الأسماء المستعارة في شعر المحنة

أحمد الجدع

على مدى ربع قرن أحيطت الدعوة الإسلامية المعاصرة من جميع جوانبها بسياج من الحقد والعداء ، وأسدل على كل نشاطاتها ستار كثيف من البغضاء ، مما حدا بالدعاة إلى بذل محاولات متعددة ومستمرة للخروج من هذا الظلام الدامس الذي أحيطوا به ليتصلوا بالناس ولينقلوا إليهم حقيقة الموقف ، ولينبهوهم إلى هول ما هم فيه من خطر مدلهم ومصير أليم ، يقودهم إليه ساسة أدعياء وكتاب أجراء .

ومن المحاولات التي سجلت في هذه الفترة الحالكة ، وكانت بارزة بروزاً ظاهراً ، لجوء شعراء الدعوة إلى الأسماء المستعارة يستخفون وراءها لتأدية رسالتهم وإيصال أفكارهم دون أن تنالهم يد العدو المتربص بهم في كل مكان .

فرأينا كثيراً من القصائد تحمل أسماء وألقاباً تدل في مضمونها على اتجاه الشاعر ولونه الأدبي من أمثال شاعر مسلم ، فتى الدعوة ، ذو النون ، من رابطة الوعي الإسلامي ، شاعرة مسلمة ... كما رأينا توقيعات تشير إلى انتماء أصحابها إلى بلدان تضطهد الدعاة وتترصدهم من أمثال : ابن الكنانة ، شاعر مصري ، فتى النيل .. وكانت هناك توقيعات لها مدلولات خاصة لدى أصحابها مثل : محمد بهار الذي كتب ديواناً كاملاً بعنوان -في غيابة الجب- بهذا التوقيع المستعار ، بالإضافة إلى قصائد ومقطوعات رائعة أهمل فيها الإشارة إلى قائلها ألبتة .

وقد استطعنا في بحثنا الدائب عن أصحاب هذه التوقيعات المستعارة أن نهتدي إلى عدد صالح منهم ، وكان مما سرنا أننا استطعنا أيضاً أن نهتدي إلى أسماء بعض الشعراء الذين نشروا شعراً دون توقيع ، وإن كنا نبدي أسفنا البالغ لأننا لم نهتد بعد إلى أسماء شعراء اطلعنا على روائع من أشعارهم في المجلات والصحف الإسلامية .

ومن بين القصائد الرائعة التي استطعنا أن نزيل الستار عن اسم قائلها الحقيقي الملحمة الأخوانية الكبرى التي قيلت بين جدران السجون الناصرية وصورت ببراعة ودقة المآسي التي كان يصطلي بنارها الدعاة في ظلام السجون ، وهي الملحمة النونية التي وقعها مؤلفها بتوقيع -ذو النون- ومطلعها :

ثار القريض بخاطري فدعوني

 

 

أفضي لكم بفجائعي وشجوني

 

وهي من تأليف فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي العالم الداعية ، وقليل ممن قرأ له في مؤلفاته في الدعوة والفقه يعلمون أنه شاعر مجيد له قصائد وأناشيد تعتبر من عيون الشعر الإسلامي المعاصر في مجال الدعوة الإسلامية والشعر الإنساني .

ولعل من المناسب أن نختار من هذه الملحمة التي أربت على ثلاثمائة بيت بعضاً من أبياتها المعبرة ، فالشاعر شاهد عيان للمأساة ، اكتوى ببعض نيرانها ، فهو خير من يخبرنا عن أساليب التعذيب التي تفنن في تأليفها وإخراجها عباقرة التعذيب الناصري ، ففي مقارنة ساخرة بين التقدم في التصنيع والتعذيب يقول :

قل للعواذل إن رميتم مصرنا
مصر الحديثة قد علت وتقدمت
وتفننت كي لا يمل معذب
أسمعت بالإنسان ينفخ بطنه
أسمعت بالإنسان يضغط رأسه
إن كنت لم تسمع فسل عما جرى

