في ملتقى دولي بتلمسان

"مالك بن نبي واستشراف المستقبل،

من شروط النهضة إلى شروط الميلاد الجديد''

د. مولود عويمر

أستاذ التعليم العالي بجامعة الجزائر 2

وزارة الشؤون الدينية والأوقاف تبادر

تعالت في السنوات الأخيرة أصوات عديدة في الجزائر تنادي بالاهتمام بفكر مالك بن نبي خاصة بعد تصريحات عديدة لأصحاب الرأي والقرار في ماليزيا وتركيا الذين أكدوا على استلهامهم أفكار هذا المفكر الجزائري لتحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي في بلدانهم حتى أصبحت كل واحدة من هاتين الدولتين نموذجا يقتدى به في مجال التطور والازدهار. وكانت حجة الجزائريين أننا أحق بمالك بن نبي من غيرنا !

لكن قليلة هي المؤسسات الثقافية والعلمية الجزائرية التي تفاعلت مع هذا الحراك، وعملت على فتح ورشة للبحث في تراث مالك بن نبي لاستخراج شروط النهضة، لكي تبني على ضوئها، وعلى غيرها من الأفكار الحية، مستقبلا واعدا. ومن هذه المؤسسات القليلة أذكر هنا: المجلس الإسلامي الأعلى الذي نظم ملتقى دوليا في عام 2003، ووزارة الأوقاف والشؤون الدينية التي نظمت أيضا مؤتمرا عالميا في هذا الأسبوع بعنوان: "مالك بن نبي واستشراف المستقبل، من شروط النهضة إلى شروط الميلاد الجديد''..

وقدمت خلال هذا الملتقى المنعقد في تلمسان أيام 12ـ14 ديسمبر 2011 ضمن تظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية 30 محاضرة موزعة على 9 محاور أحاطت بكل إشكالياته الكبرى، وهي كالتالي: مداخل إلى فكر مالك بن نبي، مالك بن نبي: حياته وأفكاره وشهادات عنه، مفاهيم ومحطات رئيسة في حياة مالك بن نبي، قضايا المجتمع في فكر مالك بن نبي، الاقتصاد عند مالك بن نبي، مشكلات الثقافة والحضارة، التجديد والتغيير عند مالك بن نبي، مجتمع المعرفة والخصوصية الحضارية، رؤية بن نبي الاستشرافية، الإسلام وقضاياه في فكر مالك بن نبي.

شهادات معاصري بن نبي وتلامذته

كان هذا الملتقى عالميا بمعنى الكلمة حيث جمع في قاعة المحاضرات الكبرى لجامعة تلمسان عددا كبيرا من العلماء والباحثين من مختلف الجامعات الجزائرية والدولية. وزاد هذا الملتقى بهاء حضور مجموعة من التلامذة المقربين من مالك بن نبي من الجزائر وليبيا ولبنان قدموا شهادات حية عن علاقاتهم الخاصة بالمفكر الجزائري الكبير.

تحدث الدكتور بوعمران الشيخ رئيس المجلس الإسلامي الأعلى عن بعض ذكرياته مع مالك بن نبي التي بدأت مع قراءة كتاب "شروط النهضة" الذي نبّه فيه بن نبي إلى أهمية الفعالية والاهتمام بتفجير قدرات الإنسان المسلم. ووجد هذا التوجيه صدى في وسط الكشافة الإسلامية الجزائرية الذي ينتمي إليه الشاب بوعمران. وقد جاءت فرصة انعقاد مؤتمر الكشافة الإسلامية في تلمسان في عام 1950 لدعوة بن نبي لعرض أفكاره السابقة على الشبان الجزائريين القادمين من أنحاء البلاد. وبقي بوعمران على صلة بكتابات مالك بن نبي وحضر عددا من ندواته الأسبوعية التي كان يقيمها في بيته كل أسبوع بعد عودته من القاهرة في عام 1963. ومن هذه الدروس بقي درس عن ابن خلدون راسخا في ذهنه إلى يومنا.

وفي نفس السياق، قال الأستاذ عبد الوهاب حمودة الذي لازم مالك بن نبي بين 1964 و1973 أنه يعتبره أباه الروحي والثقافي حيث دأب على حضور ندوته الأسبوعية التي كان ينظمها في بيته الكائن بشارع روزفلت. ووصف بشكل دقيق هذه الندوات الفكرية التي تناقش في كل مرة قضايا النهضة في الجزائر والعالم الإسلامي في درس تمتزج فيه الفلسفة بالفيزياء، والتاريخ بالهندسة وعلم الاجتماع بالرياضيات...  ثم كشف الأستاذ عبد الوهاب الذي شغل منصب الأمين العام لوزارة الشؤون الدينية لعدة سنوات عن بدايات ملتقى الفكر الإسلامي الذي لم يكن في حقيقة الأمر إلا امتدادا لندوة بن نبي الأسبوعية.

