وثيقة حب بحلب وأخواتها المناضلات

د. سماح هدايا

ربّما هذه ليست ورقة سياسيّة، أو ورقة تحليليّة بالمعنى المنهجي؛ لكنّها هديّة إلى مدينة حلب وماحولها من مدن وأرياف، عرفناها بدورها التاريخيّ العظيم. وهي الآن تعرفنا بنفسها من خلال بطولات ثورية شجاعة، ومن خلال صمود جبار. فحتى في خطاب السياسة، هناك لحظة تأمّل بالجمال والتاريخ والمكان ...وحتى لو دكّوا الآثار؛ فإنّ روح التاريخ تبني مجد آثارها من جديد

وثيقة حب بحلب وأخواتها المناضلات

عندما أتكلّم عن حلب،  يجري كلامي مجرى الحياة في الجسد؛ فحلب التي كلّما زرتُها،  ألحّت عليّ بالدعوة إلى زيارة جديدة. هي دائمة الإغراء بكثيرٍ من مفاتنها، وبخفايا الكنوز في سفوح  تاريخها، وبجمال الأرض التي تحيط بها إحاطة الأنوار بالقمر.

قد لا أكون على علمٍ وفير بتفاصيل وجدانها؛ فأنا لستُ مولودة في حلب  ولم أعش فيها. أزورها، بين فترة وأخرى؛ لكنّني غارقة حتى الرّمق الأخير من خيالي في عشق حلب. ولم يمنعني إدمان هوى دمشق، بِحكم المولد والأصل النّشأة، من أنْ أشاركَ فيه خالصاُ حلب. ولم تلهني فجيعة الدّم  في القدس وبغداد عن فجيعة  قلبي على ما ضاع  طويلاً من ثرى حلب. ولم تشغل القصور الأمويّة الجميلة المتناثرة في الأردنّ حولي ماشغلته في  قلبي القصور الطفلة  في أطراف الرّيف العميق من حلب.

حلب، أحبّ فيك إباء قلعتك وهي تشمخ على تلّة عليا، وتضرب جذورها في عمق التّاريخ وتستفز ّالنّاظر بالأسئلة، لكي يقلّب صفحات البحث والمعرفة:

ألا تريد أن تكتشف كنوز أسراري ؟ ألا تغريك الهيبة التي أطلّ فيها على الخلق  من أعلى؟

ألا فانظرْ إلى السّور الرّمادي  الذي يحضنن ذاكرتي،  وإلى أبراجي التي تستفزّ العظمة بما يشيع فيها من عزّ ووقار. هيا أيها الباحث عن ألغاز الزّمان والمكان...  اقتربْ لا تخش امتطاء صهوة الأمجاد. اصعدْ الأدراج والمدرجات، عاين  القناطر والبوابات.  اجتز الأروقة والسّاحات. اقطع في ضخامتها المسافات. عارِكْ صلابة المكان العبقريّ الذي  تفوح من زواياه قدسية الإيمان. ثمّّ تابعْ سيرَك في العلا حتى تصل إلى الأعلى... حيث ترى من  سمائها الشّاسعة، فوق، كيف يكون الشّموخ اعتراشا ... وهناك تشاهد من علٍ دروب المكان تقيض بحياة البشر، حيث تسكن المدينة القديمة الجديدة وادعة بين أروقة التّاريخ؛ فتبصر كلّ تجلياتها، وكلّ ألوانها،  وكلّ أطيافها ومآذنها وكنائسها. تشاهد المدينة تفنح عيونها العميقة النّاطقة بقدسيّة الإيمان والتّاريخ، وتبتسم بكبرياء متواضع، وقد أعلن ضجيجُها الصّاخبُ صدقَ الولاءِ لسطوة المكان. تتحدّى بكبرياء حجارتِها المغبرّة، وأزمتنِها العريقة المخضّبة بدماء فوارسها، بطش الغزاة البيزنط والمغول والفرنجة والتّتار.

حلب... أحبُّ أحياءَكِ القديمة التي احتفلت بالآلاف من السنين، ومازالت تنبض بروح الشباب والحياة. تتوزّع فيكِ الأسواق والخانات. وفي كل منها  حكاية. تموّج فيها إيقاعات الحياة، بين مامضى،  وماهو حاضر. هنا يشمّ الأنفُ رائحة البهار، وهناك تلمس الأنامل أنواع القماش، وتشاهد العيون مواسم الألوان. وأينما  كان الّهاب والإياب، فهناك  الحلوى،  وفستق حلب، وصابون الغار. وفي قلبِ المدينة، وراءَ خان الوزير. يقف الإنسان خاشعاً أمام جلال المكان؛ إذ تفوح من بقايا بقاياه ذكرى من  ملأوا الدنيا،  وشغلوا الناس؛ فهنا كان يعيش المتنبي، ومن هناك سار... ما زالت رائحته  تحفر جدران الأحياء القديمة، ومازال وقعُ أقدامِه يصطخب بعرق دربِه إلى  قصر الحلبة،  حيث كان صديقُه سيفُ الدولة أميرُ حلب.. الخصمَ والحكم.

يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ

ومن هناك يسري  صدى الحنين المنبثق من شعر أبي فراس الحمدانيّ في المنفى الرّوميّ، اجتاز السّهول والجبال، يداعب حفيف دمعات أمه، تسيل حزنا على غربة فارسها في المنفى الموسوم  بنقمة العدو الغريب وغدر الصّديق القريب. ومن هناك تأتي أشعاره الرّقيقة  ملفوفة بها  كلمات الشوق والغزل والعتاب:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر     أما للهوى نهي عليك ولا أمر.

بلى أنا مشتاق وعندي لوعة           ولكنّ مثلي لا يذاع له سرّ

ويعلو من خلف تلك الجدران ضجيج بلاط سيف الدولة، وثرثرة  الأدباء والفلاسفة والعلماء ....

أحبّ حلبَ صمودَها السّنديانيّ في قلب الآلاف من السنين،  وسط الغزو والحرب والعدوان، تحتَ الزّلازل الأوبئة، تنهض وتقاوم؛ لتنقشَ اسمَها  على  جدران التّاريخ بدماء ونار...

أحبّ حلب التي  تموج  مساحة  ثقافيّة متنوّعة، بين هدير الأمواج؛ فتتعايش الأديان والمذاهب، والأصول والأقوام،  تمتدّ على آفاق مجنّحة حريّةً،  قلّ في الدّنيا مثيلُها...لتنسجَ  قطيفة الإنجاز الإنساني الملوّن  تحت مظلة العروبة  وحضارة الإسلام.

أحبّ حلب  فنون الغناء والموسيقى: القدود الحلبيّة والموشحات  رقص السّماح ابتهال الصّوفيّ الغارق قي عشق إلهيّ خالد ...

حلب يادرّة المكان ...كم هو مدهشٌ ساحرٌ  متحفُكِ العظيم،  يضم في أجنحته أروع اللقى بعد أن أيقظها من غفوتها في سفوح  تلالك وامتداد مساحاتك..  لتسردَ حياة الإنسان ووجدانه، منذ الكهف القديم وإنسانه الغائب،  ومنذ  أيام ما قبل ميلاد المسيح. كم هو ساحرٌ متحفُكِ، يعطّر الأنف  بطيبِ رائحة العراقة،  وهي تفوح من طوابقه. وتبهرُ العينَ والعقلّ مشاهدُ الآثار فيه وروائع الفنّ المختلفة،  مسكوبة في الحجر والفخار،  وفي قطع الحلي،  وفي المشغولات المستعملة لأغراض تلك العصور القديمة المتعاقبة على أرض الشّمال السّوريّ.         

متحفٌ فريدٌ يعتزّ بأنّه لم يسطُ بمعروضاته على حضارة أمة أخرى، ولم يستعرْ تحفة من خارج محيطه. متحفٌ تحتفي حديقته وباحته الخارجيّة بمجموعة قطع أثريّة نادرة: تماثيل ضخمة، وكائنات مجنحة من الحجر البازلتيّ، تحلّق بالمخيلّة إلى عوالم الحكايات والأساطير التي كان أبدعها وجدان العارفين

حلب أنت كل المكان هناك...المدينة...، والقرية...، والرّيف...، والبادية الحلباء ...في مساحة سهولك الشاسعة الممتدّة حتى الأفق يغفو التّاريخ الغارق قي الأزل؛  ففي الجنوب منك، في معرّة النّعمان، في وسطها المكتظ بحركة الحياة والبشر، يقبع متحف المعرة، ليضمّ في أروقته عشرات اللوحات: آيات من فنّ الزخرفة والفسيفساء، حيث تحضر بقوّة مََلَكة البراعة الفنية وهندسة المعنى، في تصوير المشاهد النباتية والحيوانية والبشريّة. وحيث تسمع الأّذن بوضوح وشوشة اللون الصامد عبر الزمن على الرّغم من ضجيج الشّمس،  وحيث يغتني  العقل بجمال الصورة والشّكل والرّمز..

