تلاقي الفروع والجذور

د. عبد الرزاق حسين

د. عبد الرزاق حسين

[email protected]

أستاذ الأدب العربي بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن

إنَّ اخضرار الشجرة ودوام نضرتها يستمرُّ باتصال الجذور بالفروع ، فالأصل الثابت يُبقي الفروع شامخة تداعب بأغصانها غيوم السماء ، والشجرة الحضرمية هي شجرة طيبة مباركة ، جذورها المعرقة في القدم تذكرنا بالعلاء الحضرمي ، والمقداد بن الأسود ، والأشعث بن قيس الكندي ، كما تذكرنا بأولئك التجار الذين عبروا البحار البعيدة في أقصى الشرق ونشروا فوق ربوعه راية " لا إله إلَّا الله محمد رسول الله " .

سبق لي وأن زرت حضرموت بدعوة كريمة من الأخ الفاضل رجل الأعمال عبد الله بقشان ، وكتبت حينها مقالة تضاد بعنوان " أطول واد في العالم " فالواد كما رأيته ضيق بحافتيه اللتين لا تتسعان لطموح هذا الشعب ، وقصدت بطوله امتداد هذا الوادي بامتداد هجرات أبنائه الذين عبروا العالم شرقًاً وغربًاً وشمالًا وجنوبًا .

وخلال تلك الرحلة أطلعنا نائبه الدكتور عمر عبد الله بامحسون على بعض النشاطات الخيرية التي يقومون بها ، وأخص منها النشاطات الخيرية التعليمية ، وكان تعليقي _ الذي لم أُبْده ساعتها على الرغم من شدة إعجابي _ إنَّ الفروع الأصيلة تبقى وفية للجذور النبيلة .

ولم أكن أتصوَّر أنَّ هذه الجذور معرقة في القدم ، وممتدة في الطول ، تجوب تخوم الأرض ، وكأنَّ مقالتي السابقة لم تكن خيال كاتب أو شاعر ، أو من باب الكنايات والمجازات ، وإنّما كانت حقيقة واقعة ، حيث فوجئت بتلاقي الفروع مع الجذور على مدى أرحب ، ومجال أوسع ، ففي زيارتي للجامعة الإسلامية الحكومية بمالانغ في جاوا الشرقية وجدت الفرع الزاهي لتلك الحضارة الحضرمية ، وجذور تلك الشجرة المباركة التي امتدت على طول الأرض لتنبت شجرة الإسلام المعمرة الدائمة الخضرة ، كخضرة أشجار جاوا وسومطرا ، ذلك الفرع  لتلك الجذور الممتدة هو الدكتور عمر بن عبد الله با محسون الذي شابَهَ أجداده ، ومن شابه أجداده فما ظلم .

جاء مسرعًا للتسليم عليَّ عندما علم بحضوري إلى الفندق الذي جمعنا لحضور الندوة العالمية لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ، والتي أُقيمت من قبل جامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية بمالانغ ، وجمعية الدعوة والتعليم بأندونيسيا ، وأهداني منشورًا عن هذه الجمعية الرائدة التي يرعاها ويشرف على متابعة أعمالها المتسعة حيث لها معاهد ومراكز لتعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية في عدد من مناطق أندونيسيا الشاسعة ، إلى جانب مهمات أخرى لا تقل أهمية عن التعليم ، كنشر الكتب الدعوية ، وتأمين المواد السمعية والبصرية العلمية الدعوية ، وعقد الدورات المتخصصة للدعاة ، وتقديم المنح الدراسية للطلاب ، وبخاصة طلاب الدراسات العليا ، وكفالة الدعاة والمدرسين ، وغير ذلك من الأعمال الجليلة كالملتقيات التربوية ، ومشروع الأضاحي ، وبرامج تفطير الصائمين  التي تحتاج إلى جهود دؤوبة ومتواصلة ، وجلَدٍ على السفر الطويل والسهر والمتابعة .

هذا الحِسُّ الإسلامي عند فرع هذه الشجرة الحضرمية بإعادة زرع بذور العربية في تلك التربة الخصبة التي نمت سابقًاً على يد أجداده ، وهي كذلك الآن تربو وتهتزُّ بفضلٍ من الله عزَّ وجلَّ ، ثمَّ بفضل هذه الجهود المثمرة على يدي هذا الرجل الذي نذر نفسه لخدمة الإسلام والعربية ، وأيدي أمثاله الأفذاذ دونما جلبةٍ ورياءٍ وسمعة ، بل هو العمل المخلص ، كما نحسبه ، والله تبارك وتعالى حسيبهم .

نعم ، لقد تلاقت الفروع والجذور ، وكان لقاءً حميميًّا مُزهرًا ومثمرًا ، والعبارة التي تقول : " لا فروع بلا جذور " هي كذلك . فهل نحرص على هذا التلاقي ؟ وهل يمتدُّ حبلُ الترابط لِيُبقي على شجرتنا مزهوَّةً مُخضَرَّةً طيِّبةً ؟ { أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كلَّ حينٍ بإذن ربها } .