من يخبر باسم يوسف أني مغرمة به

أميمه العبادلة *

الطبيب الجراح الذي يستأصل خُبثاً، أو يزرع أملا، أو يقطب جرحا ليس ببعيد عن رجل الإعلام الذي يقود توجهات الرأي العام فيُقَوِّم السلوك، ويصوب الخبر.. بل على العكس فالأول يعالج فردا من البشر، أما الثاني فإنه يؤدي علاجاً جماعيا وتنمويا لمجموعة من الأفراد.. لمجتمع بأَسْرِه.. وأعتقد أن علاج النفس والسلوك الإنساني أكثر صعوبة وأهمية من مجرد علاج الجسد الذي قد يكون أكثر من 80% من مشاكله وأمراضه عائدٌ على أسباب نفسية بحتة..

جراح القلب المصري باسم يوسف، بقصد أو بمحض الصدفة، انتقل من الحالة الأولى للثانية ببراعة لا تثير الإعجاب فقط بل تثير الدهشة وما بعدها.. فبين ضحك ترسمه الملامح جراء الشفاء، انتقل بنا لضحكٍ من نوع آخر يسمو بأفكارنا لمقاربة الكمال وتصحيح الأخطاء..

ومع ذلك فمحور المقال ليس بروز نجم د. باسم يوسف فقط، بل المحور حول الإعلام الجديد الذي طغى في عصرنا، وبصراحة أكثر بتنا أكثر من أي شيء نحتاجه كأحد أهم متطلبات العصر..

الإعلام الجديد، أو كما يقال البديل، أو ببساطة أكثر الإعلام الرقمي ما بين استخدام الفيس بوك والتويتر واليوتيوب الذي ازدادت الحاجة إليه في ظل فضاءات اعلامية مقيدة بسطوة الحكومات العربية تارة، ومصالح رؤوس الأموال المرتبطة بتلك الحكومات تارة أخرى.. والتشدق طوال الوقت بأن الإعلام التقليدي يحقق رغبة المشاهد دون استطلاعات حقيقية للذوق العام.. وأيضا تحت سيطرة مقيتة لجذوع خاوية، قاصرة، علت أغصانها حد السماء وانقطعت العلاقة بينها وبين جذر مهترئ.. هذه الصورة تماما ما يمثل العلاقة بين أسماء اعلامية بدأت في الثمانينات ولم تنتهي حتى اليوم بذات فكرها وزيها ولغتها، وبين عقول شابة تنتمي لجيل حديث بالمطلق في كل شيء..

فليس من الغريب أننا نشكو إعلاما دكتاتوريا شكَّله حكم دكتاتوري في ذات التزامن..  وبالتالي عندما طالت تلك الحكومات ثورات الربيع الشعبي، وطالبتهم بالرحيل والتغيير تماشيا مع الروح الجديدة اللامنتمية لعصر ولى وانقضى، لم يكن مستغربا بروز إعلام جديد المعالم والقوالب، والأدوات أيضا..

رجل متعلم تعليما عاليا كالدكتور باسم يوسف، كونه حاصل على درجة الدكتوراه في جراحة القلب، وأكاديمي جامعي، وقارئ مثقف ومطلع على الأدب وثقافات الشعوب والأديان، ومعتز بكونه ينتمي لعالم عربي، ويدرك القيمة التاريخية والثقافية والحضارية لمصر في أنها ليست بلدا مستقلا بذاته بل هي أم للعالم العربي كله، وأن أقل ما يؤثر فيها سيؤثر بالضرورة في جميع أقطار الوطن العربي حولها.. خلق ذلك منه قائدا شاباً لحملة تغيير إعلامي، رغم أنه لا يمت لعالم الكلمات الموجهة، والعبارات المنمقة، والصور الإخبارية بصلة تتعدى كونه مشاهد عادي، أو ربما غير عادي أبدا.. غير أن وعيه بأهمية كل ما سبق ذكره، وإدراكه لطاقة السحر الكامنة في براعة استخدام الانترنت وتطبيقاته المختلفة، عَبَرَا به وبنا معه نحو أول الطريق لتغير إعلامي وثقافي وفكري..

بدأت مسيرته الإعلامية المثيرة للبحث والدراسة والتطبيق أيضا مع بداية الثورة المصرية المطالبة بتغيير نظام مبارك في يناير الماضي.. وأثار حنقه التناقض المتطرف والصارخ بين ما يقال عبر شاشات الفضائيات المصرية من أن لا شيء يعكر الأجواء، وبين خروج ملاين الشعب إلى ميدان التحرير.. وما تبع ذلك من انسياب أخبار كاذبة ومضللة ومندسة من نظام حاكمٍ مستبد عبر اعلام منقاد له كالعبيد والجواري لفرعون وقارون القرن الحديث..