 

 

بتخلف التصنيع والتعدين
في صنعة التعذيب والتقرين
في العرض والإخراج والتلوين
حتى يرى في هيئة البالون
بالطوق حتى ينتهي لجنون
مثلي ... ولا ينبيك مثل سجين

 

ويخاطب قائد السجن الذي يبدي شجاعة نادرة في مواجهة المعتقلين المكبلين ، داعياً إياه لأن يبدي هذه الشجاعة أمام العدو الصهيوني المتربص بالبلاد ، الطامع في خيراتها ... ولكن هيهات لأمثال هذا القائد أن يكون كبشاً أمام العدو الحقيقي .

يا فارس الوادي وقائد سجنه
هلا ذهبت إلى الحدود حميتها
اذهب لغزة يا همام وأنسنا
أفعندنا كبش النطاح .. ونعجة

 

 

أبنو الكنانة أم بنو صهيون ؟
وأريتنا أفكار نابليون ؟
بجهادك الدامي صلاح الدين
في الحرب جماء بغير قرون ؟

 

ثم يتوجه بالخطاب للرئيس الكبير الذي غدر بكل من أحسن إليه ، وجعل من مصر كلها سجناً رهيباً ، فيؤكد له أن أيامه معدودة ، وأن حكمه إلى زوال ، وشواهد التاريخ ماثلة في الظالمين قبله ، ذهبوا وذهب ظلمهم وظلامهم وبقيت الدعوة شامخة خالدة .

قل للذي جعل الكنانة كلها سجناً
يا أيها المغرور في سلطانه
يا من أسأت لكل من قد أحسنوا
يا ذئب غدر نصبوه راعياً
سيزول حكمك يا ظلوم كما انقضت

 

 

وبات الشعب شر سجين
أمن النضار خلقت أم من طين
لك دائنين ، فكنت شر مدين
والذئب لم يك ساعة بأمين
دول أولات عساكر وحصون

 

ومن أجمل أبيات هذه القصيدة قول الشيخ :

ضع في يديّ القيد ، ألهب أضلعي
لن تستطيع حصار فكري ساعة
فالنور في قلبي ، وقلبي في يديْ
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي


 

 

بالسوط ، ضع عنقي على السكين
أو نزع إيماني ونور يقيني
ربي ، وربي ناصري ومعيني
وأموت مبتسماً ليحيا ديني

 

ومن بين القصائد التي اشتهرت في فترة المد الاشتراكي الشيوعي في مصر القصيدة الساخرة التي نشرتها عدة صحف أذكر منها المسلمون والميثاق الإسلامي ، وهي بتوقيع -شاعر مصري- وعنوانها : كم ابتدعوا لنا بدعاً ومطلعها :

أداروها شيوعية

 

 

وسموها اشتراكية

 

وقد عرفنا قائلها وهو الشاعر محمد مصطفى حمام الذي توفاه الله في الكويت مؤخراً ومنها:

كم ابتدعوا لنا بدعاً
وكم وعدوا بني مصر
وعندي أنهم صدقوا
فكل الناس قد صاروا

 

 

من الأسماء سحرية
مساواة حقيقية
وصحت منهم النية
سواء في العبودية

 

ومنها :

عهدنا مصر بالإسلا
متى تنجاب غمتها
وأين لها عصا موسى

 

 

م هادية ومهدية
ويترك شيخها غيه
لتلقف هذه الحية

 

ومن بين المقطوعات التي كان الناس يتناقلونها دون أن يعرفوا قائلها مقطوعات للشاعر الشهيد هاشم الرفاعي الذي زوروا حياته في دراسة ظالمة متجنية أصدرتها في سلسلة اقرأ دار المعارف بمصر ، وزوروا شعره في الديوان الذي أصدرته وزارة التربية في مصر الناصرية مدعية أنها تكرمه و تنصفه وهي تعلم أنها تظلمه وتبخسه ..

