف الثمن طبعاً. وأثناء الطريق أتحدث مع السائق حول مصر وأحوالها، فأكتشف بأن المصريين يفتقدون لمعرفة أعلامهم من الكتاب والمفكرين والأدباء والساسة. إلا أن السائق كغيره من المصريين يمتلك قلباً طيباً وابتسامة رطبة وخفة ظل لا تضاهى، وحين أصل فيصل، يكون صديقي الكاتب د. فهمي شراب في انتظاري، أصل الشقة وأنام، كأني لم أنم منذ قرون.

... في الصباح أستيقظ على صوت الباعة والحافلات المتهالكة، جو القاهرة رائع ذلك الصباح، الناس، الحياة، الحركة الدءوبة لدى المصريين، ولعل ما كان يميز تلك المنطقة هو قربها من مترو فيصل، حيث السوق الشعبي والناس الذين لم أعايشهم من قبل، فقد كانت حياتي في القاهرة دائماً بالمهندسين عند عمتي الحبيبة التي أمضت حياتها هناك.

... وفي ذلك الصباح، الذي ستتلوه صباحات كثيرة على تلك الشاكلة. خرجت، اشتريت طعاماً ثم عدت إلى شقتي، وفي مساء اليوم الأول، تواصلت مع صديقي الصحفي المصري وائل الغول، وهو مصري صعيدي، يقطن في القاهرة، واتفقنا أن اذهب إليه في عمله، وهناك تعرفت على أصدقائه في المكتب، شبان مثقفين، واعدين، تحدثنا حول مصر والثورة وووو. ثم انطلقت بعد ذلك بصحبة وائل سيراً في شوارع القاهرة، عبرنا شارع جامعة الدول العربية، ومنها ركبنا الحافلة مجدداً إلى وسط البلد، إلى ميدان التحرير، إلى ميدان طلعت حرب، شاهدنا المظاهرات التي تنادي بإسقاط حكم العسكر، وأنصار أبو إسماعيل، واللوحات الفنية التي تبرز صور شهداء الثورة.

وقبل ذلك أو بعده، ذهبنا إلى كشري التحرير، نأكل ونضحك، يحدثني وائل عن أساس عائلة الغول الذي تختلف روايته عن غول فلسطين، فيخبرني بأن الغول هو أحد رجال عمرو بن العاص، وهو من القادة الميامين، الذين قتلوا الوحش، ولا أدري ما معنى الوحش هنا، هل هو إنسان اسمه الوحش أم حيوان؟ يتحدث وائل والشطة تلهب مخيلتي، الغول يجتمع مع الكشري ليحدث التهاباً في المعدة، لا يطفئ غليلها إلا الماء. يواصل وائل حديثه بأن عائلة الغول تتواجد في سيناء، وهم من فرع الفواخيرة وذلك نسبة إلى الفخار الذي كانوا يصنعونه هناك، وبينهم المرشح يحي الغول القاضي المعروف، ويقال أنه من أنصار الرئيس مبارك، ووو.

نخرج من التحرير إلى أجمل حكاية حب مع عصير القصب، حيث نشرب بلا هوادة، ثم نتضامن مع الإخوة السوريين، في خيمتهم بجوار مقر جامعة الدول العربية، ثم نعود أدراجنا لإحدى المقاهي المحاذية للمكان نسهر هناك وأمضي الليل معه في تتبع صوره مع كبار صناع القرار في مصر. استودعه وأغادر بالمترو إلى فيصل، حيث السرير الحلم، الذي أغتاله بنعاسي.

في اليوم التالي، يهاتفني صديقي الكاتب د. ثابت العمور، والذي أمضيت بقية أيامي في القاهرة عنده في الشقة، أتفق على الالتقاء به عند مترو الاوبرا، نمشي على الكورنيش، نلتقط بعض الصور، نشرب القصب مجدداً (بصراحة أشتاق للقصب الآن) يصف لي ثابت كل شيء في القاهرة، فهو يقطنها منذ عشرة أعوام ويعمل مسئولاً في فضائية فلسطين اليوم هناك، نذهب إلى سوق الأزبكية، أفكر بشراء رواية معذبتي لسالم بنحميش، والبائع يزعجنا بأيمانه فتحدث مشاجرة بينه وبين د. ثابت ننتهي منها بأن نعود أدراجنا إلى شقته ومعنا الرواية بالسعر الذي نريد. ما لا يجب أن أغفل عنه أن ثابت عصبي المزاج لكنه طيب جداً، مثقف، وذو قلم مميز، فمقالاته في مجلة القدس تبرز الحس الوطني البارز. 

