مسؤولية القلم

د. عبد السلام الهراس

د. عبد السلام الهراس

إن استقراءً متأنياً أو سريعاً لما تكتبه الأقلام ولما يُقال ويذاع ويبث لَيجعل الإنسان في حيرة من أمره متسائلاً:

أين نحن وماذا حل بنا، وأي دواهٍ هي التي داهمتنا وتداهمنا؟

وما هذا الذي أفقد كثيراً من أصواتنا نبراتها، وشلت حروفها، وشوهت كلماتها، وجعلت الكثير منها خواراً ونهيقاً وعواءً وفحيحاً، وقلَّت الأصوات التي سلمت فحافظت على عافيتها وتمكنت ـ بعناء شديد ـ من بعض أدواتها للتعبير الإنساني السوي، فبدت في عالم الضجيج والمكاء والتهريج نشازاً وغرابة.

بالأمس القريب كانت الأقلام قليلة، وأعداد المطابع والمنتديات هزيلة ضعيفة، والألقاب الجامعية ضئيلة، ومع ذلك فقد شاهد قرننا الماضي عمالقة الشعر والنثر والفكر والقيادة والتغيير والإصلاح، ولم يبق فينا من ذلك الرعيل سوى بقية لا تكاد تُذكر شاهدة بصدق لما مضى وعلى ما نحن فيه من تقهقر واعوجاج وسوء، ولم تستطع جامعاتنا ولا منتدياتنا ولا اتحاداتنا الأدبية: شعراً وكتابة أن تتحفنا بنزر ولو يسير من صنف تلك الفحولة، أو أثر ملموس من تلك الرجولة والبطولة!! فقد كلَّت الأفكار وعميت الأبصار، وعمهت البصائر، وانقلبت المعايير، واختلت المكاييل، وكل يوم ترذلون!!

كان أمسنا القريب رغم تباعد الأقطار، وانتصاب الحدود، وشدة القيود، وتنوع الاستعمار، غنياً بالكتابة والكتَّاب، والشعر والشعراء، لا يخلو يوم من قصائد رائعة، ومقالات رائدة، وكتب مهمة، ومحاضرات علمية رصينة، وندوات متعددة ومتنوعة، ومواجهة صريحة وشجاعة، وتواصل وتلاقح وتكاتف وتناصر وتناصح، ورغم قلة ذات اليد فإن عناوين الجرائد والمجلات والكتب والرسائل تفوق الحصر، ولم يكن الكاتب أو الباحث يتقاضى أجرة على عمله، بل كان الدافع حب الإسهام في المعركة والصراع، كُلٌّ حسب قدرته وطاقته.

وبين عشية وضحاها يكاد يسود صمت رهيب إلا من أصوات مأجورة، وأقلام مجذومة مأزورة، وأفكار نزقة معهورة، وحناجر مشؤومة مصدورة كالبوم، لا تنطق إلا في الظلام، ولا تُثير في النفس إلا الحسرة، وتوقُّع الشر، وأحسن تلك الأقلام مغلولة أسنانها في الحق، وأجمل هذه الأصوات مترهلةٌ أصواتها في الصواب.

وقد حاصرت تلك الأقلام والأصوات بصنْفَيها عبر صحافتها المتنوعة، ونشراتها المتعددة العقول والأفكار والعواطف والأذواق، وهجمت عليها وحاصرتها ولاحقتها حتى في عقر دارها، وقلَّ مَنْ يستطيع أن يتخلص من أسرها وإصرها وهذرها ولغوها، وهي وإن كانت تتكلم لغتنا، وتنقل إلينا مضموناً لقيطاً ودخيلاً علينا، فهي عربية القناع، عجمية ما وراءه، وبعبارة أخرى هي ذات وجهين: ظاهر وباطن، فالظاهر بَيِّنٌ إعرابُه، والباطن صارخٌ لحنه وتحريفه، ومفضوحٌ إلحادُه (أي ميله عن الحق نحو الباطل).

والعجب أن هذا النوع من الأقلام والأصوات لا يلقى من كثير من ذوي النفوذ والمال إلا دعماً وإكباراً، يُغدقون عليه بغير حساب سراً وجهاراً، ولذلك أصبحت تتوالد في آفاقنا توالداً متفاحشاً وكأنها تتسافد فيما بينها تسافد القوارض والأرضة، فتفرخ بأعداد مهولة:

بُغاث ُ "الشَّــرِ" أكثرها فِراخاً=وأُمُّ "الخيرِ" مِقْـلاةٌ نَـزُورُ

لذلك فهي لا تزداد إلا توسعاً وانتشاراً وطغياناً واستنساراً، وقد راجت وتروج أسواق بُورْصَاتِها، ولاسيما في أجواء الفراعنة والقوارين، ممن أبطرتْهَم النِعم وتعاموا عمَّا نال أمثالهم من النقم.

وهذا "اللفيف" المصنوع محلياً هو أشد وأنكى وأفظع من "اللفيف" الأجنبي، وهو ـ أي اللفيف المحلي ـ أشد بغضاً للحق وحقداً على الإسلام، وغيظاً على ذويه، وحماساً لهولاكو، وتشيعاً لجانكيز خان، وتحزباً لغورو، وتعصباً لألنبي، ومظاهرة للصليبية، وحبّـاً للهاجاناه، وتشجيعاً للموساد، وتصفيقاً للنتن ياهو، ومساندة لجرنق، إذ غايةُ شهواته، وأسمى نزواته أن يرى راية الإسلام ممزقة مهينة، ودعوة الحق منهزمة حزينة، وديار المسلمين مستباحة، وأعراضها منتهكة.

لذلك كانت مسؤولية "القلم" المُقْسَمِ به في القرآن الكريم جسيمة، بل أشد جسامة وثقلاً لأنها تواجه العدوان الغاشم ليس فقط في الخارج، ولكن داخل حدودها وخلال دروبها وبيوتها، وبأيد من لحمها وعظمها ودمها.

إن على أقلام الحق التي تعاني "الغربة" ألا يظلَّ بعضها منزوياً يجتر مرارة الواقع، وألم التنازع، وفوضى الاختلاف، إنَّ هذا البعض ـ ولا أُسَمِّي ـ من أكفأ الأقلام وأكثرها نفوذاً، وأشدها تأثيراً لأنها تمتاز بالإبداع في الفكرة، والإتقان في العرض، والجمال في الأسلوب، والإقناع في المنطق، ولكنها قليلة الإنتاج، وربما تطرق الملل إليها أحياناً.

أما أقلام الحق التي في الساحة فعليها دائماً المراجعة والمحاسبة حتى لا تحجب عجاجاتُ المعارك عن أبصارها حقائق الواقع ومقتضيات العصر والمصر، وحتى لا تظل منساقة مع الحماسة التي كثيراً ما تفضي إلى الهزيمة.

إن عليها الاهتمام بتوفير أسباب النصر، وشروط الفوز، وتهيئ الأجواء والبيئات والمناخ لاستنبات شتائل الحق والعناية ببراعم الخير، والتركيز على ما يجب عليه التركيز حسب مقتضيات المرحلة والظروف، ومن أجلّ المجالات التي يجب إيلاؤها أكبر اهتمام: "الطفولة"، و"العنصر النسائي" المحضن الأول للتنشئة والتربية والاستمرارية، إذ من هنا بدأ تغلغل الخراب والتقويض.

وهذه الأقلام يجب أن تنطلق من مبادئ مقررة وقواعد مسلمة، هي :

1 ـ العلم: إذ كل أمر لا يبني عمله وبرامجه ومخططاته على العلم، فإن مآله إلى البوار والإخفاق، لذلك نرى القرآن الكريم يضع مبدأً أساسياً ضابطاً بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) فالتزام هذا المبدأ يقتضي التخصص والاقتصار على ما يحسن المرء دون تجاوز ذلك إلى ما لا يعلم ويعرف، وفي المثل: "لو سكتَ مَنْ لا يعلم لقلَّ الخلاف"، والملاحظ في هذا الموضـوع أن خصوم الإسلام ينتقون من لا يدري للحديث عن الإسلام والدفاع عن بعض أفكاره، والإسهام في بعض الندوات والحوارات والمناظرات باسمه، وذلك لتشويه الإسلام والتنفير منه، وإقناع الجاهلين بعدم صلاحيته وصوابه، وقد استطاعت بعض المنظمات والجهات والفضائيات أن تظفر بنجاح في هذا الميدان، وقد كثر المورِطون للإسلام باسم الإسلام!!

كما أن بعض الأقلام مازالت جامدة لم تتطور ولم تبدل الخطاب حسب مقتضيات الأحوال الجديدة، والعلم لا يعني العلم بالفكرة والموضوع، بل بالمنهج وطبيعة المخاطب ومستواه، وبكل ما يضمن للفكرة تحقيق الغاية من الإدلاء بها.

2 ـ الحكمـة: المرتبطة بالعلم وهي هنا تتصل بالجانب العملي التطبيقي والتنفيذي، ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، ولذلك  لمن يتعاطى الدعوة إلى هذا الدين: ادع إلى" سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل: 125).

3 ـ التفاؤل المعزز بالإعداد: انطلاقاً من قول الله تعالى: ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل (الأنفال).

4 ـ الحرص على وحدة القلوب ووحدة الصف والنأي عن التنازع والاختلاف انطلاقاً من قول الله تعالى:محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم (الفتح: 29).

وغيرها من الآيات والأحاديث.

إن مسؤولية "القلم" مسؤولية عظيمة، ولذلك لا مجال فيها لما يشبه العبث واللغو، وعدم الاكتراث والتسرع، وتكديس الكلام، والرمي بدون هدف، والحركة دون قصد، إنها عبادة.. والعبادة نظام ومسؤولية!