ما قلته لصديقي الياباني

ما قلته لصديقي الياباني

(لقد قادونا نصف قرن في التيه)

زهير سالم*

[email protected]

بدأني الصحفي الياباني ، الذي ألقاه القدر عليّ هنا في لندن ، بالقول أنا قادم من قلب المجتمع الياباني . الناس في بلادي يريدون أن يعرفوا حقيقة ما يجري في بلادكم . هم مبهورون بشجاعة شعبكم وبثباته مع عظم التضحيات ، كيف يستهين هذا الشباب بالموت ، ولكن الأهم لماذا كل هذا ؟!

تشعر في مثل هذا الموطن أنك مضطر أن تشرح أكثر وأن توجز أكثر ، فهذا الصحفي الياباني ليس بريطانيا ولا هو فرنسي يعرف عن بلدك وتعرف عن بلده ما يعفيك من قول الكثير. ماذا يعرف أحدنا عن المجتمع الياباني وماذا يمكن لياباني أصر على التعريف بنفسه ( من قلب المجتمع الياباني ) أن يعرف عن سورية الحضارة والإنسان والسياسة ..

استحضرت بعض أدواتي المعرفية لأستعين على التواصل . فلتتواصل إيجابيا مع إنسان يريد أن يعرف عنك لا بد أن تشعره أنك تعرف عنه . وانك أيضا كنت يوما مهتما به وبقضايا بلده . تذكرت على الفور الرواية اليابانية الوحيدة التي أتيحت لي قراءتها منذ سنوات . قلت يومها وأنا أرصها في قائمة مشترياتي ، لاشيء يدخلك في تفاصيل الحياة اليومية لمجتمع مثل عمل روائي اجتماعي . كانت رواية ( ضجيج الجبل ) واحدة من المصادر التي تؤكد بحق وحدة النفس الإنسانية في تطلعاتها وهواجسها وترقبها . وعزز من قرار شرائها يومئذ أن مؤلفها أحد الحائزين على جائزة نوبل لمنحاه الإنساني . وكان مجرد ذكر اسم ( ياسوناري كاواباتا ) مؤلف الرواية كافيا لكي يسترخي الرجل وهو يستمع إلي . كما استرخيت أنا بعد أن قرأت على الرواية اسم مترجمها صديقنا المثقف والمعارض السوري ( صبحي حديدي ) . الذي كان يرصف المشاعر اليابانية بأسلوبه الشيق ، فتظن أنك ، لولا فنجان الشاي في ظل شجرة الكرز، في بعض قرانا في الشام الحبيب . الحلم والنبوءة والخوف من القادم ومن الثعبان الضخم ( سيد المكان ) يقولها الياباني كما يستعيذ منه العربي . وربط ذلك ببعض مظاهر الطبيعة ، كما تؤكد ثرثرة العجوزين في الأسرة اليابانية كل ذلك هو بعض المشترك الإنساني الذي لم تستطع مادية العصر إغراقه . مع فوارق واضحة في سلوك الأجيال ، وإصرار غير محدود على النجاح ..

كان ما بقي في ذهني من تفاصيل الحياة الاجتماعية اليابانية جسرا مهما للانتقال إلى الحديث عن الثورة السورية بأبعادها . بدأ الحديث وانتهى عن هذا المشترك الإنساني . عن الشعوب تحلم وتأمل وتخاف وترجو تنجح وتفشل ولا يعيبها أنها تحاول من جديد المهم ألا تيأس.

 قلت لصديقي : هل أنت متابع للتقارير التنموية الأممية بشأن الشعوب العربية ؟ هز رأسه إيجابا . قلت له هذه التقارير هي سر الربيع العربي .أرادت الشعوب العربية أن تقول للعالم هذه التقارير ليست تعبيرا صادقا عن حقيقتنا نحن بل هي من إنجاز هؤلاء المستبدين المفروضين علينا . هي من إنجاز ابن علي ومبارك والقذافي وبشار الأسد وأبيه من قبله . هذه هي حقيقتهم وحصيلتهم.