...  وقد تعودت على الحياة في القاهرة ذهبت صباحاً لشراء الإفطار، من الفول والطعمية، ثم بقيت في الشقة أشاهد التلفاز حتى المساء، وبعد ذلك خرجت لملاقاة ابن عمي، الطالب بالقاهرة، إياد حسن الغول، ثم توجهنا معاً إلى نقابة الصحفيين المصريين لحضور حفل تأبين الطبيب عمر محجوب المصري الفلسطيني، ثم نتوجه لمول طلعت حرب، ثم إلى جاردن ستي، حيث التعرف على مكان السفارة الأمريكية التي سأتوجه إليها فيما بعد للمقابلة والحصول على الفيزا، كان يرافقنا خلال الطريق أحد الشبان المصريين، مثقف، يتحدث في الأدب، ويحمل بيديه رواية لبهاء طاهر فيما أذكر، تحدثت معه وانسجمنا في الحوار، لدرجة أن الشاب أخدني وسرنا في شوارع القاهرة فيما بعد ونحن نتحدث عن يوسف إدريس ونجيب وبهاء طاهر والبساطي وغيرهم.

خلال مكوثي في القاهرة، اتصل بي صديقي ونسيبي أحمد رياض عبد النبي، ودعاني لزيارته بمدينة 6 أكتوبر وألح في دعوته، ففعلت، فأحمد يعجبني كثيراً، فهو من النوع المرح واللطيف الذي يأسرك في عالمه. وهناك تناولنا طعام الغداء، وأعترف بأنه أجمل غداء تناولته خلال العشرة أيام التي قضيتها في مصر، تماماً كطعام عمتي (كريمة) هناك، لكنني بحق تذكرت طعام زوجتي الذي لا يضاهى أبداً. لقد كانت حياتي كلها عبارة عن كشري وقصب وجمبري ووجبات سريعة.

فجر الاثنين 30 إبريل 2012

وجبة حمام ساخنة افتتحت بها يومي، ثم صليت الفجر، وتجهزت للذهاب إلى السفارة الأمريكية بجاردن ستي، ثم خرجت مستعيناً بالله، ومتوكلاً عليه بالتوفيق وبما أمتلكه من ثقة للحصول على الفيزا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وصلت المكان السابعة صباحاً، أمامي طابور طويل، أقف حيث يأتي أحدهم للبحث والتأكد من الأسماء، أمامي أحد المرشدين السياحيين بالأقصر قادم لتجديد الفيزا، أخذت أدردش معه، وحين جاء موظف السفارة للتأكد من الصور والوثائق المطلوبة أمرني بالحصول على غيرها لأنها تخالف الشروط. أنتظر لأكثر من ساعتين في الخارج، ثم أدخل، إجراءات التفتيش غاية في التعقيد والملل. أكثر من ساعة ثم يتم المنادة عليّ من أجل بصمات اليد والعيون، بعد ذلك أقف في طابور طويل داخل القاعة، نسير ببطء كأننا في زحمة الحشر. أتعرف حينها على شاب مصري، يرغب بالسفر من أجل العمل، وقبل الساعة الثانية بقليل اشتم رائحة الضحك من شباك رقم 9 الذي تجلس قبالته فتاة أمريكية خفيفة ظل، فأطلب من صديقي المصري أن أذهب بدلاً عنه حال المناداة على شباك رقم 9، لكن للأسف يتم المناداة على شباك رقم 12، فيذهب وأنتظر، وفجأة يخلو شباك رقم 9 فأتوجه بسرعة إلى هناك، تتهلل أساريري، وينشرح صدري الذي يتسمر أمام تجهم الفتاة الأمريكية بعد أن رأت جواز سفري الفلسطيني، فقد أشارت لأحد زملائها مشيرة بيدها نحو جوازي، ثم تحدثت معي عن سبب السفر وغيره، وكانت تعبث بجهاز الحاسوب الخاص بها، تحدثنا لأكثر من 15 دقيقة، كانت تضحك فيها كثيراً وتقول لي: أنت very cute. فأدركت أنني نجحت، وما زلت اذكر كيف حاصرتها الابتسامة حين أخبرتها بأنني تحالفت مع رفيقي المصري على الحضور إليها، لأنها خفيفة ظل ومرحة، وهو ما دفعها لأن تقول لي بأن الفيزا ستكون جاهزة خلال يومين، وكل ما عليّ فقط أن أبلغ الـ DHL المتواجدين بالسفارة أنني أريد الحضور لمكتبهم بجاردن ستي وليس انتظارهم حتى يتم إحضار الجواز لمكان سكناي.

