من جنود العربية في أندونيسا

د. عبد الرزاق حسين

د. عبد الرزاق حسين

[email protected]

الجندي المجهول مصطلح إذا ذُكر يتوجه الفهم ، وينصرف الذهن  فورًا إلى ذلك الجندي غير المعروف الذي أبلى بلاءً حسنًا في المعركة ، وقتل دون أن يُعرف ، وكثير من الدول تبني له نُصبًا ، وتكرِّمه بوضع أكاليل الزهور على قبره من قبل كبار زوار الدولة .

ومع ارتباط هذا المصطلح بالجيوش والحروب ، فهناك حروب أقوى وأشرس ، وهي حروب الدفاع عن هذه الأمة في وجه من يريدون سلخ جلدها ، وقطع لسانها ، ومحاولة إبعادها عن دينها ، وهذا ما فعله الاستعمار الهولندي في القرون الثلاثة والنصف التي استعمر فيها أندونيسيا ، فألغى الحروف العربية التي تُكتب بها اللغة أو اللغات الأندونيسية، إلى الحروف اللاتينية ، وأضعف التعليم الديني ، ونشر الأخلاق الذميمة ، وبث الفرقة على عادتهم وسياستهم في ( فرِّق تَسُدْ ) .

ونالت إندونيسيا استقلالها في 7 ربيع أول 1369هـ ـ 27 ديسمبر 1949. وبدأت رحلة العودة إلى المنابع والجذور على استحياء ، ولكنها في الفترة الأخيرة أخذت منعطفًا جديدًا وقويًّا في إزاحة آثار الماضي الاستعماري ، ومن ذلك الاهتمام القوي بالعلوم الشرعية ، وتعليم ونشر اللغة العربية .

كان تشوُّقي لزيارة أندونيسيا هو من باب قول الشافعي رحمه الله " سافر ففي الأسفار خمس فوائد " إلى جانب القيام ببعض ما علينا من واجب نحو ديننا ولغتنا لشعب عظيم أسلم طوعًا ، وعانى من ويلات الاستعمار الشيء الكثير .

وما أن وطأت قدماي جامعة مولاي مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية "بمدينة مالانغ " في جاوا الشرقية التي تقيم المؤتمر الخاص بتعليم العربية  ، ودخلت غرفة الاستقبال حتى دخل رجل عليه سيماء التواضع ، فقال لي مسؤول العلاقات الذي استقبلني يعرِّفني بالقادم : معالي مدير الجامعة الأستاذ الدكتور " إمام سوفرايوغو " فاحتضنني وعانقني وكأنّنا نعرف بعضنا من عشرات السنين ، أنا ابن القدس من أرض فلسطين ، وهو ابن مالانغ  من أقصى الشرق في أندونيسيا ، فقلت : هي الأخوَّة التي زرعها الإسلام في القلوب { إنَّما المؤمنون إخوة } .

جلس إلى جانبي مرحبًا ، وأخذ يقشِّر لي بعض الفواكه الاستوائية ، وفتح نقاشًا عن اللغة العربية ، وعلى الرغم من معرفته المحدودة باللغة العربية ، إلَّا إنني وجدت جنديًا بل فارسًا مخلصًا من فرسان العربية في ذلك الصقع البعيد ، هذا الجندي المجهول أشعرني بالخجل من نفسي وهو يشرح لي بكلمات عربية يحرص على أن تصل إليَّ واضحة مفهومة جهده الذي وصفه بالمتواضع ، وأصفه بالجهد الرائع العظيم في نشر لغة القرآن في هذه الجامعة التي يرأسها. 

وعلى الرغم من أنَّ الجامعة تضمُّ سائر العلوم التطبيقية والبحتة إلَّا إنه وضع العلوم الشرعية والعربية أصلًا لكلِّ طالبٍ في الجامعة ، ووضع شجرة في الجامعة سمّاها " شجرة الأصول " أو المباديء الخمسة ، فلا بد لكلِّ طالب في الجامعة أيًّا كان تخصصه من تعلُّم العربية ثمّ الأندونيسية والعلوم الشرعية والإنجليزية ثمَّ جعل التخصص العلمي هو خامس هذه الأصول .

ولذلك يقوم الطلاب في السنة التحضيرية بدراسة خمس ساعات يوميًا اللغة العربية ، وجُعلت هذه الدراسة في الفترة المسائية ، حيث يسكن جميع طلاب هذه السنة داخل الجامعة ، ويشرف على هذه الدراسة مركز تعليم اللغة العربية بأندونيسيا .

ولا يقف هذا الأمر عند هذا الحد ، بل يتعدّاه إلى وجوب تقديم مشروع التخرج لكل طالب في أي تخصص كان باللغة العربية ، وقد عرض عليَّ معالي مدير الجامعة عددًا من هذه البحوث ، وأهداني بحثًا لأحد الطلاب المتخصصين في الكيمياء .

فكرة التطوير في مجال العلوم من خلال عمودي الشريعة واللغة فكرة رائدة للأستاذ الدكتور" إمام سوفرايوغو " لقد غرس هذا الجندي شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، إنها كما شاهدنا ولمسنا تؤتي أُكلها بإذن ربها ، فلك الشكر أيها الجندي المجهول، والفارس الذي يخوض معركته بأسلحة يسيرة ، ولكن بهمة عالية ، وطموح لا يُحد ، فبورك بك أيُّها الفارس، وبورك بجهودك المخلصة ، ودمت للغة القرآن ناصرًا .