ثم قلت : وهل لديك خلفية ما عن وضع وطننا سورية في إحصاءات المنظمات الإنسانية والتنموية العالمية ، قال إحاطتي بذلك تامة . قلت وهل تمتلك الأرقام المساعدة عن قدرات هذا الوطن الذاتية وعن الوضع الذي كان بالإمكان إنجازه لو وجدت هذه القدرات حسن إدارة وأمانة في الأداء قال أعرف أشياء وأحتاج إلى أخرى .

قلت له كانوا في الصف الخامس الابتدائي يعلموننا في دروس الحساب أمثلة عن الحوض والصنبور – هكذا كانوا يسمونه – والمصرف . ودائما كان السؤال : في كم من الزمن يمتلئ الحوض ؟ وكان المعلمون يسألوننا شفهيا : متى لا يمتلئ الحوض أبدا ؟! فنجيبهم تلقائيا وجماعيا ... فيهزون رؤوسهم ويبتسمون ، ولم نكن ندري سر ابتسامتهم ، سألته هل تعلمتم مثل هذا الحساب في المدرسة اليابانية ؟! فهز رأسه وابتسم وكانت البسمة هي الجواب.

ثم قلت لصديقي لتعلم أيها الصديق العزيز أن شعبنا لا يقل عظمة عن شعبكم . وقد انطلقنا معا في مضمار . وما زلت أذكر من حديث المجالس في المرحلة التي تبرعم فيها وعيي في الخمسينات ، رجالا كبارا يتحدثون عن سورية التي يجب أن تكون في حلمهم ( يابان الشرق ) .

أنتم خرجتم من الحرب العالمية الثانية وجرح (هيروشيما ) و ( وناغازاكي ) ما زال طريا ؛ ولكنكم صممتم أن تنجحوا ووجدتم من قيادتكم السياسية اليد الأمينة التي تساندكم وتحفظ عليكم طريق النجاح . ونحن خرجنا من عهد الاستعمار ننفض عن جناحينا غبار التعب . ونترسم الطريق الذي سلكتموه بنفس الإصرار . كان الكبار في مجتمعنا يتتبعون قصص الإصرار على النجاح يقودها امبراطوركم الذي أخذ على عاتقه القبول بوقف إطلاق النار ليس ليستسلم وإنما ليفتح لشعبه الطريق إلى المجد بالجد والعمل والمثابرة والإيثار ..

ومنذ الخطوات الأولى على طريق البدايات الناجحة لشعب تؤهله خلفيته الحضارية ليبدع ويتقدم مثلكم تماما ، ويؤهله موقعه القومي ليكون الرائد الذي يحتذى ؛ اختُطف شعبنا ومشروعه وحلمه على يد حفنة من الضباط المغامرين لينتهى بنا الأمر في شباك ( الأسدين ) من الأب إلى الابن ، هؤلاء الذين قادونا إلى كل ما تحفظه عنا من أرقام مخزية تطفح بها المتابعات واستطلاعات الرأي والإحصاءات الإنسانية والتنموية حتى غدونا مضرب المثل في السوء في كل شيء ..

إذا قلت لك لقد ثار شعبنا لأنه كان يريد أن يكون مثل شعبكم العظيم في تحديه وفي إنجازه ربما تدخلك الدهشة ؛ ولكنها الحقيقة التي ظلت حاضرة في ضمير هذا الشعب لعقود. هذه الثورة السورية الرابعة أو الخامسة حسب اعتبارك للرقم ، الشعب يثور لأنه يريد الخلاص من التيه الذي دوخه آل الأسد فيه في حرب الرايات والشعارات . ليعود إلى نقطة البداية بعد نصف قرن من الضياع . وأرجو أن تنقل تحيات الشعب السوري إلى الشعب الياباني الصديق وقل لهم إننا وإياهم والمجد على موعد .

               

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية