كيف انهارت المجالس العسكرية 1

كيف انهارت المجالس العسكرية؟

(في تركيا 1-3)

محمد عبد الناصر

القادة العسكريون كسائر البشر بينهم تفاوت كبير في القدرات والخبرات والمواهب، هذه المواهب لا تظهر فقط في ميدان القتال والعراك، ولكنها تظهر بوضوح أيضًا عندما يصلون إلى سدة الحكم في بلد من البلدان، وقد رأينا مثلا كيف أن ضابطًا مثل جمال عبدالناصر عندنا في مصر استطاع أن يعبر بالنظام العسكري فوق الهزيمة الثقيلة التي حطمت هزائم مماثلة لها أنظمة عاتية في دول أخرى.. فقط من خلال الموهبة! ورأينا كيف أن الجنرال فيديلا في الأرجنتين كان أذكى من الجنرال بابادوبولس اليوناني ولم ينتظر حتى يباغته انقلاب عسكري يعجل من محاكمته ويهدم المعبد فوق رأسه، وهناك كذلك مدارس من الحكام العسكريين قد تكون أذكى بشكل عام من مدارس أخرى، ومن هؤلاء نتحدث عن المدرسة التركية.

وفي حين نجد أن بعض الجنرالات لا يفطنون وهم في السلطة إلى أن ممارسة ما سميناه سابقا بالعسكرتاريا النشطة يعجل من سقوط مجالسهم العسكرية، نجد الجنرالات الأتراك من أكثرهم فطنةً ووعيًا بهذا الأمر، فهم يسعون على الدوام إلى إبقاء التجربة العسكرتارية خاملةً لكي تعيش أطول فترة ممكنة، ويُبدِّلون أحيانًا من صياغاتهم لكي يذهبوا بالعسكرتاريا التركية إلى النشاط تارةً، ثم يعودوا بها إلى الخمول تارات، ثم يراقبون المؤسسات الديمقراطية السطحية عن بُعد.. يتدخلون بدرجة ما من حيث يمكنهم، وينقلبون صراحةً حيث لا يمكنهم ذلك..!

لهذه الأسباب يمكننا أن نرى باطمئنان أن العسكرتاريا التركية هي إحدى أسوأ الكوابيس السياسية التي يمكن أن يواجهها المناضلون السياسيون من أجل الديمقراطية، فلا هي تتخذ شكلا ثابتًا يمكن حشد الناس ضده واستقطابهم نحو إسقاطه، ولا هي تُخلِص نفسها للعسكرية المهنية المحترفة، ولكنها تضع قدمًا في السياسة وأخرى خارجها، وتضع قدميها أحيانًا معا، ثم تبدو وكأنها نزعتهما معا على الرغم من أنها مازلت تحتفظ بمكان لأقدامها في بلاط السلطة، وبالرغم من ذلك هي قادرة بشكل عجيب على الاحتفاظ بقدراتها القتالية المهنية في المستوى الراقي، والجيش التركي بشكل عام هو واحد من أقوى عشرة جيوش في العالم ولديه اكتفاء ذاتي من السلاح اليوم، ربما لهذا نفهم لماذا لم تتحول العسكرتاريا التركية إلى النوع النشط وتأخذ طريقها إلى السقوط، فإهانة جيش بمثل هذا الثقل ليست عملا سهلا، وكذلك تركه يعبث بالسياسة كما يشاء ويدبر انقلابا كل عشر سنوات ليس عملا حكيمًا بالمرة.

عندما ننتبع تاريخ العسكرتاريا التركية التي قلنا إنها تميل إلى النوع الخامل فإننا نجد تجربة حكم عسكري طويلة ومليئة بالدراما، بدأت في مطلع الستينات مع إعدام أول رئيس حكومة منتخب للبلاد والانقلاب على الديمقراطية بطريقة فجة، وهو الرئيس عدنان مندريس الذي قتله العسكريون في عمل شديد الخشونة والصلف ويكاد يوحي بأن الجيش لم يعد يحتمل المزيد من الديمقراطية -وهي في مهدها- وسيدوم حكمه أمدًا طويلا، ولكنه سرعان ما يعود إلى الظل مرةً أخرى، ليتدخل تدخلات مريبة بعد ذلك لا يمكن تفسيرها إلا في إطار وجود علاقة ما بين قادة الجيش وبين أطراف أخرى من الخارج (أمريكا وإسرائيل خصوصًا).

خلال القرن الماضي تدخل المجلس العسكري التركي المعروف باسم "مجلس الأمن القومي" أربع تدخلات سافرة في الشأن السياسي التركي، وصفت جميعا بأنها كانت انقلابات عسكرية، في أعوام 1960 و1971 و1980 و1997، وأهمهم على الإطلاق كما يتراءى لي ما حدث في عام 1980 بقيادة رئيس الأركان الجنرال أحمد كنعان أفرَين، القائد العام للجيش ورئيس المجلس العسكري في تلك الفترة التي صار فيها الحاكم الفعلي للبلاد.

في مقابل كنعان أفرَين لدينا خصم كلاسيكي اسمه نجم الدين أربكان، كانت أفكاره هي المستهدف رقم واحد تقريبا بكل ما فعله العسكر في تركيا منذ مطلع الثمانينات.. لم يتحمل أربكان أن يكون رئيس وزراء العسكرتاريا الخاملة.. لم يقبل بأن يكون الرجل الأول أو حتى الثاني في حكومة تابعة للعسكر ولأفكارهم السياسية التي يجب عليهم من الأساس أن يخلعوها متى ارتدوا أثوابهم الكاكية، فكانت المواجهة.. وكان الخلع.. والسجن.. بالرغم من أنه كان يشغل منصبه بالانتخاب، ولم يصل إليه بالترقي إلى هذه الرتبة!!