تلك الليلة، خرجت احتفالاً بنجاحي، ومعي رفيقاي حسين البيوك وزاهر زعرب، طلاب الدراسات العليا بكلية القانون بمعهد جامعة الدول العربية، وقضينا ليلة من أجمل الليالي على كورنيش النيل، شربنا الشاي المصري التقيل، وركبنا القارب ثم سرنا في دروب القاهرة ليلاً ومشينا حتى وصلنا منتصف الطريق للمنزل وهناك ركبنا المترو مجدداً.

حسين من أروع الشبان الذين عرفتهم، دماثة في الخلق، وحنكة وثقافة، أما زاهر، فهو حيي، خجول، ابتسامته عذراء، ليست كمن رأيتهم في القاهرة. وهم يعيشون معاً في الشقة التي أسفل منا أنا ود. ثابت، ولن أنسى أبداً العشاء الفاخر الذي تناولناه معاً وهو عبارة عن باذنجان مقلي، وبندورة ومقالي غزة، ههههه، أيام لا تنسى لأن في أحشائها طقوس الجنون التي يمارسها أبناء غزة أينما حلوا أو رحلوا.

يوم الخميس 3 مايو 2012.

كم كنت متوتراً لأن سفري يوم الأحد وأنا حتى حينه لم أحصل على الفيزا بعد، وعند الرابعة عصراً من ذلك اليوم توجهت إلى مكتب DHL بجاردن ستي وسألتهم عن الجواز فقالوا أنها ستأتي خلال ساعة من السفارة، فعدت أدراجي إلى ميدان التحرير وظللت أمشي وأتصفح الأماكن حتى قبل الموعد بدقائق، وقبل أن أصل المكان أتصل أحدهم من البريد السريع يطلب حضوري وهو لا يعرف بأنني من جاءهم قبل ساعة، وما أن وصلت حتى فتحت المظروف، فوجدت فيزا إلى الولايات المتحدة متعددة الدخول ولمدة 3 سنوات.

كنت سعيداً جداً حينها، الجنون الذي لا يوصف، لأنني كنت أظن أنها ستكون مضبوطة بمدة البرنامج الذي أشارك فيه فقط، وفي صبيحة الجمعة احتفلت مع إياد الغول ابن عمي بذهابنا إلى الأهرامات، ونزلة السمان، وليتنا ما فعلنا، فقد ركبنا الخيول، وكان حظي بأن ركبت أكثر الخيول شراسة، وما أن انتهينا من رحلتنا تلك، وتحديداً الساعة 11 صباحاً حتى عدت منهكاً إلى شقتي، وفي اليوم التالي اكتشفت بأن ظهري متصلب وجسدي منهك. وحتى يوم السفر لم أكن بخير، كنت أضحك حين أتذكر محمد هنيدي بفلم فول الصين العظيم وأقول بيني وبيني، يبدو أنني سأذهب وأنا محدودب الظهر، لكني بحمد الله تعافيت رغم بعض الجروح البسيطة في قدمي. ولعلي هنا بحاجة إلى أن أشكر شادي الغول، ابن عمتي الذي قدم كل ما يملك من أجل أن أنجح في رحلتي تلك، وكان على تواصل دائم مع السفارة الأمريكية بالقاهرة. كما لا يفوتني أن أطير آيات العرفان والحب لأصدقائي إياد وثابت وحسين وزاهر وفهمي وأحمد وعبد الله والصحفي الجميل وائل، فقد أتحفوني بتلك الرحلة التي لن أنساها ما حييت. ولولا ابتسامتهم وحضورهم البهي ما كنت سأشعر بجمال القاهرة وروعتها.

شكراً لكم أصدقائي، وإلى لقاء.

               

* عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين

غزة – فلسطين