ومن هذه المقطوعات مقطوعة بعنوان -مجلس الأمة- ، وهي تتحدث عن مهزلة مجالس الأمة في العهد الناصري بحيث كانت الانتخابات تزور علناً لتخرج للحكومة مجموعات من المهرجين بدلاً من المخلصين ..

ها هم كما تهوى فحركهم دمى
إنا لنعلم أنهم قد جُمعوا
من قبل كان الظلم فوضى مهملاً

 

 

لا يفتحون بغير ما تهوى فما
ليصفقوا إن شئت أن تتكلما
واليوم صار على يديك منظما

 

ومقطوعة أخرى بعنوان "محكمة الشعب" ، وكم عانى الشعب من محاكم الشعب ، أليست مهزلة كبرى ومأساة مبكية مضحكة أن المحاكم التي أذلت الشعب تسمى بمحاكم الشعب ؟

ما بين محكمة تقام وأختها
الشعب يلعنها وتقرن باسمه
فيها القضاة هم الخصوم وإنها

 

 

مني الضمير بغفوة النعسان
أرأيت كيف تبجح البهتان
لعدالة مختلة الميزان

 

ومن بين الروائع التي لم نستطع أن نهتدي لقائلها قصيدة نشرتها مجلة "المسلمون" في عددها الأول عام 1386هـ موقعة باسم "ابن الكنانة" ، وقد أشارت المجلة إلى أن قائلها طالب يدرس الدكتوراه في الفلسفة في ألمانيا الغربية ، ولم نعرف عنه أكثر من ذلك ، وقد تناول الشاعر بأسلوب جميل وبانفعال صادق قضايا حيوية عديدة تهم الدعوة والدعاة ، وقد لخص القضية بين الدعاة وأعدائهم ، وأشار إلى الهدف الأكبر من وراء الحملة على الدعاة فقال :

يود لو يصنع من آلامنا دُماه
يود لو يحصي علينا همسة الشفاه
يود لو ينزع من صدورنا " الله " !

 

 

وفي سبيل هذه الغاية حاول الأعداء أن يطلعوا على الناس بكتاب يصرفهم عن كتاب الله العزيز ، فابتدعوا ما دعي يومئذ "بالميثاق" ، فكان سخرية الناس ومجال تندرهم ، ولم يفت الشاعر أن يشير إلى أن كل هذه الحركات من إيحاءات أعداء الإسلام التقليديين المتسترين وراء الأعداء المحليين :

"ميثاقكم" يسخر منه كل من قراه
يا صبية في الفكر لا يدرون ما عناه
والماكرون يعلمون ما الذي وراه
لذا تراهم يلعبون لعبة الحواه
ويتقنون فنهم ، إن لهم هداه
ويوغلون كيدهم ، هداتهم عتاه!

 

ويتابع الحواة طريقهم في صرف الناس عن دينهم ، فيصوبون نحو المرأة ، فيغرونها بكل المغريات للخروج عن هدي الإسلام ، فيفلحون مع بعض ، ويفشلون مع بعض ، فتقف المؤمنات القانتات العابدات في وجه إغراءاتهم كالطود الأشم ، فيدعو الشاعر الأخوات المؤمنات إلى الصبر ، ويستبشر بأن الناس قد تنبهوا للعبة وبدؤوا يعافونها:

وأنت يا أخت اصبري واحتسبي لله
قد مل شعبي معطف الفراء والمرآة
فأره المرأة إنساناً له مرماه

 

ويشير الشاعر مفتخراً بأن الدعاة صمدوا ، فلم يضرهم ما أصابهم من عذاب ماداموا على الحق ، ومادام ما أصابهم ويصيبهم في سبيل الله :

 

ماذا على الوجه الكريم إن يكن أدماه
ماذا على الحر إذا ما قيدت رجلاه
ما أكرم العذاب مادام لذات الله

 

والشاعر ذو أمل عريض بأن تتمخض هذه المأساة عن بعث إسلامي كبير :

وفجرنا أطل ، إني مبصر سناه
فهذه خولته ، وتلكم خنساه
ألمح عماراً هنا وأمه .. أباه
يا صحوة للنسر لم تحلم بها ذراه
لن يبعث الإسلام إلا هذه المأساة !

