الثورة , وليس هناك خيار آخر

د. ضرغام الدباغ

[email protected]

تدور منذ مدة غير قصيرة مراسلات ومكالمات بيني وبين أصدقاء عرب وغير عرب، في معظمها حول عصر الثورات العربية وآفاقها. وياللدهشة لا يزال الفهم الدقيق لها لما يقع بعد، ربما لأن الثورة ما تزال في دورها الأول، وما تزال الملامح لم تكتسب بعد عناصرها الثابتة.

ومن المؤسف أن نجد حتى اليوم، حتى بعد أن كشفت الثورات عن كم خرافي من الفساد بكافة أنواعه، السياسي، والمالي  في بلاد هي نامية وتضم قطاعات وفئات كثيرة تحت حزام الفقر في الأقطار التي ضربها إعصار الثورة، عدا حالة ليبيا، فالبلاد رغم ثرائها لكن سوء التخطيط والإدارة والفساد وضعها أيضاً في مصاف الدول النامية. كما كشفت عن قرارات وأعمال لا تدل على وطنية، ناهيك عن المواقف القومية، ولست أظن أن بوسع أحدأ، يذكر واحدة من مآثر الحكام المنقرضين، أو الذين في طريقهم إلى الانقراض.

بادئ ذي بدء لا بد أن نتوصل بالتفاعل لما لا يبدو واضحة للعيان، أنطلاقاً من حقيقة  أن الأنظمة التي أجتاحها الإعصار، هي أنظمة متخلفة ولا تنتمي لهذا العصر بصلة، إلا فيما يتعلق باستخدام الأسلحة والأجهزة القمعية، وفنون النهب والفساد، فهي متقدمة في هذا المجال. ولابد من الاعتراف بحقيقة أخرى موازية لها، هي أن الأنظمة المشار إليها إذا كانت لا تنسجم مع درجة تحضر العالم ودرجة رقي المذاهب السياسية ونظريات الدولة، فإن من غير المقبول على الإطلاق القبول بأنظمة كهذه في هذا العصر المقبل على تحولات هائلة.

يتفق علماء السياسية، أن هناك عوامل حاسمة تطل في التاريخ وهي نتاج تحولات حاسمة لا سيما في مجال: الصناعة، العوامل الديمغرافية، صناعة السلاح، والتطور الثقافي والفني العام، فهذه عوامل قادت إلى تطور الفكر السياسي / القانوني سيما في مجال الدولة / النظم السياسية، منذ الفكر السكولاستي، الذي قاد لانتفاضات في الكنيسة الكاثوليكية نجم عنها انبثاق الحركة اللوثرية( المحتجين / البروتستانت)، ثم عصر النهضة بمنجزاته المعروف، ثم عصر التنوير، والثورة الصناعية، والحرب العالمية الأولى والثانية، في تطور متبادل التأثير يمكن فهمه بوضوح في إطار الحتمية التاريخية.

أفرزت كل هذه المحطات المفصلية أفكاراً جديدة ونظم وهيئات وأساليب عمل جديدة ومعطيات أخرى كثيرة. وبناء على هذه التطورات(الاقتصادية / الألكتروتكنيك بخاصة)، فجرت أخيراً التناقضات الكامنة الكثيرة جداً والمحتدمة التي كانت تمور في بطن في المجتمعات العربية، وكانت لها بعض المؤشرات الجنينية التي لم يفهمها الحكام الذين أفرطوا في الثقة بأجهزتهم القمعية، والمدهش أنها لم تتم بأيدي الأحزاب المعروفة، بل حتى الأحزاب الإسلامية لم تكن هي مفجرة الثورة، ولهذا الأمر مفارقته بالطبع، ذلك أن الأحزاب السياسية في أقطارنا العربية ظلت متخلفة عن أساليب العمل الجماهيري، وعن شروط العمل السياسي الجمعي، تجهل إقامة التحالفات والائتلافات، وأصول وتقاليد العمل السياسي العلني، لكثرة ما عملت تحت الأرض، أو أنها كانت ترزح تحت وطأة قمع مستطير، لذلك الثورة اندلعت في البدء من أعمال عفوية في الغالب تعبر أن الشعب لم يعد يطيق حكامه، بوعزيزي من ألم وبؤس بطنه الجائع إلى حد اللعنة، بعد أن وجد أن ليس أمامه إما الموت أو الموت صرخ: " يا جماعة الملك عاري "، فأنكسر حاجز الصمت فهدرت الجماهير خلفه منتصرة على ذاتها: الشعب يريد إسقاط الرئيس. وليست مصادفة أبداً أن تتحد الثورة العربية، لتردد الجماهير في أربعة أقطار أخرى ذات الهتاف.