هيئ النظام الدكتاتوري الأجواء والهواء الفضائي لإسقاط عباءة خبثه على مظلومين مضطهدين فشوه الحقائق وعكس مسار الطريق.. وفي غمرة كل هذا قاد الذكاء المتمرس الدكتور باسم يوسف لقول كلمة حق بسخرية لاذعة، عبر قناته في اليوتيوب، وتعالى صوته المنفرد ليكون أوركسترا اعلام جديد تزايد عدد أفرادها ومشاهدوها يوما بعد يوم بتسارع ملفت..

بدأ د. باسم يوسف كما يقول من بيته بكاميرا واحده وبمساعدة صديق واستعان بفضاء معلومات خصب أتاحه الانترنت للبحث والتقصي ومقارنة حقائق سابقة وحالية، واستفاد من ثورة شباب الفيس بوك في كل ما استطاعوا نقله للانترنت على هيئة صور وفيديو وأخبار متلاحقة وبدأ في بث نشرة تحليلية يومية ساخرة لأحداث الثورة ومقارنتها بكذب الإعلام ونفاقه في تغطيتها..

ما أجج فشل الإعلاميين المهترئين ظنهم أن جيل الشباب غبي، وهو ما أوردته سابقا تحت مسمى إسقاطهم لخبثهم وغباءهم على الآخرين.. لغبائهم وانقيادهم كانوا يظنون الجميع مثلهم.. لم يدركوا أن الثورة التكنولوجية المتنامية، وانفتاح الجيل الشاب على كل شيء بالمطلق، وتميزهم في استخدام الانترنت ببراعة، ووضوح عالم الألوان الطبيعية لا ولن يتماشى أبدا مع روحهم القديمة ذات اللونين الأبيض والأسود فقط، أو مزيج الرمادي ربما لا غير..

الجميل والمثير في تجربة د. باسم يوسف أنه لم يتقن فقط استخدام الأدوات البسيطة كالانترنت، وكاميرا رقمية، ومن ثم تحميل الفيديو على اليوتيوب، وانتهاء بنشره عبر الفيس بوك.. إنما المبهر هو طريقته النابغة والجاذبة في التقاط العلة الإعلامية السياسية، وعرضها بشكل ساخر لاذع يعصف بالفكر لاستنهاض الحلول..

لقد اتبع طريقة حديثة غير مطروقة من قبل في عالمنا العربي، وهي ما يعرف عالميا بالـPolitical Stair  أو السخرية السياسية.. وهي كما يقول جاءت على خاطره وأتقنها من شغفه بجون ستيورات ككاتب ومقدم عالمي ساخر وناقد للأوضاع والأخبار السياسية عبر برنامجه الشهير "The daily Show"..

لكن بلا أدنى شك، فالأمر ليس مجرد تقليد بدائي لمجرد شاب هاوٍ، وليس انقيادا أعمى لتطبيق أفكار مستوردة دون تفكير كما عودنا الأعلام العربي عبر عصور.. الأمر مختلف هنا تماما.. قد يكون د. باسم يوسف استلهم الطريقة والقالب لكنه أداها بروحه هو، وجاءت الحلقات التي انتقلت من الانترنت إلى التلفزيون الفضائي انعكاسا لثقافة عميقة وصحيحة ورغبة حقيقية في التغيير والتعديل والتنمية الفاضلة التي يحتاجها الجميع ويطالبون بها..

قد يكون من الواضح الآن لكم أن العنوان الصادم، ربما، الذي اخترته لمقالي هذا ليس غزلا بشخص د. باسم يوسف الذي أكن له جل الاحترام والتقدير، بل هو توحد تام مع فكره الراقي وسلوكه المميز لخدمة الأمة العربية نحو اعلام جديد خالٍ بقدر الإمكان من الهفوات المبيتة.. إلا أنني أود توجيه رسالة مقتضبة له شخصياً ولكل من سانده وساهم معه في خلق اعلام جديد وتقويم اعلام سابق في عملية دمج مميزة: يا دكتور نشكرك على انتفاضتك الإعلامية التي أزاحت غباراً لِـ همِّ متراكم عن عقولنا وقلوبنا، لكن انتبه لست تؤثر في مصر وحدها، انك تساهم فعليا في خلق أسلوب إعلامي جديد سيُنتَهَجُ في المنطقة العربية كلها، فكن على قدر ما اخترت من عظيم المسئولية..

                

* كاتبة صحافة – قطاع غزة - فلسطين