المدارس التركية في العالم

المدارس التركية في العالم

حازم ناظم فاضل

[email protected]

تعتبر المدارس  مشاريع تربوية  تصنع تغييراً كبيراً في المجتمع وتهدف الى التربية السليمة التي تخرج شباباً اسوياء بعيداً عن الاعيب السياسة . فالمدرسة تهتم بالأساس بغرس القيم الراقية في الأطفال والتي تخلق فيهم الإنسجام  بين الروح والعقل والقلب وتجعلهم أكثر قدرة على التعايش والتأثير. وأن الأخلاق كالصدق والأمانة هي أهم ما يجب غرسه في الأطفال وهي التي تمكنهم من التعامل السليم مع العلم والتطور..

وبتوجيه من الاستاذ «محمد فتح الله كولن » فتحت هذه مدارس في عموم اقصاع الله المعمورة لإيصال رسالة الاسلام الى كل مكان في العالم بأسلوب عصري متطور ،واعداد الطلبة اعداداً نفسياً ومعنوياً واخلاقياً وسلوكياً على المبادىء الدينية الفاضلة .

 وفي مدة قصيرة احتوت هذه المدارس اكثر من (140) دولة من دول العالم .

ولقد صدق الدكتور فريد الانصاري عندما رأى هذه المدارس فقال :

«حاصَروا ظُلْمَ البنادق المتارس بالمعاهد والمدارس، وأطفؤوا نيران الفتن والحروب بالكلمات والحروف..

فكل مدرسةٍ يَبنونها هنا أو هناك تَغدوا شجرةً خضراء، ما تزال تفرّخ حولها فسائل منها تَنمو ثم تنمو، حتى تصير البلاد أشجارا وأشجارا، فإذا بغابة الخير تَخنُق صوتَ الرصاص البغيض، وتقضي على رائحة البارود النتة(1).

واشاد بمعلمي ومدرسي هذه المدارس فقال  :

«معلّمون.. انتشروا في كل مكان، يعلّمون أطفال العالم منطق الطير وتراتيل العصافير، ويرسمون على السبّورات الخضراء أمامهم أحلامَ الغد الجميل ومعالم الطريق إلى الجنة.

فللطفولة المتخرِّجة من بين أحضانهم -عَبر كل قارّات الأرض- نشيدٌ واحدٌ، يبشر الأمة بالخير والسلام .ملائكةُ الذكر تحبُّهم، فلطالما استمعت إلى أهازيجهم الشجيّة.. وملائكة العلم تعرفهم، فلطالما حملت بأجنحتها طلائعهم، وهي تضرب في الأرض نحو غابات أستراليا أو صحارى آسيا أو أدغال إفريقيا أو نحو ضباب الغرب البعيد.. ليطلقوا شعاع النور من فوق ناطحات السحاب.. معلّمون عُزَّل، إلا من سلاح التربية والتعليم! يغامرون باقتحام المخاطر في كل مكان، فيرحلون بصدورٍ عارية، ووجوه تبتسم أمام فُوّهات الموت! ولربّما خرقت بعضَها رصاصةُ غدرٍ، أو نائبةُ دهرٍ، فلا يرجعون القهقرى أبداً»(2) .

 هؤلاء المعلمون يعشقون الخدمة اغتراباً، من قَرِّ «سبريا» إلى حَرِّ إفريقيا.. ولا تركوا جزيرة أو مغارة أو سهلا أو جبلا من كل قارّات العالم إلا دخلوه، ووزّعوا فيه شُعاعات الصبح القريب . وعلموا انه بالتعليم فقط سيتمكنون من القضاء على كل ظواهر التخلف وسيتمكنون من بناء مرحلة حضارية راقية وحقيقة وسوف يحققون الاستقرار والأمن والسكينة وسيتمكنون من امتلاك أسباب وعوامل التقدم .

 فهم ابطال المحبة!..

فمن هم هؤلاء الابطال ؟!

  انهم ينبذون كل الخلافات ويلتقون مع كل انسان في كل مكان فاتحاً قلوبهم ناشرين التربية والتعليم في الفيافي والقفار في الجبال والسهول ، وفي اقاصي الدنيا ليل نهار بجد وعزيمة لا تفتر ، لا يسأمون ولا يعرفون لليأس سبيلاً ناكرين ذواتهم عند الحديث عن الانجازات التي يحققونها في شتى المجالات . لا يسأمون  ولا يعرفون لليأس سبيلاً ، انهم ابناء هذا العصر يرضعون من ثدي هذا الزمان فهم في عباداتهم كأويس القرني  وفي سياحتهم كأولياء جلبي وفي علومهم كابن سينا والرازي والخوارزمي وابن الهيثم ، ينظرون الى كل شيء بنظر العبرة ويرفعون عن الوجوه برقع الحقد والفرقة والحسد ، بيدهم سلاح العلم والمعرفة ، لقد اتخذوا سلاحاً كذوالفقار (ذو حدين) العلم والمعرفة ، التربية والتعليم .

«إنهم فقط هم الذين يستطيعون انشاء عالم المحبة والنور والسعادة في المستقبل .. ابطال المحبة على شفاههم بسمة المحبة ، قلوبهم عامرة بالمحبة ، نظراتهم تشع بالمشاعر الانسانية ، يغمزون للكل غمزة محبة .. ويرون في شروق الشمس وغروبها وفي بريق النجوم وخفوتها رسائل محبة»(3) .

وقد يتبادر الى الذهن بان هؤلاء يساقون جبراً الى هذه المدن النائية .. ولازالة هذا الغموض نسرد بعض القصص الواقعية عن ذلك :

(1) في رسالة احد الطلاب في سيبريا وهو على فراش المرض الى امه :

 أماه!.. لا أدري هل أستطيع إتمام رسالتي هذه قبل وفاتي أم لا؟.. أريد أن تحتفظي برسالتي هذه سرًّا بينك وبيني... ما أبرد هذا البلد يا أماه... أشعر بالقُشَعْرِيرة وهي تسري في جسدي... أشعر بالبرد يا أمي... أكتب هذه الرسالة على فراش المرض... جاء تلاميذي في المساء لزيارتي... طلبت منهم الدعاء لي بالشفاء... آهٍ يا أمي، لو شاهدت كيف دعوا... لو شاهدت أسلوب وكيفية دعائهم... لو كانت لي ألف روح وتجمّدت كل منها واحدة إثر أخرى لَما ترددت في المجيء إلى هذا البلد البارد(4) .

(2) كان قد تخرّج من الجامعة بتقدير ممتازٍ. وعُيّن مدرساً في إحدى دول آسيا الوسطى التركيّة. ..ولا بد أن يُقنع والدته بأنّ آلاف الأعين تنتظره في تلك الأراضي البعيدة. عليه أن يسرع لسَقي تلك البقاع الظامئة مع من ذهبوا قبله من الشباب التربويين الأطهار... عليه أن يذهب حاملا معه رسالة الرحمة والحب ليغرسها في القلوب الضائعة الحائرة... عليه أن يذهب حاملا معه القلَم والكتاب والإيمان والفضيلة. لا بد من تلبية نداء «الأستاذ المربّي» الذي تشبَّع بأفكاره النبيلة. كم سكب «الأستاذ المربّي» من الدموع من أجل أن يبعث الروح من جديد في تلك الأراضي الميتة، وكم أُغمي عليه وهو يدعو إلى الهجرة لنشر نور الحياة في تلك الديار المظلمة. لا بدّ من الهجرة... ألم يهاجر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)إلى أرجاء العالم لنَفْس الغاية النبيلة؟!  قال : «أمي الحبيبة، يا أعزَّ إنسان في الوجود...أُمّاه...» رفع رأسه ونظر إليها مليا ثم تمتم بعبارات متقطّعة «عليّ أن أذهب يا أماه... عليّ أن أذهب إلى آسيا الوسطى...»

لم يستطع أن يقول سوى هذه الكلمات... خيّم على الغرفة صمت كئيب، بدَت الأم مذهولة غير مصدقة... لكن بعد لحظات صحَت من ذهولها، وربّتت على كتفه بحنان وسط دموع ساخنة تنحدر على خدَّيها. كانت «صَبرية خانم» من الذين يعرفون معنى الرسالة التي يؤديها ولدها ورفاقه. فقالت وهي تمسح دموعها «صَحِبتْك السلامة يا ولدي، وسأصبر على فراقك ، فاطمئنّ بالاً».

     مضت الأيام بسرعة... بأفراحها ومآسيها... قضى أعواما طويلة في البلاد التي اعتبرها وطنه الثاني... تعلَّم في هذه الأراضي النائية معنى الحياة، ومعنى خدمة الإنسانية، ومعنى غاية الوجود، ومعنى العمل لكسب مرضاة الخالق سبحانه؛ أحبّ الناس في الله وخفق قلبه لله.. وبعد أن أصبح مديرًا عمل بجدّ، وسهِر على تعليم تلاميذه وتربيتهم. لقد كانوا كل شيء بالنسبة له في الحياة، فنال ثقة أهل البلد، وحصلت مدرسته على جوائز عديدة... تنفّس الصعداء... «الحمد لله، كل ذلك من فضل ربّي».

كان التلاميذ يلعبون بمرَح في ساحة المدرسة وأصواتهم الجميلة تملأ الفضاء. ولكن... ما لتلك الأصوات المرحة تحولت فجأة إلى صرخات مدوية!..

سمع طرَقات قلقةً على الباب مع صوت مذعور لتلميذ خائف «أستاذ!.. النجدة!..» انتفض من مكانه، «أستاذ!.. أستاذ!.. أحد التلاميذ... سقط من الطابق الثاني!...»..أظلم العالم في عينيه، شعر كأن الدنيا تدور، انحلت مفاصله وكاد يقع على الأرض، لكنه استجمع قواه وخرج من الغرفة مسرعا يرتطم بجدران المدرسة. أخذت هواجس الرحمة والقلق تصطرع في داخله.«يا إلهي!.. كيف حدث ذلك؟ ماذا لو مات الولد!؟ يا رب، لقد وثق الناس بنا ومنحونا حبهم وائتمنونا على أبنائهم فلم نخيّب ظنهم. ماذا لو أصاب المسكين مكروه؟ ماذا أفعل لو أوقفوا عمل المدرسة بحجة الإهمال... يا رب احفظنا..»

 أسرع ناحية المكان الذي تجمّع فيه التلاميذ. وما إن رأوه حتى أفسحوا له الطريق، وإذا ببَدَن صغير وقد ارتمى على الأرض دون حَراك وسط دماء تسيل من رأسه. مدّ يديه المرتعشتين ببطء، واحتضن الطفل بحنان، ورفع رأسه بعناية... فعرفه... «الحمد لله!..»..انحدرت الدموع على خدَّيه بلا إرادة منه.. شعر كأن شيئاً ما يعتصر قلبه... ضمّه إلى صدره بحرقة وتَمتم بألم «ولدي!..» نعم... إنه ابنه وفلذة كبِده... جس نبضات قلبه الصغير ولكن...(5) .

 (3)  شاب في السادسة والعشرين من عمره. تخرج في إحدى الجامعات الراقية بإستانبول. يتقن اللغة الإنكليزية كلغته الأم. نعم، إنه الآن بعيد عن الوطن، في أرض لا يعرف لغتها ولا ثقافتها. دفعه إلى هنا صوت انطلق من أعماقه «امض يا أخي، فهناك ظمآى يترقبون النور الذي تحمله إليهم». أتى إلى هذه البقعة النائية من روسيا مدرساً للإنكليزية في ثانوية فتحها متطوعون من تركيا قبل عدة سنوات لنشر رسالة الحب والسلام. البرد قارس والجبال يكللها الضباب والثلوج تغطي كل مكان...  وصل المدرسة.... تساءل الشاب بينه وبين نفسه «أيمكن العيش هنا؟» ..

 عندما بدأت العتمة تسري في الجو علم أن الشمس مالت إلى المغيب. أين هو السعيد الذي يحظى برؤية الشمس؟ الغيوم الرمادية تغطي الآفاق هنا أكثر من ستة أشهر. ذهبوا به إلى منزل أحد تلاميذ المدرسة. خلافا للبرودة المجمدة احتضنته حرارة حنون في الداخل. بعد قليل لاح التلميذ يحمل صينية أكواب من الشاي الساخن. توقع أن يكون في الخامسة عشر من العمر، قامته تميل إلى الطول، شعر أصفر يميل إلى الحمرة، عينان زرقاوان في وجه مستدير أبيض تعلوه ابتسامة الترحاب. أثناء تقديمه الشاي قال التلميذ للضيف الجديد بلغة تركية جيدة «أنا أجيد اللغة التركية». حاول الضيف أن يغطي حيرته بابتسامة متكلفة «قل شيئا بالتركية إذن؟»..حدق الفتى في عينيه وقال بصوت رخيم وبسمة واسعة وكأنه اكتشف تساؤلاته التي تصطرع داخله منذ النهار «أما ترضى..أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة»...أصيب بصدمة.. فوجئ..لم يكن يتوقع هذا الرد.. أحس بالخجل يجري في عروقه بسبب الأفكار التي راودته أثناء تجواله في المدرسة. يا إلهي! ها هو السر؟ إنه اكتشف سر الصبر والعزم والشوق الذي شد قلوب زملائه إلى هذه البقاع النائية... ها هو السر يقف أمامه بوجهه الطلق المتبسم. فأحس بصوت ينطلق من أعماقه«بل هنا الحياة الحقيقية التي تستحق العيش». أحس بارتياح عميق في قلبه. زالت جميع الآلام والأحزان. شعر أنه وجد وطنه الحقيقي(6).

(4) تشير الرزنامه إلى شهر آب عام 1994 في مدينة «عتراو» في قزقستان.. ياسين وطلابه في نزهة على ضفة نهر «أق جاييق»،كلهم يعبث ويلعب بمرح وفرح.. لا أحد يدري مصيرَ قُدْوَتهم وأستاذهم «ياسين».. أُفلتت الكرة من بين اللاعبين وسقطت في النهر.. سارع الطالب «نورسلطان» لإمساكها قبل أن تجرها المياه إلى بعيد.. شقّ بيديه طريقه إليها وحاول إمساكها، وفجأة أحاطت به دوامة من دوامات النهر فراح يغطس ويتخبط ويصرخ ويستغيث:«النجدة!.. أنقذوني..» فهرع الأستاذ ياسين نحوه وألقى بنفسه إلى جوف النهر.. راح يجدّف بيديه بكل ما فيه من طاقة وقوة..حتى وصل إلى«نورسلطان» فحضنه ثم راح يسبح بسرعة نحو الضفة..وراح ينادي ربه من صميم القلب:«يا رب إن آباء هؤلاء الشباب وأمهاتهم اعتمدوا علينا ووثقوا بنا فلا تخيب ظنهم بنا يا مغيث ويا أرحم الراحمين..»كان يحب طلابه كثيراً ولا يريد أن يصاب أي واحد منهم بمكروه..وصل إلى الضفة بصعوبة وعناء شديد، لكنه شعر بإعياء شديد وما عاد يستطيع تحريك أي عضو من أعضائه.. أمسك الطلاب بنورسلطان وأخرجوه من الماء.. انشغلوا به وغاب أستاذهم عن بالهم فترة قصيرة.. سمع «ياسين»أن الطالب لا زال على قيد الحياة فحمد الله من الأعماق، ثم همّ بالخروج من الماء ولكن دوامة أخرى من دوامات النهر سحبته إليها دون أن يستطيع مقاومتها من شدة ما كان يعانيه من تعب وإعياء وأخذته إلى البعيد، وسرعان ما راحت الأمواج تتقاذفه وتبعده عن الضفة حتى غاب عن الأنظار.آثر تلميذه على نفسه، أنقذ طالبه وأسلم نفسه إلى المياه الجارفة.. وسار إلى ربه بنفس مطمئنة. إذ لم يأت إلى هذه البلاد إلا لخدمة الإنسانية ونثر بذور قيم رسالته السمحاء.. لم يأت إلى هذه البلاد إلا لكسب مرضاة ربه سبحانه..وها هو ينال المنال ويلقى مولاه وهو يخدم أبناء هذه الأوطان(7).

               

الهوامش

(1) الانصاري ، فريد ،  مجلة حراء ، رجال ولا أي رجال، العدد 13 ،  (اكتوبر – ديسمبر) القاهرة  2008.

(2) الانصاري ،المصدر نفسه.

(3) كولن،محمد فتح الله ، الموازين ، ص138 .

(4) أرواسي ، محمد ساجد  ، مجلة حراء ، الثالثة الا عشر دقائق، العدد 9 ، اكتوبر – ديسمبر 2007 .

(5) صواش ، نورالدين ، مجلة حراء ، وا اِبناه... لتكن أنت الفداء ، العدد  6 ،(يناير- مارس) 2007 .

(6) سداد، محمد، مجلة حراء ، في بلاد الثلج ، العدد 1 ، 2005.

(7) تكول ، علي ،مجلة حراء ،  ياسين أنت ،  العدد 19 ، 2010