توكل ونوبل للسلام

معان وتحولات بفضل الربيع العربي

محمد خليفة

عموما أنا لا أثق بالجوائز العالمية بناء على فهمي وخبرتي , وينطبق ذلك على جائزة نوبل للسلام أو للأدب , أو شقيقاتهما , هذه الجائزة التي رفضها سابقا عدد من كبار الاعلام اللامعين والمحترمين الذين قدمت لهم . ولا أعني بذلك أنه كان يجب على الناشطة والمناضلة اليمنية توكل كرمان رفض نوبل للسلام التي حصلت عليها وتسلمتها اليوم . ولكني أرمي لوضع الامر في منزلته الموضوعية , بلا تهويل ولا تهوين . وأبدأ بتقديم التهنئة الحارة للمناضلة العربية الشابة التي تستحق نوبل وما هو أكثر منها عن جدارة . ولكن ذلك لن يمنعنا أن نقول أن نوبل ليست محايدة تذهب إلى من يستحقها بطريقة مجردة وأمينة , بل هي أداة سياسية وديبلوماسية وإديولوجية بيد النرويج ومن خلفها الدول الغربية تستعمل لتسييد ثقافة وقيم ومواقف ما وتهميش أخرى , مما يعني أنها تقوم بدورها في إطار النظام الدولي , مثلها مثل حلف الناتو أو مجلس الامن أو صندوق النقد الدولي ..إلخ .

في هذا الاطار العام , ورغم عدم الثقة بمعايير نوبل غير المحايدة ولا النزيهة , نقول إن حصول توكل التي سنلتقيها بعد أيام قليلة في ستوكهولم هو مكسب لنا نحن العرب بعامة , ونحن أنصار وشركاء الربيع العربي بخاصة . وينطوي على معان مهمة :

أولا - فهي المرة الاولى التي تفوز بها شخصية عربية تحظى بالتقدير والاحترام , وعليها إجماع , ولا يشوبها شائبة , لا شحصها , ولا المناسبة أو الاسباب التي منحت الجائزة بسببها . في السابق أعطيت الجائزة للرئيس عرفات مثالثة مع المجرمين الكبيرين شمعون بيريز واسحاق رابين , لأدوارهم في اتفاق أوسلو الشهير الذي لم يطبق , وكان الانقسام العربي حوله وحول الجائزة ومناسبتها مثار خلافات حادة عربيا . كما أعطيت قبل ذلك للرئيس انور السادات مناصفة مع مناحيم بيغين بعد اتفاقية كامب ديفيد , ومن يومها تلطخت بأيدي قتلة وإرهابيين صهاينة .

ثانيا - وهي المرة الأولى التي تفوز بها شابة صغيرة السن , بالمقارنة مع جميع من حصلوا عليها سابقا عربا , أو غير عرب . وهي سابقة فريدة لم يكن واردا حدوثها لولا أهمية الإنجاز الذي حققه الشباب العربي في الربيع المستمر , وهي بهذا تعتبر تحية من نوبل ومجتمعات نوبل الأوروبية الديمقراطية للشباب العربي المنتفض في كل البلدان , من تونس ومصر وليبيا إلى سوريا واليمن , والبقية , واعترافا منها بالثورات وأهميتها , وهي أيضا تحريض وتشجيع على الاستمرار بالثورات من المرجعية الغربية الاولى أو السلطة القيمية الأعلى المخولة تحديد القيم العالمية المتحضرة والراقية والعصرية التي يعترف بها , بحسب معايير الرؤية الغربية الحضارية . هي تحية لم يكن ممكنا تفاديها , لأن الثورات العربية فرضت نفسها بقوة على العالم كله , بمشروعيتها وأخلاقيتها وثوريتها وسلميتها .