هنا بادر الإسلاميون إلى تبني شعارات الثورة، وأندغموا فيها، بل وتمكنوا بسرعة من اعتلاء مراكزها القيادية، لسبب بسيط أنهم  لم يكونوا مشاركين في الحقب الماضية، بل وقد تعرضوا للقمع في المسيرة السابقة التي لم تؤدي في نتائجها النهائية إلى شيئ يذكر لم يتحقق إلا اليسير اليسير، مقابل الكثير الكثير من الفساد والقمع والطغيان، وأفرزت أنظمة عائلية فاسدة حتى النخاع، ولا نتبين ماذا تريد بعد من تمسكها بالسلطة ؟

يعيب البعض على الثورات تسلل قوى غربية بل وربما صهيونية إليها فقد أصبحت بلداننا ساحة مفتوحة يدخل إليها الجميع بلا استثناء تقريباً، ولكن لابد من القول، أن الولايات المتحدة والغرب عموماً، لم يتعامل مع الثورات لاقتناعه بها، ولكن لإدراكه العميق أن الأنظمة الفاسدة السابقة لم تكن سوى بثور على وجه البلدان، والدفاع عنها مستحيل فهي ساقطة تاريخياً، والخير التعامل مع القادم الجديد سيان من يكون، ومحاولة التأثير عليه ولو بأي مقدار، وبانتظار ما ستفرزه الأحداث، فما زال السجال مفتوحاً على احتمالات عديدة.

الولايات المتحدة والغرب لا يسيئهم شيئ قدر خشيتهم قيام أنظمة ديمقراطية عربية، فهذه أنظمة ستكون خاضعة لمجالس الشعب، لذلك لا يمكن التأثير عليها بسهولة، لأنها لم تؤسس بالقوة، أو باتفاقيات من تحت الطاولة، ولن تكون هناك دبلوماسية سرية. الولايات المتحدة والولايات المتحدة والغرب بعد هزيمتهم المدوية في العراق، ثم عجزهم عن تحقيق أي نتيجة ملموسة في أفغانستان، مقبلين على هزيمة أخرى مرتقبة، لذلك فهي تجري المحادثات مع عدو الأمس (حركة طالبان)، دون عقد ودون شعور بالحياء، فالولايات المتحدة تعمل بمثل شائع عندنا: اليد التي لا تقدر على قطعها قبلها، ولكنها تعمل على تغليف هذا الأمر بديماغوجية وحرفية إعلامية ودعائية عالية.

بكل وضوح أقول: المطلوب أن تتجه القوى الوطنية والقومية والاشتراكية والإسلامية، مع وضع خارطة العصر اليوم، وأن يعلم الجميع أن تحقيق مكاسب حزبية أصبح من الأدب السياسي الذي مضى وقته، لا يمكن تحقيق أنملة واحدة، وأكرر أنملة واحدة دون تلاقي وتلاقح أفكار جميع حتى أصغر فصيل من هذه القوى، وعدا ذلك أعتبره حرث في الماء ليس إلا، لقد بلغ السيل الزبى عند الجماهير، وهي تنشد الحرية والكرامة والخبز، ولا يتوهمن أحد أنه سيحقق نجاحاً كاسحاً إلا إذا قدم برنامجاً قابلاً للنجاح.

إن أي حركة سياسية اليوم قومية / وطنية / اشتراكية / إسلامية اليوم في طول الساحة العربية وعرضها عليها أن تثبت قولاً وعملاً، فهمها للعصر ومتطلباته، وأن تثبت فيها قدرتها  فيه أن تكون حركة تساهم مع غيرها من قوى الشعب في إقامة دولاً ديمقراطية حقيقية (برلمانية/ مجلس شعب/ شورى، لا تهم المسميات)، لها دساتير وقوانين تنسجم والعصر الذي نعيش، وأن يكونوا جزءاً من مجتمع سياسي، وتقديم ضمانات أن لا عودة إلى ثقافة الطغيان والديكتاتوريات وحكومات الطوارئ، والاتعاظ من التجارب التي مرت بها أقطارنا خلال العقود الطويلة المنصرمة، وإذا كانت هناك نجاحات قد تحققت، فإن هناك إخفاقات كبيرة، في مقدمتها أن الأقطار العربية فشلت في حل أي من المعضلات الرئيسية حلاً جذرياً، مع استثناءات محدودة حصلت في حقب معينة في مصر الناصرية والعراق، ومرحلة جزائرية قصيرة.

