قراءة في مجزرة دير ياسين

قراءة في مجزرة دير ياسين

صلاح حميدة

[email protected]

تعتبر مجزرة دير ياسين من المجازر الرّئيسيّة الّتي ارتكبتها الحركة الصّهيونيّة بحقّ الشّعب الفلسطيني، وبالرّغم من أنّه يوجد مجازر أخرى قتل فيها أعداد أكبر من الفلسطينيين، إلا أنّ مجزرة دير ياسين كان لها  الأثر الأكبر على مجريات الصّراع مع الاحتلال على أرض فلسطين، بل لا نبالغ إن قلنا أنّها شكّلت مفصلاً في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة، ولا يزال لها أثر واقعي و نفسي ومعنوي وتاريخي كبير على طرفي الصّراع، فمن ناحية لا يزال جرح دير ياسين مفتوحاً عند الفلسطينيين، لما ارتكب خلالها من فظاعات، ولما تركته من آثار لا يزال الفلسطينيون يعيشون ويلاتها، وكذلك لما لتلك المجزرة من آثار بتسهيلها قيام دولة الاحتلال على أرض فلسطين، ولاستمرارها في ملاحقة المشروع الاستيطاني الكولونيالي الإحلالي أخلاقيّاً على أرض فلسطين، وهذا هو السّبب في رفض دولة الاحتلال الكشف عن ما ارتكبته الحركة الصّهيونيّة بحق المواطنين الأبرياء في القرية حتّى اليوم.

** لمجزرة دير ياسين بعد إنساني يسبق الحدث، فأهالي دير ياسين ليسوا أرقاماً تدوّن كمقتولين ولاجئين ومفقودين، فهؤلاء بشر كانوا يعيشون في قريتهم، كانوا مزارعين في حقولهم يعملون في الزّراعة وفي تربية الحيوانات الأليفة، وكان أهالي دير ياسين معروفين بعملهم في مجال الحجارة الخاصّة بالبناء، وكان في القرية الكثير من المحاجر، وكان إنتاجهم يباع في العديد من الأماكن في محيط القدس، وكان لأهالي القرية أفراحهم وأحزانهم وعلاقاتهم بالمحيط، فمنهم من  جهّز حجارة ومواد بناء لبناء منزل جديد، ومنهم من كان قد زرع أرضاً جديدة، ومنهم من كان يخطّط لتزويج أولاده، ومنهم من كان يفكّر بمولوده الّذي سيأتيه بعد أيّام، أهالي دير ياسين كانوا فلاحين بسطاء يحبّون الحياة، وينظرون بتفاؤل للمستقبل. ولكن آمال كل هؤلاء تمّ تحطيمها بين ليلة وضحاها بفعل جريمة هزّت ضمير كل من لديه حسّ إنساني، ووجدوا أنفسهم مقتولين مطاردين مشتّتين بلا بيوت ولا أملاك ولا غذاء، ينتظرهم مستقبل مجهول.

** كشفت المجزرة أنّ الحركة الصّهيونيّة ليست إلا امتداداً للفكرة العنصرية في أوروبّا والتي تقول أنّ اليهود في أوروبّا كانوا ضحايا لها، فالغربيوّن نظروا لوجود اليهود على أنّه مشكلة، ولجأوا للتّخلّص منهم عبر وسائل عنصريّة مختلفة، قالت الحركة الصّهيونيّة أنّ الحرق بالأفران كان إحداها، ومن الملفت أنّ الحركة الصّهيونيّة نظرت للفلسطينيين بنفس العين الّتي نظر فيها لليهود في أوروبّا، وعندما امتلكت وسائل القوّة قامت مباشرةّ بممارسة نفس الأساليب بحق الفلسطينيين البسطاء في دير ياسين، بل قام عناصر الحركة الصّهيونيّة بإلقاء مالك فرن القرية وإبنه ( من آل الشّريف)  داخل نار الفرن الّتي كانا أعدّاها لخبز الخبز لأهالي القرية صباح ذلك اليوم، وذكر شهود عيان ممن قاتلوا في صفوف الحركة الصّهيونيّة أنّه تمّ حرق جثث ضحايا المجزرة قبل إلقائها في بئر في ساحة القرية، يضاف إلى ذلك تجرّد منفّذي المجزرة من أيّ حس إنساني بقتلهم للنّساء والأطفال والرجال، وإلقائهم لقعيد  من أعلى بيته، ولشاب كان وحيد أمّه وكانت أمّه تخفيه بملابس النّساء، بعد أن أخذوا منها مالها فداءً له ثمّ قتلوه، وبلغت ذروة القتل في تقتيل عائلة زهران بأكملها وهم نائمون في فراشهم دونما أدنى شعور بالشّفقة أو تأنيب الضّمير، هذه الرّغبة في القتل والحرق ذاقها الفلسطينيون في قطاع غزّة عندما تمّ قصفهم وحرقهم أحياء بالفسفور الأبيض عل الهواء مباشرةً بعد ستّين سنةً من مجزرة دير ياسين، وهذا يعكس تأصّل العنصريّة في قلوبهم، وتصميمهم على الاستمرار في اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم ورفضهم للاعتراف بحقوقهم.