 

ولعل القارئ الكريم يشاطرني الأسف لعدم معرفة قائل هذه القصيدة التي اخترنا أجزاء متفرقة منها ، ويشاطرني أسفاً آخر لعدم معرفة قائل هذه الأبيات الخالدة التالية المنشورة في جريدة الشهاب السورية العدد ((30)) لعام 1375هـ :

يا شهيداً رفع الله به
سوف تبقى في الحنايا علماً
ما نسينا ، أنت قد علمتنا

 

 

جبهة الحق على طول المدى
هادياً للركب رمزاً للفدا
بسمة المؤمن في وجه الردى

 

وأسفنا في عدم معرفة القائل نابع من يقيننا بأن معرفته تزيد النص قيمة وتعطيه معنى وتضفي عليه من ظلال الحقيقة ما يجعله أكثر فهماً وأدق تحديداً ، وأكثر قرباً من القلب ...

والأمنية التي أود تسجيلها في ختام هذا العرض ، وهي في الوقت نفسه دعوة حارة إلى هؤلاء الشعراء المجهولين ، أن يبادروا إلى جمع شعرهم ونشره وأن يصرحوا بأسمائهم فإن في ذلك نفعاً للدعوة ودفعاً للأدب الإسلامي إلى مدارج الرقي ، وسعادة لمحبي الأدب الإسلامي الرفيع .

------------------------------------------

* نُشرت هذه المقالة في مجلة "المجتمع" العدد 420 تاريخ 21 ذو الحجة 1398هـ الموافق 21 نوفمبر 1978م .

وبعد ثلاث وثلاثين سنة

أحب أن أنوه هنا أن هذه المقالات التي نشرت قبل ثلاث وثلاثين سنة أصبحت جزءاً من تاريخ الأدب الإسلامي ، ففي توثيقها في كتاب خدمة لهذا الأدب .

وما كان مجهولاً من روائع الشعر الإسلامي المعاصر قبل ثلاث وثلاثين سنة ، لا نعرف منه إلا الأبيات المتفرقة استطعنا بجهدنا ، واستطاع غيرنا بجهده أن يزيح عنه ستور المجهول ، وأن يعرضه على القارئ المعاصر كاملاً ، بل ومشروحاً ومحللاً في كثير من الأحيان .

ومن القصائد التي استطعنا أن نميط عنها اللثام -كما يقولون- قصيدة الدكتور يوسف القرضاوي "الملحمة النونية" أو كما أسميتها "ملحمة الابتلاء" فقد بذل الأستاذ الأديب حسني أدهم جرار جهوداً مضنية في توثيق شعر الدكتور يوسف القرضاوي ، واستطاع أن يجمع من فم الشيخ وَمَنْ رافقه في المعتقل أكثر من مئتين وخمسين بيتاً من هذه الملحمة وأصدرها في ديوان مع مجموعة من قصائد الشيخ .

وقد كانت هذه القصيدة الملحمة من ضمن مختاراتي لأجمل مائة قصيدة في الشعر الإسلامي المعاصر ، عرضت جزءاً منها رأيت أنه يمثل المحنة وقمت بإلقاء أضواء كاشفة على القصيدة بالإضافة إلى تحليل بعض مقاطعها وذلك في الجزء الثاني من كتابي : أجمل مائة قصيدة في الشعر الإسلامي المعاصر .

