مراجعات للثورة السورية في سنويتها (2)

مراجعات للثورة السورية في سنويتها (2)

عن المواطن السوري "سين" صانع الثورة ..

وعن خصيصتها الرئيسة

الثورة السورية صناعة شعبية مائة في المائة

محمد خليفة

[email protected]

هي نوع من الخلق والابداع الجماعي الذي لا يمكن لأحد أن ينسبه لنفسه , أو لأي جهة أو حزب , أو لأي تيار اجتماعي أو سياسي , وكذلك لأي دولة أو جهة دولية , وهذا هو في رأيي أهم عنصر من عناصر قوتها وتميزها . ولأنها كذلك فقد حاول بشار الاسد إلباسها ملابس السلفية الإخوانية تارة , أو الوهابية

السعودية _ الخليحية , تارة ثانية , أو اعتبارها رأس جسر لحملة دولية كونية على قلعته الممانعة تارة ثالثة , أو ما إلى ذلك من ترهات لا تمت للعقل , خصوصا عندما يقال إن أمريكا والغرب يتحالفان مع تنظيم القاعدة ضد نظام الاسد . بيد أنه لنفس الأسبباب سقطت محاولة النظام , ولم يصدقه أحد سوى شبيحته الاعلاميين أمثال شريف شحادة واحمد الحاج علي وطالب ابراهيم وجورج عبد المسيح , وتوائمهم اللبنانيين أمثال فيصل عبد الساتر ووئام وهاب وميخائيل عيد . ولكن أكثر ما يؤسف له تكرار محاولات سرقة الثورة من بعض أطراف المعارضة السورية التقليدية , ويندرج في هذه المحاولات ربطها بأحداث السبعينات ومطلع الثمانينات , أو انتفاضة الكورد في 2004 مع تقديرنا لهذه أو لتلك . إلا أنه في النهاية يعلم الجميع ويقرون أن الثورة اكبر وأعظم من أن يحتويها تنظيم , او تيار , والكل يعي أنه لا سابق لها , لا في تاريخنا القريب ولا البعيد . فأحداث السبعينات ومطلع الثمانينات كانت طائفية في طبيعتها , بينما كانت الانتفاضة الكوردية الرائعة عام 2004 انتفاضة كوردية ومحلية , ولم تتوفر العوامل لتكون وطنية . أما في عام 2011 فالثورة شعبية مجتمعية مدنية سلمية تتسلح بالشجاعة والبسالة والمشروعية الوطنية والاخلاقية , لا تشوبها شائبة طائفية أو عنصرية أو عرقية أو حزبية .

إن البطل الحقيقي للثورة والقائد الفعلي لها هو المواطن السوري (سين ) الذي نعرفه كلنا ولا نعرفه أيضا , الذي نراه ولا نراه كل يوم , في كل مكان , من قرانا الفقيرة المهمشة , أو حاراتنا التي أفرزتها (تنمية) البعث الهجينة إبان عقود حكمه ووعدنا خلالها بالاشتراكية والتنمية , هذه الحارات التي تشبه القرى من جميع النواحي , وتتغذى منها ومحشوة مثلها بملايين (السينات) اللاهثين خلف لقمة الخبز العصية ليل نهار , دون ان يكون لهم أي أمل في تغيير واقعهم .

لا بد لنا أولا ان نقرر هذه الحقيقة ونفرها .

اما الشباب فهم الطليعة الاجتماعية الطبيعية للثورة , ولم يكن ممكنا أو متصورا أن تكون فئة اخرى هي التي تقود الثورة وتحركها , فهذه الفئة هي الوحيدة المهيئة والمؤهلة للعب دور الدينامو المحرك بحكم تكوينها العلمي والثقافي القادر على تلقي واستيعاب رياح التغيير ورسائل الحداثة والمعاصرة التي أطلقتها ثورات شرق أوروبا منذ سقوط الدولة اللينينية الشيوعية في موسكو ونطاقها الجيوبوليتيكي , وما أعقبها من هزات ارتدادية في شرق أسيا أيضا , من اندونيسيا إلى إيران . فيما مضى كانت الرياح تهب من هنا وهناك , وتصل الينا وتلفح وجوهنا بيد أننا كمجتمع لم نكن مؤهلين لاستقبالها ولم نكن نملك اجهزة رادار عصرية لاستقبال وفك الشيفرات التي تصلنا , كنا كمن يملك اليوم جهاز هاتف موبايل , ولكن بلا اشتراك في الشبكة الدولية التي تستقبل المكالمات وتسمح بمرورها !