أصدقائي الأعزاء: ما تشهده أقطارنا هي ثورات على أنظمة مهترئة، وإذا كانت هناك من جهة أساءت لأقطارنا وأمتنا على مدى عقود  فهي تلك الأنظمة التي لم تشبع مواطنيها لا خبزاً ولا كرامة، والتي ينبغي أن تذهب غير مأسوف عليها، أما القادم الآتي، فذلك ما يزال في رحم الثورات، ولكن ملامح المرحلة الحالية والقادمة  ستكون في كافة الأحوال تحمل مؤشرات:

·          نظام انتخابي صحيح بتعدد صيغه.

·          نهاية لعهود الفساد والسرقات من المال العام.

·          نهاية لعهود إرهاب أجهزة الأمن والمخابرات. والسجون والمعتقلات.

·          دساتير وقوانين محترمة تصلح لحكم مجتمعات بشرية.

·          إطلاق قدر ضروري من الحريات العامة.

·          توفير الأسس المادية للإقلاع بتنمية تخدم الإنسان وتتجه إليه بالدرجة الأولى.

هذه وربما غيرها ربما، ستكون من أهم الأهداف التي سيصل لها شعوب أقطارنا بعد مسيرة طويلة أو قصيرة، المهم ستصل له، ولكن هذا الاحتمال مستحيل في ظل الأنظمة الطغيانية التي لا تنتمي للعصور البشرية، ويستحيل إعادتها للخلف، فالشعب يستسهل الموت على ذل الطغاة، وهم يرون أنهم على قاب قوسين أو أدنى من أن يتمتعوا بحكومات محترمة.

النافذة ذات القضبان تحطمت لا محال، والنور دخل إلى زوايا المكان كله، الشعب غادر موقعه السلبي في الظل، حيث كان يهز رأسه خانعاً قانعاً بأستكانة، وهو اليوم يرى أن صراخه يهز الأنظمة، هو يشاهد أن حكام المهابين ليست لهم من الهيبة سوى ملابسهم الفاخرة ونياشينهم الخيالية، وحراس يهرولون هنا وهنا، مذعورين من شيئ ومن لا شيئ، صاغوا دساتير تضمن طغيانهم، ولأبنائهم من بعدهم، وقوانين تسهل عليهم قتل الناس وسجنها بمجرد الشبهة، قوانين لا تحاسب اللصوص والسراق إذا كانت سرقاتهم مليونية، وثقافة ذيلية ذليلة تحرق البخور لهم، وتغدق عليهم الصفات المضحكة، وإن تقدموا بشيئ فمن أجل الدعاية، بما تسمى مشاريع الأبهة .

يكتب لي بعض الأصدقاء أن حركة المرور في ميدان التحرير في القاهرة معطل، أقول ربما، وهو أمر ليس حسن على أية حال، وفي ثنايا الثورة أخطاء أخرى، ولكن من المؤكد أن حركة التاريخ تسير دون توقف، فعلينا أن نقرأ التاريخ بموضوعية وكمستحقات مادية، وليس بأحكام الهوى، فكل ما فوق الأرض من بشر ومبان سيزول يوماً غير بعيد، ولكن الأرض ستبقى، ولابد من خلق مستقبل لائق لأجيالنا القادمة.

أشارك الرأي من  يقول، أن أحداث مؤسفة حدثت في سياق الثورات، ولكن هذا ما حصل والسلام،  كل ثورة لها مسيو ديفاج، وروبسبير ومارتي، ولنتذكر أن شبان ثوريين اقتحموا  أبان ثورة أكتوبر بالحماس النقي ولكن المخطئ شقة جورجي بليخانوف مؤسس الحركة الاشتراكية العلمية في موسكو على أنه بورجوازي، وثائرين آخرين دفعوا الشاعر العظيم مايكوفسكي للأنتحار، هذه هي الثورات لها شظاها وشظاياها.

يقول الكاتب الألماني توتنهوفر: بعد تفجّر الثورة الفرنسية عام 1789، وما تلاها من ردّات دموية لا تحصى، احتاجت فرنسا ثمانين عاما لتصبح ديمقراطية حقيقية، واحتاجت ألمانيا مائة وثلاثين عاما، أما الوطن العربي فقد احتاج إلى مائتان وإثنان وعشرون عاماً لتصل إليه الثورة الفرنسية.

فليمعن النظر من يشاء، الثورة حدث صحيح ورائع، هو تتويج لعملية تناقضات طويلة دارت في رحم المجتمعات والتاريخ، قد يطول الطريق لنصبح دولاً محترمة، ولكن المسيرة قد بدأت بالتأكيد، ولا عودة عنها، وليس من خيار آخر، فلنخض معاً هذا البحر الصاخب متماسكين كتفاً لكتف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقال جزء من ندوة حوارية على إحدى الفضائيات العربية بتاريخ 2 / شباط ـ فبراير /2012