صرخة البوعزيزي

حسام مقلد *

[email protected]

من كان يظن أن محمد البوعزيزي ذلك الشاب التونسي الفقير المهمش سيغير وجه التاريخ؟! من كان يتصور أنه سيقلب عالمنا العربي رأسا على عقب بهذه السرعة؟!

بدأت القصة حين لم يجد ذلك الشاب الجامعي المسكين عملا يتكسب منه رزقه سوى بيع الخضار على عربة في الشارع، لكن السلطة لم ترحم ضعفه وفاقَتَه وقلة حيلته، وطلبت منه شرطية إزاحة عربته من الطريق، فرفض لأنه لا يجد غيرها وسيلة لكسب قوت يومه، فصفعته المرأة مستغلة سلطتها وأزاحت عربته بكل عنجهية، عندئذ أضرم النار في جسده احتجاجا على واقعه البائس وعلى إهانة امرأة له بهذا الشكل المذري، لكنه ـ رحمه الله ـ لم يحرق نفسه فقط بل أشعل معه نيران التغيير في كل ديار العرب!!

بالقطع لم يكن البوعزيزي وهو يحرق جسده يفكر في إزاحة زين العابدين بن علي من الحكم وإسقاط نظامه في تونس، وإجلاس المنصف المرزوقي وحزب النهضة الإسلامي مكانه، ولم يدُرْ بخلده آنذاك أن مبارك والقذافي سيلحقان بابن علي سريعا، ولم تكن أولوياته الحديث عن الحرية والديمقراطية وتداول السلطة، وربما كان أقصى ما يتمناه أن يقابل أي مسئول في ولاية سيدي بوزيد ليشرح له مشكلته عله يساعده في إيجاد عمل يناسب تخصصه الجامعي، لكن صفعة المرأة له أشعرته بالخزي والمهانة والقهر، فلم يجد وسيلة لإعلان غضبه وحسرته واحتجاجه سوى إحراق نفسه، لكن النيران امتدت في هشيم طغاة العرب وحكامهم المستبدين، فسقطت أنظمة حديدية، واهتزت عروش، ورحلت أسماء ووجوه كثيرة كنا نظن أنها قدرنا المحتوم!!

تُرى ماذا كان سيحدث لو لم يصرخ البوعزيزي؟! ماذا كان سيحدث لو تعامل مع صفعة المرأة له بشكل تقليدي؟! إنها لم تصفعه كامرأة بل صفعه غرور السلطة، وكان يمكنه ابتلاع الإهانة وقبول الأمر الواقع؟! كما كان بإمكانه من البداية رشوة الشرطية أو مسئولي البلدية لتركه يبيع الخضار بعربته في الشارع، لكنه رفض فعل ذلك ولم يخف، وكان إيجابيا، وطالب بحقه في الحياة الكريمة والعيش الشريف، وعندما صُفِع وأهين لم يكن سلبيا فأعلن بطريقة مدوية احتجاجه على القهر والغبن والإذلال!

إن محمد البوعزيزي يشكل رمزا صارخا لغياب الحرية والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان في عالمنا العربي، وقد استطاع رغم فقره ورقة حاله إيصال الرسالة التي فشلت نخبنا العربية في إيصالها طوال عقود وهي: أن غياب الحرية والعدالة والمساواة يعني باختصار سلب الإنسان العربي كرامته، لقد أزاح البوعزيزي ـ رحمه الله ـ بصيحته المدوية الستار عن بشاعة وفظاعة ما تتعرض له الشعوب العربية من الظلم والقمع والطغيان، ولعل الدماء السورية وقتل بشار الأسد الوحشي يوميا للعشرات من أبناء شعبه أسطع برهان على ذلك!!

رحم الله البوعزيزي فقد أضرم النار في جسده تعبيرا عن مشاعر الحسرة بسبب القهر والإذلال، لكن كتلة اللهب تحولت إلى بقعة ضوء أنارت درب ملايين العرب، وألهبت حماستهم فخرجوا من أنفاق الظلم والطغيان، وحطموا أغلالهم، وكسروا قيودهم، وانطلقوا نحو نور الحرية، نعم لقد أحرق البوعزيزي جسده لكن روحه ألهبت حماسة الجماهير، وأيقظت إحساس الإنسان العربي بذاته وكرامته؛ فثار على القهر والذل والهوان والفقر، وخرجت الملايين إلى الشوارع تنشد الحرية والخلاص والانعتاق من ظلام هذا القمع والاستبداد.

وفي أول مواجهة حقيقية اكتشفت جماهيرنا العربية الثائرة أن هؤلاء الحكام الطغاة المتجبرين مجرد نمور من ورق أو تماثيل من شمع، ورغم آلاف الشهداء والجرحى إلا أن جدار الخوف قد تحطم وسقطت الأسطورة، ولن تَرْهَبَ أو تخشى الجماهيرُ الحاشدة هؤلاء الحكام الظالمين الفاسدين بعد الآن، فقط سيفجرون فيهم براكين الغضب وسيواجهونهم بكل قوة وحسم وصلابة، وسيجابهون كل ما يجدونه من حيف وظلم واستبداد، وستظل فرائص جميع الأنظمة العربيّة ترتعد خوفا من غضبة شعوبها وثورتها التي لن تهدأ إلا بإسقاط النظام!

 لقد هبت رياح التغيير العربي من سيدي بوزيد، ومن أعماق الذل والتهميش خرجت الوجوه الغاضبة لتباغت الطغاة المستبدين منهية عهودا كئيبة من سرقة الإنسان العربي وإهدار كرامته، وكان يجب أن يحدث ذلك منذ أمد بعيد فلم يكن طبيعيا أن تبقى شعوبنا العربية طوال هذه العقود خائفة خانعة متقلبة في الذل الهوان، مستعذبة مرارة الفقر والحرمان!

ستظل روح البوعزيزي حية بيننا، وستبقى صرخته مدوية فينا، ولن تتمكن الأنظمة العربية الفاسدة المستبدة من خداع شعوبها ثانية، لن تفلح في منع الجماهير من الثورة والمطالبة بحريتهم وكرامتهم، فلم يعد بوسع الطغاة استعبادنا بعد الآن!!

                

* كاتب إسلامي مصري