اما التغير الحاسم في هذه الوضعية , فهو ظهور جيل جديد مؤهل عقليا ونفسيا للتفاعل مع العالم وفق اللوغارتما العصرية , لا وفق اديولوجات العصر السوفياتي - الامريكي والحرب الباردة التي اعمت بصائرنا عن الديمقراطية , وجعلتنا نراها ثقافة امبريالية . هذا الجيل الذي ولد وتكون في مرحلة ما بعد لانتهاء الحرب الباردة , بلغ الان سن الشباب والقوة , واكتمل وعيه , وأتم استعداداته لممارسة وعيه والدفاع عن حقوقه وحصته في الحياة , والعيش بشروط وطريقة مختلفة عن عيشنا نحن الجيل الأسبق الذي تكيف وتاقلم مع الهوان والذل والقمع والرضوخ للطاغوت الذي ازداد عطرسة لأنه لم يجد من يردعه , فنشر أوثانه في كل زاوية تعبيرا عن الانتصار , بينما نحن صرنا نعتقد أن الاستسلام للعبودية هو أمر لا بديل عنه , ولا تزيد الأمال عن السعي للتكيف في ظل شروطه وقوانينه .

الجيل الذي اعنيه هو فئة الشباب التي تحسن استعمال الادوات المعرفية الحديثة , وخاصة الكمبيوتر وما يتبعه من معطيات , وكذلك أدوات الاتصال الأخرى عبر الفضاء وأدوات التصوير والبث .. وما إلى ذلك من أدوات هي بمثابة شرايين تضخ دماء المعرفة التقنية والفكرية في انحاء الجسد المصاب بفقر الدم في هذه المجال الحيوية , من ناحية , وتمثل من ناحية ثانية الأسلحة القتالية الضاربة المعتمدة في الصراع مع النظام الذي لم يكن ديكتاتوريا وبوليسيا وفاسدا فقط , بل كان متخلفا على الصعيد العلمي والتكنولوجي تخلفا قياسيا حتى بالمقارنة مع أنظمة مجاورة كالاردن وإيران وتونس بل وفلسطين المحتلة . وكان النظام يحرص على هذا التخلف بشدة لأنه سبيله لإدامة سلطته , وكان متأخرا بعشرين سنة على الأقل عن وتيرة مكتسبات الثورات العلمية في الدول القريبة منه لا البعيدة , حتى صارت إيران وكوريا الشمالية بالنسبة له بمثابة ( أمريكا التكنولوجيا ) . ولم يكن هذا قضاء وقدرا بل اختيارا يذكر باختيار الديكتاتور الالباني الشهير أنور خوجه الذي أغلق بلاده عن العالم ليحافظ على حكمه الذي استمر 40 سنة أيضا , وكان يتباهي بأنه مستقل ومتحرر من نفوذ أي دولة كبرى , أي نظام ممانعة كنظام الاسد , وكذلك هو حال نظام كيم إيل سونغ الشيوعي التوتاليتاري في شمال كوريا الذي كان حافظ الاسد متيما ومبهورا بحسناته , وربما استلهم (التوريث) منه قبل ان يستلهمه من تاريخه الطائفي المحلي .

فئة الشباب التي حفرت نفق الثورة في خاصرة الجبل الذي أقامه نظام الاسد على صدر الشعب السوري , فعلت ذلك بأقل قدر متوفر لها من وسائل الاتصال بمعطيات العولمة , وتلقت منها شيفرة الانتقال الى العصر والخروج من غياهب العصور الوسطى التي نقلها اليها النظام كاختيار مدبر , عن سابق قصد ووعي , لأن هذا الانتقال كما أدرك الشباب هي مسألة حياة أو موت لهم ولمجتمعهم , وليست مجرد ترف أو انتحاء نحو الغرب على غرار (ظاهرة عباد الشمس ) أو طريقة (المودة ) , ومن هنا نستطيع فهم لماذا كان الشباب السوري المقيم في الخارج , وخاصة أوروبا وأمريكا في صدارة الحراك الثوري وقيادة المعارضة , الأمر الذي لم ير فيه النظام الأعمى سوى دليل على ارتباط الثوار بالخارج .. بمعنى العمالة والخيانة !!! . طوال سنوات كان النظام الامني يحاول إقامة جدار برلين يفصل السوريين في الخارج عن السوريين المستعبدين في الداخل لكي لا تتهرب وتتسرب صورة الأوضاع الداخلية للخارج , ولا صورة الحياة في الخارج للداخل , وكان يرفض وساطات كثيرة لمعالجة المشاكل الناجمة عن هروب مئات الالوف من السوريين المطلوبين للامن بحجة وتهمة الانتماء للاخوان المسلمين , أو لتنظيمات معارضة , أو لاتهامهم بجرائم باطلة تهدد الامن القومي وتوهن صمود القلعة ! لأنه في الواقع يعلم أن هؤلاء المشبوهين والمتهمين يحملون فيروسات الحداثة والعولمة التقنية والفكرية والسياسية , ويمكن أن ينشروها على نظاق واسع داخل القلعة الصامدة على صدور الشعب الذي يتغنون باسمه . وقد ظل النظام يمنع انتشار الفاكس حتى العام 1995 ويعتبر هذا الجهاز المسكين خطرا على الامن القومي كما قال وزير الداخلية لرئيس تحرير جريدة الحياة الذي ذهب لدمشق كي يتوسل السماح لمراسل الجريدة بحيازة فاكس عام 1991 . وللعلم كان هذا المراسل المتدرب أنئذ والذي اختير بناء على ترشيح مسبق من السلطات الامنية , والحرف الاول من اسمه عبد الله الدردري , هو نفسه الذي اصبح في عهد بشار وفي بدايات القرن الحادي والعشرين وزيرا للاقتصاد ونائبا لرئيس الوزراء , وعهد اليه تحديث الاقتصاد السوري ومؤسساته !!!!

حتى بداية الثورة كان الفايسبوك ومحركات البحث العالمية المعروفة والنت مازالت ممنوعة أو محددة الاستعمال , وكانت الهواتف المحمولة مراقبة من المنبع أي من الشركة نفسها التي تحتكر شبكة الاتصالات الخليوية [ وهذا هو معنى حرص سيطرة العائلة المالكة والحاكمة لهذا الاستثمار , وليس الكسب المالي فقط !!] , وكانت تستورد أجهزة التجسس على المكالمات من أرقى مصادر التكنولوجيا الغربية في العالم , شركة إريكسون السويدية . فمن أجل حماية النظام تصبح التقنيات المحرمة حلالا . وقد أرعبني شخصيا عندما زرت سوريا عام 2008 والتقيت بنخبة من اصدقائي اعضاء اتحاد الكتاب في حلب أنهم جميعا لا يتعاملون مع الكمبيوتر الشخصي ولا يتواصلون مع النت , ولا صلة لهم بما تشهده الشبكة العنكبوتية من تطورات عولمية جارفة , وأيقنت أن النظام يجهد بكل قوته لمنع تسرب خيوط الشمس إلى زنازينه الكبيرة المحكمة الإغلاق التي وضع البلاد والعباد في داخلها بنفس المواصفات التي شخصها العلماء والادباء الاوروبيون أمثال أورويل وفوكو لمستقبل الدولة الأوروبية , ولكنها تجسدت في دول كسوريا وكوريا وإيران , وليس في أوروبا .