** ذكرت الحاجّة جميلة زيدان والحاج محمود حميدة أحد المدافعين عن القرية لكاتب هذه السّطور أنّ يهوديّاً من سكان مستوطنة جبعات شاؤول الملاصقة لقرية دير ياسين كانوا يسمّونه ( داود الحمدو) كان يبيع لهم وقود التّدفئة والنّار والإضاءة  ( الكاز) وكان يجوب القرية كلّها بيتاً بيتاً، وكان يعرف ديموغرافيّتها وجغرافيّتها بشكل دقيق، وكان يتحدّث العربيّة بطلاقة وباللهجة المحلّيّة، وأنّه كان يطلب الطّعام والخبز وزيت الزّيتون من أهل القرية، ويرى بعض المتابعين والمؤرّخين للشّأن الفلسطيني أنّ هذا الشّخص وأمثاله في تلك الحقبة كانوا غطاءً لعمل استخباراتي منظّم عن القرية، و أنّهم كانوا دليلاً لطليعة القوّات الّتي تخفّت بملابس عربيّة المعروفة حاليّاً ب (المستعربين) وقامت بقتل عدد من أهالي القرية مثل عائلة زهران حتّى تصادموا مع أحد أبناء القرية بالخطأ وحاولوا قتله عندما كان خارجاً للوضوء لصلاة الفجر ( سليم محمد جابر) قتلوه ثمّ اكتشفوا وبدأت المعركة. هذه التّفاصيل تظهر أنّ هذه الأساليب المتّبعة اليوم من قبل قوّات الاحتلال، كانت متّبعة ومستحدثة في الماضي، وتعكس قلّة مناعة المجتمع الفلسطيني أمام الإختراق الاستخباراتي المتعدّد الأساليب، واستغلال تلك القوى الاستخبارية لطيبة الفلسطينيين واحترامهم للوافدين لبلدهم،  لذلك إن كان هناك درس من المهم تعلّمه، فهو أنّه يجب تعزيز الوعي تجاه الغرباء مع عدم نسيان الصّفات الأصيلة للشّعب الفلسطيني.

** أظهرت مجزرة دير ياسين حقيقة نراها كل يوم في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، وهي أنّ القرى الفلسطينيّة تنسجم مع الواقع الحياتي والطّبيعي في فلسطين، وتشكّل المستوطنات الإسرائيلية من حولها سوار قيد يخنقها تدريجيّاً ومن ثمّ يقضي عليها بالضّربة القاضيّة حينما تحين الفرصة، فالمتابع يرى أنّ القرى والمدن الفلسطينيّة عبارة عن جيتوهات محاطة بمستوطنات عبارة عن معسكرات على قمم الجبال، مستوطنات هدفها احتلال الأرض وطرد أهلها وليس إعمارها، فهناك فرق كبير بين من يغتصب الأرض وبين من يحتضنها، ومن يذهب إلى دير ياسين اليوم يجد ما تبقّى من بيوت القرية معتقلة حولها سياج وأمامها بوّابة بحرّاس مسلّحين، وقبر الشّيخ محمود معتقل خلف سياج، وبعض أشجار اللوز والتّين والرّمّان وأشتال الزّعتر معتقلة تبكي غياب من زرعوها، وترى عدداً من البيوت وفي بعضها أثاث قديم منذ الاحتلال مثل بيت الزّغيّر، وقد تجد بعض المستوطنين يسكنون بعض البيوت الّتي سرقوها من أهل دير ياسين مثل بيت الحاج محمّد درويش حميدة وغيره، وتجد مدرسة الذّكور وقد تمّ تحويلها لكنيس لليهود، وجعلوا مدرسة الإناث مصحّاً نفسيّاً للمجانين من اليهود، وفوق هذا كلّه لا يسمح لك بالدّخول لترى آثار الجريمة.