ثالثا - وهي المرة الاولى التي تنالها إمرأة مسلمة محجبة , ويشكل الاسلام الملمح الرئيس في شخصيتها وهويتها . في السابق قدمت نفس الجائزة لسيدة مسلمة إيرانية , السيدة شيرين عبادي , لكن هذه لم تكن محجبة ولم يكن الاسلام هويتها الرئيسة . والحق أن هذه النقطة هي الأهم بين جميع حيثيات الحدث , ولا شك أن مشهد توكل كرمان بحجابها الشرعي الكامل , وبخطابها الاسلامي المحتوى في القاعة الملكية النرويجية , وبحضور النخبة الأوربية الرفيعة الحاضرة كان مشهدا مثيرا للغاية , وهو يكتظ بإيحاءات عميقة ودلالات عظيمة . ففتح الباب أمام توكل لتقف في هذا المكان والمناسبة إنما هو نوع من المصالحة بين قيم الغرب الديمقراطية والاسلام , واعتراف بالاسلام كدين لا يتعارض مع الديمقراطية , وهو صفعة من مرجعية نوبل الاخلاقية والقيمية بما لها من وزن وثقل عالميين على وجوه الساسة الغربيين المتطرفين المعادين للاسلام وصفعة للتشريعات والسياسات المعادية للاسلام والمسلمين التي صدرت في فرنسا وهولندا والدانمارك وبلجيكا وسويسرا ضد الحجاب أو ضد المأذن , وضد الرسول صلى الله عليه وسلم في السنوات الاخيرة , بل هو رد متحضر على العملية الارهابية التي اقترفها مواطن نرويجي في الصيف الماضي وتعرض بها للمهاجرين , وحاصة المسلمين . إنها اعتذار من ناحية , وتشريع للثقافة الاسلامية من ناحية أخرى . ولا أدري كيف سيكون بإمكان الفرنسيين أو غيرهم منع تلميذة مسلمة محجبة من دخول مدرستها بعد ان دخل الحجاب قاعة نوبل الملكية في اوسلو ..؟؟!

لا ريب عندي أن هذه الحسابات كلها كانت حاضرة في وعي لجنة نوبل عندما اتخذت قرارها بإعطاء ثلث نوبل للسلام للشابة اليمنية المناضلة توكل كرمان , فهي لجنة في عملها تشبه صانعي المجوهرات الثمينة , تحسب العناصر بالغرام الواحد . وهي غالبا ما تكون موفقة , ولكننا نعتقد رغم ذلك أن توكل ومن خلفها الشباب العربي رواد الحراك الثوري الرائع كانت تستحق حصة أكبر من ثلث الجائزة , كانت تستحق الجائزة كاملة , تقديرا لهذا الربيع العالمي الذي أحدثه الشباب العربي لا في أرض العرب على اتساعها فقط , بل على امتداد الكوكب الارضي كله , وها هو أريجه ينتشر من وول ستريت إلى موسكو مرورا بمدريد ولندن .

ربما لا يحس ولا يتصور العرب في بلدانهم مدى تاثير الربيع العربي على صورة العرب في الغرب , نحن الذين نعيش في الغرب فقط نستطيع تلمس هذا التأثير السريع العميق . لقد أسقط الحراك مع عروش الطواغيت صورة العربي المتخلف , الخانع , الإرهابي في الغرب , ذلك الانسان الذي كان الاستشراق ينتج مئات الكتب والنظريات عن عدم قابليته للديمقراطية والحداثة , وتوافقه مع الفساد والاستبداد الذي يرونه بضاعة شرقية تقليدية حميمة , ومع سقوط هذه الصورة السيئة صار ممكنا وسهلا ومقبولا أن تنال توكل دون سواها من ثوريات وبطلات الثورة العربية جائزة نوبل , وان تخترق كل الحواجز الثقافية والفكرية والنفسية والدينية التي كانت تحول دون دخول مسلمة محجبة القاعة الملكية في أوسلو وتلقي كلمتها وسط تصفيق النخبة الرفيعة وهي كلمة دات محتوى اسلامي واضح ... سبحان الله مغير الأحوال !!!