إلى الزبداني إني راحل

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

من بين كل الأماكن الجمييلة والرائعة في سورية , صورة لم تغادر مخيلتي منذ أن فارقتها , لثلاثة عقود قد مضت

كنا في رحلة جامعية لدمشق , وانتقلنا في نهار اليوم الثاني , بجولة في ريفها الجميل , وعندما وصلنا لساحة تتوسط مدينة الزبداني , فوجدتها تقع على منحدر جبلي , والبيوت تختلس النظر إلينا من وراء الأشجار الخضراء , عندما تتمايل مع هبات نسائم الصباح الرقيقة المعطرة , بدت لوحة ربانية فائقة الجمال, وخطوطها المتناسقة  , ولمسات من ريشة فنان عبقري اشتركت في إظهار معالمها , أبرزت الظل والنور فيها , فأعطتها حيوية ونعومة ورقة ,  لن تغيب عن الرائي وجه فتاة جميلة من بلادي جهزت لملاقاة حبيبها بعد طول انتظار.

كنت عندها أحلم بالزواج وبناء أسرة , وهتفت وقتها في داخلي , لقد وجدتها , ابتسمت فرحا, وبدا السرور على وجهي , وسرحت في خيالي , وقلت مخاطباً نفسي :

لن أجد مكاناً أروع من هذا المكان , هنا سأنعم بأيام لايمكن أن تنس طوال العمر , سأمسك بيد عروسي وأقول لها , تعالي معي ياحبيبتي لنقضي أيامنا الأولى , إنها قطعة من جنة الله على هذه الأرض الطيبة .

ولم تمض إلا أياماً بعدها وغادرت سورية , وتزوجت بعدها بسنوات , في غرفة صغيرة في أحد الفنادق الشعبية في العراق , ودرجة الحرارة فوق الخمسين , ولا يوجد تكييف ولا تبريد , فقلت في نفسي :أين انت يالزبداني؟

ومرت ثلاث عقود أو أكثر , وصار عندنا بنين وبنات , وخلال حياتنا مع بعض , كانت زوجتي تشترط علي شرطاً لاتراجع عنه , وقد وعدتها بذلك وما زلت على وعدي , في أنني سأنفذه ولن أخلفه ,إن مكنني الله وعدت لسوريا , عزيزاً شامخاً حراً كريما .

تريد زوجتي عرساً , وحتى لو اشترك في الحفلة أحفادنا , ولن تقبل دخول بيتي إلا بحفلة عرس يشترك فيها الأهل والأحباب والأبناء قادمة من بيت أهلها , لبيت الزوج , ووعدتها وفوق هذا , وسيكون شهر العسل في الزبداني .

عندي إحساس متصاعد أن وعدي لحبيبتي سوف يتم الوفاء فيه قريباً , فالحياة التي كنت أحياها مع شريكة عمري وأبنائي تغيرت , وافترقنا منذ تسع سنوات , وهي تعيش في بيتي مع أبنائي , منتظرة قدومي في يوم من الأيام , كان ذلك اليوم عبارة عن أحلام متقطعة , ولكن ثورة الحرية , والتي تُسطّر ملامحها في ملحمة بطولية قل نظيرها , ولو كان أبو العلاء المعري شاهداً , لكان استعاض عن (رسالة الغفران ) بها , وكذلك كان فعل الشاعر الايطالي دانتي في (الجحيم ) .

ربيع الزبداني ياحبيبتي جاء مبكراً هذا العام , ورجائي من الله تعالى أنك لن تنتظرين كثيراً بعد الآن , من ريف دمشق وغوطتها ونهرها سيكون فيضان الربيع , ومن عيونها وينابيعها ومائها العذب سترتوي عروق العرسان والأحباب , صحيح أن العمر قد طال بنا , ولكن الربيع القادم , سيعيد لنا شبابناً الذي اندثر تحت أوراق الخريف وبرد الشتاء , في مضايا والزبداني الآن رجال أقسموا , وشمروا عن الزنود , وبدأو بحملة الجهاد , إنهم يكنسون منها كل قذارات العقود الخمسة التي مضت , إنهم يزرعون نباتات الربيع , والله تعالى معهم , يرسم فيها عظائم قدرته في عطاء أشجارها ورقة زهورها , ورحمة رجالها وقسوتهم في سبيل الحق .

ياريف دمشق وأبطاله وأحراره وحرائره , كل الكلمات تعجز عن وصفكم , وكل الشعراء سيتغنون ببطولاتكم كما تغنى الناس فيها من قبل . فقد بدأت أجهز نفسي , والأمل والحلم عندي أصبح واضحاً , سأوفي بعهدي لحبيبتي , ولن يكون ذك اليوم هو خريف حياتي , وإنما هو الربيع الدائم يتوارثه الأبناء عن الآباء

حياكم الله وثبت أقدامكم ونصركم على هؤلاء الطغاة , والذين لم يجلبوا لبلدنا إلا الخراب والدمار وإقصاء أجمل الفصول , ربيع الغوطة وريف دمشق ومضايا والزبداني وكل بقعة في وطننا الحبيب

سأمضي في الزبداني شهر العسل , ولن أفتخر فيها فقط بعروسي , وجمال

اللوحة الربانية فيها, وإنما سأمتع عينايا بوجوه أبطالها الحر الميامين

فقد حان وقت الربيع , وللزبداني إني راحل .