منذ بداية الثورة , وأجهزة الأمن تطارد عدوا يتكون في نظرها وحسب فهمها الضحل من نوع من الجن يحرك الناشطين السوريين والمتظاهرين المحتجين ويضع جدول العمل , ويؤلف النوتة التي تصدح بها حناجرهم , ويصيغ برنامج المستقبل , وهؤلاء كما تبين مهيئون لاستعمال الفيس بوك والنت والهاتف الجوال والكاميرات الفضائية والليلية وارسال الصور والمعلومات وبثها سرا وجهرا , والاتصال بمحطات البث الفضائي الاخبارية بسهولة وكفاءة لم يوفرها لهم هو عبر المدارس والجامعات سوى بالنزر اليسير الذي لا يمكن من دونه توفير الموظفين اللازمين لجهازه البيروقراطي . صارت حيازة واستعمال هذه الوسائل بحد ذاتها تهمة تضاهي حيازة الاسلحة , واثبت الاجهزة الامنية التي زرعت الرعب من سطوتها في قلوب الشعب انها عاجزة عن الوصول للجن لا في الداخل ولا في الخارج , فاستعانت بالإيرانيين المتفوقين في هذا المجال , كما استعانت بلبنانيين من حزب الله وأحزاب أخرى في هذا القطاع تحديدا وليس في قتال الشوارع كما يشاع خطأ . العدو الذي يواجهه النظام هنا هو مكتسبات التطور والعلم والعولمة والحداثة وتجليات مفهومي الحرية والديمقراطية المتجددين باستمرار , ولذلك أخفق وسيخفق في قمع الثورة , فهي فضلا عن مشروعيتها , تتفوق عليه عصريا وحضاريا , وهي تقود خلفها سوريا كلها لإعادتها للحياة من سجن تدمر الذي دمرها , وسجن صيدنايا الذي عزل فيه نخبا ممتازة من الرجال الأكفاء عشرات من السنين العجاف , ودمرهم تدميرا منهجيا ودمر معهم الوطن والمجتمع . ولنفس السبب وجدنا مسؤولي النظام يشترطون على الجامعة العربية أثناء النفاوض على المبادرة وقف دور الفضائيات العربية , ووجدنا اعلامه الجاهلي يتهم من يرسلون الصور والتقارير والمعلومات بأنهم عملاء خلقتهم الجزيرة والعربية والبي بي سي والحرة ... إلخ وسمعنا بشار الاسد الذي يسكت شهرا ثم ينطق كفرا ويظهر تخلفه العقلي وقتاله على طريقة دون كيشوت ضد الرياح وضد الشمس وضد الزمن أنه ليس مهما أن يكون الاعلام الخارجي متفوقا على اعلامه , المهم في نظره أنه متفوق عليه على الارض , أي بالتشبيح والألة الحربية والإجرام !

هذه التفاصيل , وهذا الجانب من الواقع قبل وبعد انطلاق الثورة , شديدة الأهمية , لكي نحدد من هي الفئة التي صنعت الثورة وتصنعها , والمؤهلة لقيادة التغيير الشامل والجذري في سوريا , ذلك لأن غالبية القوى السياسية التي تحاول امتطاء صهوة الثورة وتوجيهها الوجهة التي تريد , لا تختلف كثيرا عن النظام من حيث الخصائص الثقافية والتربوية والعلمية , ولا يمكن ترقب التغيير المنشود منها , ولم يكن لها دور في سياق الثورة سوى المثابرة على الاستيلاء عليها , أو سرقة حصادها , وهو ما أدى واقعيا لأن تكون عبئا غليها وخطرا تستنفذها ولا تضيف لها .

الثورة السورية , ثورة شباب , ثورة جموح عارم للجداثة والنهضة والاصلاح , وليست ثورة من أجل التخلص من عائلة الاسد , وانكشاريتها العسكرية والأمنية , ومافياتها المالية , وحسب . ولذلك فإن معظم القوى والتيارات السياسية القائمة حاليا لا تصلح لمهام الثورة والمستقبل , وعليها أن لا تعرقل عملية الانتقال الثوري نحو واقع جديد , سيتبلور وفق قوانين الخلق الحيوية , لا بمشيئتها واهوائها هي وستكون هناك بيئة اجتماعية وثقافية وفكرية مختلفة , لا أثر فيها ولا دور لمعظم القوى التي نعرفها حاليا , وربما كان أفضل ما تقدمه هذه الاطراف التقليدية هو تسهيل فتح الأبواب وإزالة السدود من طريق التسونامي السوري الذي سيجتاح كل شيء في طريقه ولن يقتصر على اسقاط النظام وتغيير الصفوة الحاكمة بصفوة اوليغارشية مشابهة او مضادة .

ولأهمية هذه المسألة سيكون لنا معها حديث مستفيض أخر .