أما قصيدة الشاعر محمد مصطفى حمام التي نشرت بعنوان "مناقشات سياسية" والتي لا تجدها في ديوانه المنشور بمصر (1394هـ - 1974م) ، ولا في طبعته المنشورة بجدة (1404هـ - 1984م) ، فقد اخترتها أيضاً ضمن أجمل مائة قصيدة ، وهي في الجزء الأول من الكتاب .

ولا بد من الإشارة هنا إلى جناية السياسة على الأدب ، وهي كثيرة ومستمرة ، كانت في العصور القديمة معروفة ، وكانت القصائد المحرمة سياسياً تدعى بالمكَتَّمَات .. و المكتمات في عصرنا هذا أكثر لشيوع الظلم وانتشار الطاغوت ، وقصيدة حمام يمكن اعتبارها من المكتمات المعاصرة !

وقد صدر ديوان حمام عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، وهي مؤسسة حكومية ، وقد سيطر على هذه الهيئة في عهد الناصرية الاتجاهات السياسية التي كانت تعمد إلى قضم القصائد التي لا تتفق مع اتجاهها ومسح القصائد التي تخالفها الرأي ، فالرأي الآخر عند اليساريين غير مسموع بل مكبوت .. ولعل الكبت صفة متواضعة بالنسبة لممارسات اليسار العالمي بوجه عام والعربي بوجه خاص .

أما عن شعر هاشم الرفاعي فقد كان في معظمه من المكتمات لأن الشاعر رحمه الله حمل لواء المعارضة للنظام الظالم ، والمناصرة لدعاة الإسلام المظلومين ، وبيَّن في قصائده الرائعة عوار الظالمين وكشف عن مساوئهم وسخر من ممارساتهم ، وعندما عمد النظام الظالم إلى نشر كتيب عن حياة الشاعر ملأه بالأكاذيب والمغالطات .

ومن ممارساته الظالمة في العهد الناصري اعتماده على أساليب كثيرة في محاربة الإسلاميين منها الاعتقال والتعذيب والإعدام لمشاهير العلماء والأدباء الإسلاميين ، بل إن أقسى ما اقترفته من ممارسات في هذا الباب تزوير حياة عدد من الشعراء الإسلاميين على رأسهم الشهيد هاشم الرفاعي وذلك عندما أصدرت هذا الكتاب عن حياته وشعره .

ولكن الله أفنى الظالمين وقيض للشاعر وشعره رجلاً مخلصاً جعل همه إنصاف هذا الشاعر، فجمع شعره من مصادره الأصلية وحفظه ونشره ، وأصبحت أشعاره الثائرة في متناول القراء ، وحياته الحافلة تحت أعين الباحثين.

تحية للأديب محمد حسن بريغش على عمله الرائع في تحيق ديوان الشاعر وفي بيان سيرته .

زرت مصر المحروسة ، كنانة الله في أرضه ، عدة مرات ، واستمعت إلى عدد من رجالها المخلصين ، واجتمعت إلى عدد من أدبائها المبرزين ، وكلٌّ حدثني عن مدى المعاناة التي كابدوها في العهد الناصري ، وقد حدثني أحدهم حديثاً عجباً ..

قال : كنت في دورة من دورات الاستفتاءات على رئاسة الجمهورية رئيساً لصندوق أحد الأحياء المهمة في القاهرة ، وقررت بيني وبين نفسي أن يكون الانتخاب نزيهاً كل النزاهة ، وأن لا أدع أحداً يتدخل فيه مهما كان الثمن ..

وكان معي في اللجنة اثنان من ضباط الأمن يشرفان على تنظيم الانتخابات ، وأقول الحق : لقد كانا في منتهى اللطف ، ويتحليان بأخلاق حميدة ، لم يحاولا أن يتدخلا أبداً في عملية الانتخاب، وأشرفت عليها بنفسي ، وكانت تتم بسرية تامة ونزاهة كاملة .