** أحد قادة الحركة الصّهيونيّة قال أنّ ممثّل الصّليب الأحمر الّذي دخل القرية ورأى الجثث والانتهاكات،  أخفى الحقيقة ولم ينقل الوصف الحقيقي لحجم الجرائم الّتي اقترفتها العصابات الصّصهيونيّة، كما أثير حينها عاصفه من الشّجب والاستنكار بلا أيّ أفعال، ومن يتابع الحال الفلسطيني اليوم يجد نفس التّواطؤ لأغلب المؤسّسات الدّوليّة مع الممارسات الصّهيونيّة بحقّ الفلسطينيين، بل يدان الضّحيّة ويربتون على كتف القاتل، ولكن ما تغيّر اليوم أنّ الشّعب الفلسطيني بات أكثر جلداً وصبراً ورفضاً لحياة الذّل.

** لم تكن مهاجمة العصابات الصّهيونيّة لقرية دير ياسين فعلاً حربيّاً بطوليّا ضد جيش منظّم ومسلّح، ولم تكن فعلاً مبرّراً أخلاقيّاً، أو للدّفاع عن النّفس، ولكنّها كانت عدواناً صاحب أجندة واضحة بدأت منذ بداية الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، واستمر بوتيرة متسارعة برعاية بريطانيّة، وكانت شرارة انطلاق هذا المشروع بارتكاب المجزرة في دير ياسين برعاية وبود بريطاني في فلسطين، وأثنى موشيه ديان على من اقترفوا تلك الجريمة، مؤكّداً أنّها كانت في سياق خدمة المشروع الهادف لبناء دولة يهودية على أنقاض وآلام ومعاناة ودماء الشّعب الفلسطيني، وقال أنّه:- " لولا مجزرة دير ياسين لما قامت دولة إسرائيل".

**  لا يمكن أن نعرض ما جرى في دير ياسين دون ذكر بطولات وتضحيات وجلد رجال ونساء دير ياسين من كل العائلات في القرية، مشهد مقاوم بطولي فقدت فيه القرية سدس عدد سكّانها في معركة ليس فيها أي تكافؤ، عدا تفوّق أهالي القرية بقوّة الحق وحبّ الأرض واستعدادهم للتّضحية من أجلها حتّى آخر رمق وآخر طلقة، فقد قاتل شباب القرية ورجالها من بيت إلى بيت، ومن زقاق إلى زقاق، ومن شارع إلى شارع، ولا يمكن إغفال مشهد خنساء وشهيدة دير ياسين حلوة زيدان الّتي استشهد زوجها وولدها أمامها وكانت تزغرد لشهادتهما وهما يدافعان عن القرية، ومن الواضح أنّ موقفها هذا أغاظ قاتلهما فقام بقتلها بعدهما، ولا يمكن أن نغفل بطولة الحاجّة جميلة حميدة داية القرية ودورها في مساعدة وإسعاف الجرحى، والّتي بقيت مع ولديها موسى ومحمود وبقيّة المقاتلين حتّى انتهت المعركة، كثيرة هي المواقف البطوليّة في معركة موازين القوة المادّيّة والاستراتيجيّة  الّتي كانت مختلّة  بشكل كامل لصالح العصابات الصّهيونيّة، ولكن نساء ورجال دير ياسين رفضوا أن يكونوا لقمة سائغة لقاتليهم وسارقي أرضهم، مثلما يستمر أحفادهم في ترقّب ذلك اليوم الّذي سيعودون فيه إلى قريتهم.

** جرح دير ياسين هو جرح كل فلسطين، وهو جرح القضيّة الفلسطينيّة والشّعب الفلسطيني بأسره، هذا الجرح مستمر بالنّزيف حتّى الآن، يدرك كل فلسطيني وكل صهيوني و مهتمّ بالقضيّة الفلسطينيّة أنّ المأساة بدأت من دير ياسين، وأنّ حل تلك المأساة يكمن بإعادة الحق لأصحابه، وأنّ محاولات القفز على حق أي فلسطيني بالعودة إلى أرضه وردّ اعتبار من ظلم لن يحلّ أيّ مشكلة، بالإضافة إلى أنّ الحركة الصّهيونية ودولتها ومن يدعمها في العالم مطالبون بالوقوف ومصارحة أنفسهم بأنّهم وإن كانوا ضحايا للعنصريّة في يوم من الأيّام فإنّهم فعلوا ويفعلون بشعب بريء مسالم ما قام الآخرون بفعله بهم، وإن كانوا يدعون العالم للتّعاطف معهم ومناصرتهم في ما يعتبرونه قضيّة (معاداة السّاميّة) فهم مطالبون بتطهير أنفسهم من الأمراض والجرائم الّتي اقترفوها، وعليهم الاعتذار ورد الحقوق لأصحابها، هذا هو طريق السّلام إن كان هناك من يبحث حقّاً عنه.