دعوها فإنها منتنة

دعوها فإنها منتنة

حذيفة العاصي

[email protected]

عندما بعث اللهُ محمداً – صلى الله علبه وسلم–  في قومه كانت أول دعوة دعاهم إليها بعد الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام وعبادة الله وحده لا شريك له؛ الدعوة إلى المساواةُ بين الناس جميعاً، يستوي في هذا العبد والسيد، الكبير والصغير، أهل البدو والحضر، العربي والعجمي، ويتفاضلون فيما بينهم بالتقوى، يقول الله – عز وجل– في كتابه الكريم: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" الحجرات13، ويقول عز وجل: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " الحجرات10، وأول من بدأ بهذه الدعوة وتطبيقها عليه أفضل الصلاة والسلام، فاجتمع السيد والعبد والمدني والبدوي والعربي والعجمي، في بوتقة واحدة يعملون سوية من أجل هدف واحد، وهو عبادة الله وإعلاء كلمته في الأرض.

إلى أن منّ الله على رسوله – عليه أفضل الصلاة والسلام– بتشكيل دولة مسلمة أسست قواعدها على العدل، وإقامة شرع الله تعالى في الأرض ، فكان أول عمل قام به رسول الله– عليه أفضل الصلاة والسلام– بعد هجرته إلى المدينة، أن عمل على الموأخاة بين المهاجرين والأنصار، وجعل منهم أخوة يربطهم نسب الدين، وبه صاروا يتمايزون، بعد أن كانوا في ضلالة أنقذهم الله منها، وأصبحوا إخواناً يجمعهم نسب الإسلام العظيم، يقول عز وجل:" وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" آل عمران 103.

ولكن هذا المجتمع العادل المتآخي والمتحاب في الله لا يروق لأهل الضلال، لأنه يسوؤهم رؤية الحق وأهله، وقد سادوا الأرض وعمروها بالعدل، وانتصفوا للمظلوم، واخذوا بيد الظالم حتى يعود عن غيه؛ فعملوا جهدهم في كل زمان ومكان، على إلقاء الفتنة بين أفراد هذا المجتمع المتماسك الذي سادت بينه أخوة الإسلام، مقصدهم في هذا؛ العودة به إلى أخوة الجاهلية والعصبية، وتمزيقه بعد توحد، وجعل الناس طوائفاً وشيعاً، كما جاء في الرواية التي رواها البخاري ومسلم وبقية كتب السنن والسير فيما نقله سفيان بن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه– بقوله:" كنا في غزاة، قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق؛ فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال المهاجريّ: ياللمهاجرين، وقال الأنصاري: ياللأنصار، فسمع ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم– فقال: ما بال دعوى الجاهلية، قالوا: رجلٌ من المهاجرين كسع رجلا ًمن الأنصار، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم– دعوها فإنها منتنة، فسمع ذلك عبد الله بن أبي سلول فقال: أوقد فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: يا رسول الله دعني اضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم– دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، وقال غير عمرو فقال له ابنه عبد الله: والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله – صلى الله عليه وسلم– العزيز ففعل" قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 

وترى هؤلاء إذا وُسدوا الأمر سلكوا مسلك الفراعنة في سياسة رعيتهم، فلم يحكموهم بالعدل والمساواة والتمايز على أساس التقوى، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وإنما قربوا منهم أهل الأهواء والتملق والتزلف، وجعلوا الرعية شيعاً يستضعفون طائفة منهم، ليسود الظلم وتحل المحسوبية بدل أخوة الدين، ويُعطى  الأمر لغير مستحقيه، وتشيع الإمراض في مجتمعاتنا، وتتسع رقعة البغضاء والضغينة بين أفراد المجتمع المسلم، وتذهب ريحه ليصبح غثاءً كغثاء السيل؛ وهو ما حرك الشعوب ضد فراعنتهم، للعودة بالمجتمع إلى ما كان عليه حال الرعيل الأول من نقاء وصفاء وتحكيم لشرع الله.

وحال المسلم في كل زمان ومكان الترفع عن العصبية للنسب أو القرابة، إلى نسب الأخوة في الدين، وما التزم المجتمع المسلم بهذه الحقيقة إلا رفعهم الله، ومكن لهم في الأرض وجعلهم سادة العالم، كما جاء في الأثر أن هولاكو أرسل عيناً إلى بغداد ليعرف أحوال الناس هناك قبل دخولها، فدخل "العين" إلى السوق يحاول أن يشتري ثوباً وكل بائع يدفعه للبائع الذي يليه، قائلاً له: اذهب إلى أخي فإنه لم يبع بعد!! فعاد إلى المحل الأول ولم يستطع أن يحصل على مبتغاه، ومرت سنوات ثم عاد هولاكو وأرسل "العين" نفسها إلى مدينة بغداد ودخل إلى المحل الأول نفسه يريد شراء ثوب، فتفاجأ بأن صاحب المحل يقسم له بأنه لو دار محلات المدينة كلها فلن يجد أفضل من هذا الثوب، وهكذا كان حال بقية المحلات الأخرى، وعندما عاد إلى هولاكو، قال له: الآن حان دخول المدينة، ودخلها وسقطت عاصمة الخلافة بيد مجرم ارتكب بها أبشع الجرائم وأشنعها. 

واليوم وفي ظل الثورة التي تجري في سوريا فقد ضرب الشعب السوري للعالم مدى وحدة الشعب المسلم، الذي تقاسم السراء والضراء، وكان كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي له بقية الجسد بالسهر والحمى، وإذا سقط منه شهيد قام بدلاً منه ألف شهيد، فأذهل العالم بصموده وضرب أروع الأمثلة في تفانيه وتضحيته، وأعجز نظاماً مجرماً، وأُسقط في يده، وما نحتاجه اليوم لكي نصقل أنفسنا ونزيد الوحدة لمجتمعنا ويكون هدفنا فعالاً في تصفية النفوس ورص الصفوف؛ أن نعمل على محاربة المحسوبية ونبذ العنصريات والتسامي عن العصبيات البغيضة، والترفع عن الدعوة إلى الحسب والنسب، لنكون إخواناً تحت سقف هذا الدين العظيم، يتنافس بعضنا على البعض الآخر بالتقوى والإيمان، ولندع ما سوى هذا فإنه دعوة منتنة، قال عز وجل: " وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" الأنفال46، وفي ذلك فلينافس المتنافسون، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.