فلسطين في حديقة منزلي

فلسطين في حديقة منزلي

نازك ضمرة

كاتب فلسطيني مقيم في الولايات المتحدة

أقبل أن أكون حارساً ما دام معي كتاب، واليوم وفي أواخر شهر مايو أيار أجلس على كرسي ذي عجلات، نصف مني تحت السماء ونصفي الآخر مع ثلثي الكرسي داخل الغرفة الملحقة بمنزلنا، لكنها ليست متصلة بمبنى البيت، بل بينهما عشرة أمتار، على يساري حظيرة دجاجاتي الثلاثة عشر، بمعدل ما كانت تقتني امي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين في قريتنا في فلسطين، ودجاجاتي لم يبلغن الرشد بعد، لأنني اقتنيتهن بعد اسبوع من الفقس، لا أشرب القهوة عصراً عادة، لكن جو هذا اليوم حرضني فتنشطت وجهزت فنجان قهوة أمريكية، حملت كتابي وخرجت لأقتعد الكرسي المريح، مقلدا الحراس المخلصين، سأواصل القراءة في كتاب عادل سامل القصصي والمعنون (لعيون الكرت الأخضر)، ويعني من اجل الحصول على حق العمل والإقامة في أمريكا يهون كل شيء، وكل قصص المجموعة ترتبط بهذا المفهوم، أحرك الكرسي الدوار يميناً ويساراً، شرقاً وغرباً، ووجهي صوب القطب الشمالي، أتمنى لو امتدت الأرض ومجال العيش على هذه الدنيا الصغيرة لما وراء القطبين، العالم صغير بالنسبة لهذا العجوز،  مع انني كنت أشكو من طول المسافات والساعات اثناء أسفاري إلى شرق آسيا، أو إلى جميع انحاء اوربا، او شمال أفريقيا، أو أمريكا طبعاً حيث استقر مقامي بها، سفرات جرت قبل أكثر من عشرين عاماً.

قطرات قليلة من ماء مطر خفيف حطت على ورقتي، وكان من الممكن حمل جهازي الكمبيوتر معي لأكتب هذه السطور حال ولادتها، ومن ثم حفظها، لكنها أساء لنفسه ولي، حين أصابه عطب عصر أمس، وأدرك أن عليّ أن أعيد طباعة هذه السطور التي كتبتها على ورق، لحفظها إن لم افتقد ورقتي الصغيرة، وكثيراً ما تضيع كتابتي، وكل من هم حولي ضد هذه الهواية المتعبة، يجلبون الشقاء لي أحياناً حين تخطر لي فكرة، او إذا أردت التعبير عن موقف ما، فينشأ خلاف او معارضة او نكد في البيت، وكثيراً ما يكون ذلك مفتعلاً، فتنتحر الفكرة ويتلاشى وجودها، وتضعف العزيمة والعزم والنية، ويتبخر ما أردت التعبير عنه إلى أجواء خارج الكرة الأرضية.

 أدفع الكرسي ذي العجلات تحتي قليلاً للوراء، يئن شاكياً من خشونة الأرض، وربما من خشونتي في تعاملي مع من يحتضنني ويريح جسمي المتعب، أتنفس بعمق وينزل المزيد من زخات المطر الخفيف، أنتعش وأزداد عشقاء لكرم السماء، تعدل مزاجي كمدخن لمادة مخدرة، فتصفو نفسي وأدفع ظهر الكرسي بظهري، فيتحرك الكرسي بمرونة وتبعية، لممت ورقتي للوراء قليلا ، والتم شمل دجاجاتي ودخلن متكدسات لإحدى البيوت الخشبية الكبيرة والتي صنعنها لها. أنظر لليمين والساعة السادسة مساء، وغروب الشمس بعد ساعتين او أكثر قليلاً، وجهي وفتحة باب الغرفة الإضافية صوب الجنوب، وحين أردت البحث عن الشمس المفقودة بين الغيوم، شاهدت منطقة أقل إظلاماً وتعتيماً، انفضح مخبأ الشمس، بل حددت مكانها عيناي،  مع ان اهلنا في فلسطين تحت الاحتلال يكررون الشكوى باستمرار قائلين: متى تشرق شمس الحرية على أرض فلسطين؟، شروق الشمس بداية لحياة يوم، يوم على أمة فيه ملايين الحركات والتحركات والأقوال والأفعال والموت والحياة والزرع والخلع والعمل والنوم والحركة والسكون، فماذا عن يوم يسجل فيه حياة العالم؟؟..وشروق الشمس على الحرّ  على ارضه ووطنه الأصيل لها معان عميقة قد لا يحسّ بها ابن البلد نفسه، لأنه يحياها بشكل متكرر، لكن المحروم والمظلوم والغريب يعرف معنى شمس الحرية، في جو غائم مع إنذارات في المذياع والتلفاز بقدوم عاصفة، يتساقط مطر ناعم فيغسل أجساد شجيراتي وخضراواتي التي زرعتها يداي، تفاجئني تلك النباتات بكبرياء رؤوسها الشامخة، تود لو تنفلت من رباطها في الأرض، لتراقص حبات المطر المتحررة في الفراغ الفسيح، لكنها تقف عنيدة صامدة تزداد قوة جذورها وتمتد، ولا تقوى أي عاصفة على اقتلاعها وحرمانها من ارضها، ومهما سكبت السماء فوقها من غضبها ورياحها، فلا تبالي ولا تغادر أماكنها، وليس هذا فحسب، بل أعتقد ان لسان حالها يقول: هل من مزيد؟.؟.... ما أروع هذا الشموخ والإصرار على الحياة والنماء، ما إن غامت السماء حتى علت برؤوسها تناجي وتتحدى غضب السماء، كأنهن عرائس يرتدين حللا ملونة لاستقبال الأحبة، وإنهن ينتظرن موعد قدومهم الذي طال فطاب ذاك البهاء، وباعتزاز بما زرعت يداي ينشرح صدري، وأحس بعضلات وجنتي ترتخي بسبب ولادة ابتسامة افتقدت آثارها على وجهي ليومين متتالين.