وتحدث الكاتب والمحامي اللبناني الأستاذ عمر كامل مسقاوي صديق مالك بن ني والمشرف على إصدار كتبه عن ذكرياته مع هذا الأخير في مصر ولبنان. كما كشف خلال مداخلته عن مساهمته في ترجمة بعض تلك الكتب من الفرنسية إلى العربية رفقة الدكتور عبد الصبور شاهين. وفي الجلسة الأخيرة من اليوم الثالث تناول الأستاذ مسقاوي في محاضرته موضوع: " فكرة كومنولث إسلامي في منهجية مالك بن نبي."

كما تكلم الأستاذ محمد رفعت الفنيش وهو خبير دولي في الاقتصاد عن يومياته مع مالك بن نبي في مصر وليبيا والولايات المتحدة الأمريكية. وفي السياق نفسه تطرق الدكتور سعيد مولاي أستاذ الفيزياء بجامعة العلوم والتكنولوجية بباب الزوار إلى أهم المحطات في حياة مالك بن نبي مشيرا في الوقت نفسه إلى ملازمته له لعدة سنوات.

والدكتور عمار الطالبي أستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر 2 تربطه صلة قوية بمالك بن نبي حيث لازمه في القاهرة ثم في الجزائر لعدة سنوات. لقد تحدث عن مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي. فقسمه إلى 3 أنواع: مفهوم علمي رياضي، مفهوم تاريخي، ومفهوم وظيفي. ففي الجزء الأول قدم الحضارة على شكل معادلة رياضية: الإنسان +الوقت+التراب= حضارة. أما في التعريف الثاني فقد وضع حركة التاريخ في خط بياني، يبدأ من غار حراء وينتهي مع سقوط دولة الموحدين. أما في التفسير الوظيفي، فعرف الحضارة بالتوازن بين الحقوق والواجبات.

أما الأستاذ عبد الرحمان بن عمارة الذي سهر خلال عدة أعوام على نشر تراث مالك بن نبي المكتوب باللغة الفرنسية قد فضل الحديث في هذا الملتقى عن راهنية فكر مالك بن نبي.   

محاضرات الباحثين الجزائريين

لقد كلفتني الهيئة المنظمة للملتقى وعلى رأسها معالي وزير الشؤون الدينية والأوقاف الدكتور بوعبد الله غلام الله ومساعده الدكتور بوزيد بومدين مدير الثقافة الإسلامية بالوزارة بتقديم المحاضرة الافتتاحية لحسن ظنهم في كاتب هذه السطور. ويعبر هذا السلوك الحضاري النادر في عالمنا العربي عن تقديرهما للباحثين الشباب وتشجيعهما لهم على مواصلة العمل والإبداع الفكري.

وتحدثت في مداخلتي المعنوّنة بـ: " مالك بن نبي مفكرا إنسانيا" عن الأبعاد الإنسانية لفكر مالك بن نبي متجاوزا تصنيفه الكلاسيكي ضمن طبقة المفكرين الجزائريين أو العرب المسلمين. كما كنت حريصا على مقارنته بمفكرين كبيرين، واحد من عالمنا الإسلامي وهو ابن خلدون وآخر من العالم الغربي وهو كارل ماركس. فقد اهتم هؤلاء المفكرون الثلاثة بكينونة الإنسان ومصيره من كل جوانبه: دينيا وتاريخيا واقتصاديا واجتماعيا، وهذا ما يفسر اشتغال الدراسات الخلدونية والماركسية والبنابية بجميع فروع العلوم الاجتماعية.

وألقى الدكتور محمد العربي ولد خليفة رئيس المجلس الأعلى للغة العربية محاضرة دسمة عن ملامح التحرير والتنوير في فلسفة بن نبي، بينما درس الدكتور عمر نقيب أستاذ علوم التربية بالمدرسة العليا للأساتذة (بوزريعة) منهجه في مواجهة المشكلة التربوية في العالم الإسلامي.

وفي مجال الاقتصاد قدمت محاضرتان، الأولى للدكتور بشير مصيطفى (جامعة الجزائر 3) حول ''الفكر الاقتصادي عند مالك بن نبي''، والثانية للدكتور ثابت محمد ناصر (جامعة الجزائر 3) عن ''مكانة الاقتصاد في الفكر الحضاري لمالك بن نبي''. وفي المجال اللغوي، قدم الدكتور عبد الحفيظ بورديم أستاذ اللغة والأدب العربي بجامعة تلمسان محاضرة مركزة بعنوان: " التذوق البياني في الظاهرة القرآنية عند مالك بن نبي."

وتحدث الدكتور عبد القادر بخوش أستاذ الفلسفة والعقيدة بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية (قسنطينة) عن أهم معالم التجديد الحضاري في فكر مالك بن نبي. وقام الدكتور عبد القادر بوعرفة أستاذ الفلسفة في جامعة وهران بتفكيك بنيته الفكرية ثم دعا إلى ضرورة وضع المعالم البنابية الجديدة.

وأكد الدكتور يوسف حنطبلي أستاذ علم الاجتماع بجامعة البليدة أن مشكلة الثقافة عند مالك بن نبي تكمن في أزمتها. وقدم الدكتور رشيد ميموني أستاذ علم اجتماع بجامعة الجزائر 2 محاضرة نبّه فيها إلى ضرورة الانطلاق من الإطار المعرفي لإعادة بعث المشروع الحضاري لمالك بن نبي.

مشاركات من الخارج:

أما ما يخص مشاركات الباحثين الأجانب، فكانت أغلبها دقيقة عالجت موضوع الثقافة والحضارة في فكر مالك بن نبي. حضرت من دولة قطر الباحثة الجزائرية الدكتورة أسماء بن قادة فقدمت محاضرة بعنوان: "تاريخ المستقبل عند مالك بن نبي" على ضوء الدراسات الغربية المعاصرة.

وحاول الدكتور سيف الدين عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة أن يحلل بعض المفاهيم في البناء الحضاري عند مالك بن نبي إلا أنه لم يتطرق إلا لمفهوم شبكة العلاقات الاجتماعية.

وشارك 4 باحثين من المملكة العربية السعودية. تحدث الدكتور عبد الله بن حمد العويسي أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الرياض عن مفهوم الدين ووظائفه عند مالك بن نبي، بينما حلل الدكتور زكي الميلاد رئيس تحرير مجلة الكلمة مشكلة الثقافة عند مالك بن نبي من خلال التركيز على النقاط التالية: النظرية، المنهج، التطور.

وتحدث الدكتور مازن مطبقاني مؤسس مركز الدراسات الاستشراقية بالمدينة المنورة عن ظاهرة الاستشراق عند مالك بن نبي. أما الدكتورة نورة خالد السعد الحاصلة على الدكتوراه في الفكر الاجتماعي عند مالك بن نبي من الجامعة الأمريكية وأستاذة علم الاجتماع بجامعة جدة حاليا فقد تناولت منهجية التغيير عند مالك بن نبي.

كما شارك 4 باحثين من المغرب الأقصى. تحدث الدكتور أبو زيد المقري عن الأفكار السياسية عند مالك بن نبي. وتطرق الدكتور أحمد كافي للدين وأثره في فكر مالك بن نبي. وتكلمت الدكتورة نزيهة معاريج عن فلسفة التغيير عند بن نبي فتوقفت كثيرا عند الأسس والمقومات. بينما تناولت محاضرة الدكتور عبد الحميد يويو أستاذ بجامعة الناظور حاجة الإنسان إلى الإسلام في فكر مالك بن نبي.

وحضر 4 باحثون من فرنسا، وهم: الأستاذ نجيب عاشوري الذي تحدث عن علاقة مالك بن نبي بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، جيرار سيمون آلان تكلم عن نقد المقاربة المدحية عند مالك بن نبي، والدكتور محمد بغداد باي تطرق لمكانة التربية في مشروع مالك بن نبي الحضاري، وتكلم الدكتور إدريس أمهدي بحماسة عن مبدأ اللاعنف عند مالك بن نبي.

وشارك من الولايات المتحدة الأمريكية الباحث الفلسطيني الدكتور سيف دعنا الذي قدم عرضا عميقا ودقيقا عن "مالك بن نبي وإعادة اكتشاف ثورية الإسلام".

وساهم في تسيير جلسات المؤتمر نخبة من العلماء والمفكرين نذكر منهم على وجه الخصوص: الدكتور عبد الرزاق قسوم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الأستاذ محمد الهادي الحسني رئيس تحرير مجلة الوعي، الدكتور عبد العزيز فيلالي رئيس مؤسسة عبد الحميد بن باديس، والدكتور سالم عبد الجليل مدير جامعة الزيتونة.

توصيـات إجرائيـة:

أصدر المشاركون في نهاية الملتقى مجموعة من التوصيات من أهمها:

-مواصلة البحث في فكر مالك بن نبي

-الدعوة إلى اعتماد مؤسسة مالك بن نبي

-إنشاء فريق بحث أو مركز بحث مختص في دراسة فكر مالك بن نبي

- التكفل بطبع أعمال الملتقى ونشرها