وبالقرب من  المتحف يستلقي ماتبفّى من جسد  الشّاعر أبي العلاء المعري، وقد ضاق بالقبر المزوي وراء ما تبقّى من أمجاد الفكر والكلام. يقف قاصدُ المكان، بخشوع، يقرأ من قلبه، بصمت جليل،  صلوات ودعاء، وهو على يقينٍ أنّ ذلك العملاق المختفي في التراب وسط سبات المكان  وعبث  الأقدار يستحقّّ أكثر من ذكرى بائسة..إذ تظلّ روحه الحكيمة تعاند قسوة الدّهور والأنام، وتقاوم  الإهمال المنسيّ في غلظة المكان، الذي تغيّر كثيراً، بفعل تعاقب الأيام والأزمان،  بأبيات ٍ تهزّ أبديّة الفناء:

صاح ، هذي قبورنا  تملأ  الرُّحــب فأين القبور من عهد  عادِ؟

خففِ  الوطء  ماأظنُّ   أديم   الأرض   إلا   من    هذه    الأجساد

وقبيحٌ  بنا  ،  وإن   قدم   العهـد     هوان   الآباء    والأجدادِ

سر إن استطعت في الهواء  رويداً  لا اختيالاً   على رفات   العبادِ

وفي إدلب في جنوبها، في جبل الزّاوية، عند الوادي والسّفوح، تاريخ القرى الغائبة في كهوف التّاريخ: سرجيلا تحفة الأوابد، ضفيرة  جميلة منسيّة في وسط الرّيف العميق، ألقاها المجد الإنسانيّ،  مخلوقة بهيّة في  زهوة العمران ورقي العمارة  وبلاغة الحجر...منذ البدء..قبل الميلاد، قبل الإسلام وبعده ... بيوتها، معاصر زيتونها، الحّمَّام، الفسحات السّماويّة،  معابدها، مدافنها، قصرها، القرميد، حوار الشّجر القديم، والحجر الغشيم... حوار الزّيت والخمر...

والبارة بمدافنها الهرمّية، ومعابدها، وبيوتها، وأديرتها، وكنائسها وجامعها، وحماماتها، ومعاصرها التي جاءت منقورة بالحجارة... تواجه إعصار التدمير القادم مع هجوم الفرنجة ... وتبقى بعد كلّ التدمير أبيّة في الدفاع عن بقائها وعروبة أرضها.

أمّا في امتداد الشّمال منكِ ياحلب، في اتجاه منطقة عفرين في درب اللانهاية، تغدق عليكِ الأرضُ الكريمةُ بطبيعتها الخضراء الخلابة غلال الخير والمواقع الأثريّة المتناثرة في بقايا المعاصر والمعابد والمدافن  والبيوت. ثمّ يطالع العينَ تحفة مكانيّة هي قرية دير سمعان، والكنيسة الرائعة التي صمدت على خارطة الإنجاز آبدة ضخمة من أضخم الكنائس في العالم،  أنتجها إنساننا الغارق في تاريخه العربيّ، السّاطع بصوفيّة الإيمان وروحانيّة التّزّهّد، وأوجد في الصّخر والحجر بلاغة المكان وإعجاز المقام.

قريةٌ فخورة بمن أنجزها، وبما أنجزت، تربض على تلة صخريّة، وتطلق جموح الخيال وراء  مسير الناسك سمعان، الذي ظلّ من صخر جبله يرتقي إلى  السماء بعمود، علّه قارب الإحساس بأنفاس الإله...يتعبد ويتأمّل يتصوف ويتنسك...ويعيش مجده الدنيويّ لثورة النّفس على الجسد طقوس عشق إلهي وعبادة.

هناك في قرية سمعان  يصبح للرّبيع نكهة الإدهاش البديعة؛  فيذوب الطّقس النّيسانيّ العشتاريّ الفصحيّ  داخل ألوان خصيبة  شهيّة.. الشمس وتجلياتها على الأعمدة والحجارة والأقواس، خضرة الوديان والسهول، وظلال الأشجار، وإيقاعات منمنمةٍ لغيم خجول.  ويصبح للمكان المختبىء  بين أوابد عمرانية فريدة حالة شعوريّة شاعريّة،  تنبثق من روح إنسان يتفنن في إعجاز الحجر،  ومن أنفاس الطبيعة تتقن عشق الأرض وتجذير الشّجر.

حلب .. أنت للمعنى والمبنى جمال.. سار بك التاريخ وسرت به... أهديك في خاتمة السطر الأخير لوثيقة  الحب،   ماختم به الشاعر الدّرويشيّ مطبوع  كلامه الجميل:

أثر الفراشة لا يرى 
أثر الفراشة لا يزول
هو جاذبية غامض
يستدرج المعنى وترحل 
حتى يتضح السبيل 
هو خفة الابدي في اليومي
اشواق الى اعلى
واشراق جميل
هو شامة في الضوء تومىء
حين يرشدنا الى الكلمات 
باطننا الدليل 
هو مثل اغنية تحاول
ان تقول وتكتفي
بالاقتباس من الظلال ولا تقول
اثر الفراشة لا يرى
اثر الفراشة لا يزول