جريدة القاهرة

جريدة القاهرة

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يتميز الكاتب الصحفي اليساري صلاح عيسى رئيس تحرير جريدة القاهرة بميزتين متناقضتين  ؛ هما القراءة والتحولات . فهو قارئ جيد ، وخاصة في الوثائق القديمة والصحف التي صدرت منذ زمان بعيد ، ومن خلال ذلك يقدم موضوعات طريفة وقضايا لا تعرفها الأجيال الجديدة ، وقد استطاع   أن يقدم لنا على سبيل المثال مجموعة من الأعمال الدرامية والكتب حول ريا وسكينة ، وأبطال ثورة 19 ، والمثقفين والعسكر ، والدستور وغيرها ، في أداء صحفي جيد ومبتكر ، بالإضافة إلى حس ثقافي ساخر مكّنه أن يقدم في الثمانينيات بابا أسبوعيا في جريدة الأهالي لسان حزب " توتو " ذي القيادة الشيوعية ؛ بعنوان " الأهبارية " يسخر فيه من بعض الكتاب والكتابات التي تظهر في الصحف القومية الثلاث : الجمهورية والأخبار والأهرام .

وكنت أقرا له في مقتبل حياتي ما يكتبه في مجلتي الحرية والآداب اللبنانيتين في الستينيات وكلتاهما تدور في الفكر اليساري ، وكان ما أقرؤه مختلفا عما كنا نطالعه آنئذ في صحف الحكومة ، لأنه كان يتضمن أخبارا وقصصا لا تذكرها صحف القاهرة .

الميزة الثانية وهي وصف وليست فضيلة ؛ وتخص التحولات التي بدأها صلاح من الإخوان المسلمين إلى اليسار الشيوعي وانتهى إلى اليسار الحكومي الذي يساند النظام البوليسي الفاشي في عهد المخلوع .

عند ما تولى وزير الحظيرة القافية السلطة قبل ربع قرن تقريبا أراد أن ينشئ مجلة أسبوعية تقوم بتلميعه ونشر إنجازاته وتقوي رابطته بالجالس على سدة الحكم ، فاختار الكاتب الصحفي اليساري الراحل رجاء النقاش- وهو صهر صلاح عيسى -  لهذه المهمة ، ورجاء كاتب متفوق مهنيا في الصحافة الثقافية ، وبدأ العمل في المجلة المأمولة ، وفجأة انتقلت مسئولية المجلة بعد طبع الأعداد التجريبية إلى صلاح عيسى ، مما أغضب رجاء وجعله يكتب بعض المقالات معبرا عن غضبه من اختطاف المجلة التي صارت جريدة تحمل اسم " القاهرة " ويرأس تحريرها الصهر العزيز ، وقد تمت مصالحته بعد ذلك بجائزة الدولة التقديرية !

صدرت القاهرة وكانت تحمل شعارا يسمح لكل الآراء بالكتابة والتعبير ، واتصل بي رئيس التحرير مشكورا لأشارك في القاهرة مؤكدا على التعددية والانفتاح ، وكان هناك عدد من الكتاب الإسلاميين مثل أحمد بهجت ومحمد عمارة وفهمي هويدي وصافيناز كاظم ، ومضت الأعداد الأولى معقولة حتى مضت سنة أو أكثر ، ثم تغيرت الحال ..كان الوزير فيما علمت يتابع الجريدة عددا بعدد ، ويسمح بهذا ولا يسمح بذاك وأخذت يد الرقيب – أيا كان – تشطب هنا وتحذف هناك ، وأخذ تطفيش الكتاب يتركز على  الإسلاميين الذين هجروها واحدا واحدا ولم يبق إلا محمد عمارة . 

جريدة القاهرة انتهت في نهاية الأمر إلى استقطاب الرفاق القدامى والجدد ، وآخرين ممن لا هم لهم إلا هجاء الإسلام والتشهير بالمسلمين ، وطرح القضايا الملتبسة ليفتي فيها من تربوا على الفكر الماركسي أو الماوي ، والاحتفاء بكل من يسب الإسلام ومن يشوهه من أمثال سلمان رشدي وسيد القمني وجمال البنا وآخرين مشهورين أو مجهولين ، بالإضافة إلى المشاركة مع صحف السلطة في الحملة على جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تسمى المحظورة ، بل إنها لم تتوقف في حملتها على التيار الإسلامي كله بعد الثورة ، وانتقاد مجلس الشعب الذي جاء بانتخابات حرة نزيهة شهد لها العالم كله ، وكأنها تعمل بوحي فاروق حسني وأمن الدولة وحسني مبارك !

تشكل جريدة القاهرة منذ صدورها عبئا على ميزانية الشعب المصري المسلم ، لأنها لا توزع ؛ بمعنى أن توزيعها ضئيل ، يتمثل في الاشتراكات الإجبارية ، وقليل من النسخ التي تباع مع كتاب الهدية منتصف كل شهر ، وهو أيضا كتاب لا يحمل في الغالب تعاطفا معا لإسلام إن لم يكن معاديا له مثل كتب سلامة موسى . والشعب المصري لا يقرأ الصحف أو الكتب التي تهاجم إسلامه وقيمه ، وتحتفي بالفكر الفاسد المضاد ، وأعتقد أنه آن الأوان أن تعبر القاهرة عن شعب مصر المسلم وقضاياه الحقيقية ، أو يتم توفير ميزانيتها لإصدارات  أكثر نفعا وجدوى .