ولما انتهى الانتخاب أغلقت الصندوق بنفسي وحرصت على أن أشمعه بيدي ، وحملته إلى سيارة الشرطة المنتظرة أمام باب الاقتراع ، ووضعته بجانبي ويدي عليه حتى لا يعبث به أحد !

والحق أقول : لم يحاول هذان الضابطان أن يتدخلا بشيء من شؤون الانتخاب أو في إقفال الصندوق أو حتى في حمله إلى السيارة ... أبداً أبداً كانا في منتهى اللطافة والنزاهة !

وكنا في سيرنا نحو لجنة الفرز الكبرى نستمع إلى مذياع القاهرة يذيع نتائج اللجان لجنة وراء أخرى ، وكانت كلها لا تحيد عن التسعات الخمس 99.999% ولم يراودني أدنى شك في عدم نزاهة هذه اللجان التي أعطت هذه النتائج ، وكنت أُمني النفس في رؤية وجوه المسؤولين على الفرز عندما يرون نتائج لجنتي .

وبينما كنت سابحاً في هذه الأماني أعلن مذياعنا العتيد نتيجة الصندوق الذي أشرفت عليه ، وكانت نتيجة 100% متجاوزاً التسعات الخمس ...

ونظرت إلى الصندوق الرابض بجانبي ببطاقاته المصونة .. ونظرت إلى الضابطين اللذين لم تتغير منهما أية لمحة من لمحات الوجه أو العينين أو الفم .. ولم ينطقا بكلمة واحدة ، وبقيت علامة اللطافة والنزاهة هي السحنة الغالبة على تصرفاتهما ...

مثل هذه الاستفتاءات كانت محل غضب الشاعر .. وغيرة من الشعراء ، ولكن التعبير عنها بقوة وغضب وبيان لم يتأت لشاعر مثلما تأتى لهاشم الرفاعي !

أما قصيدة "ابن الكنانة" والتي كان عنوانها "فنحن لسنا فئة وإنما اتجاه" والتي قالها شاعر مصري يدرس الفلسفة في جامعات ألمانيا فلم يتسن لي حتى الآن أن أعرف اسم شاعرها ، وهذه خسارة للأدب الإسلامي بعامة والشعر منه بصورة خاصة .. والقصيدة أيضاً نشرتُها ضمن الجزء الأول من كتابي "أجمل مائة قصيدة في الشعر الإسلامي المعاصر" وحلَّلت بعض مقاطعها ، والذي أحب أن أشير إليه هنا أن هذه القصيدة قيلت في أجواء صدور ما سمي "بالميثاق" وهو كتاب أريد له أن يحل محل القرآن -خسئ من حاول هذا وخاب- فقد كنا نرى إذ سرنا في شوارع القاهرة مقتطفات من هذا الميثاق معلقة في كل مكان .. وكنا إذا دخلنا المدارس رأينا مقتطفات منه قد حلَّت مع ما كان معلقاً من آيات القرآن .. وإذا احتجنا إلى زيارة إحدى الوزارات فحدث عن الليل ولا حرج !

وقد كانت النفثات الشعرية لابن الكنانة تدور حول تلك الظلمات التي خيمت على أرض الكنانة في العهد الناصري وأدت إلى الهزيمة الكبرى عام 1967م ..

أما الأبيات الرائعة التي كلما قرأتها تألمت لأني لم أستطع أن أعرف قائلها فإنني أهيب بكل مهتم بالأدب الإسلامي أن يدلني على اسمه إن كان يعرفه ، فأنا بالأشواق لأن أعرفه وأعرف تتمة القصيدة التي منها هذه الأبيات التي ذكرتها في نهاية مقالتي :

يا شهيداً رفع الله به

 

 

جبهة الحق على طول المدى

 

فهي من روائع الشعر الإسلامي المعاصر وإحدى نماذجه المتقدمة .

وقد حقق لي الأستاذ عبد الله الطنطاوي الأديب السوري المعروف ما تمنيت ، فذكر لي أن قائل هذه الأبيات هو الشاعر السوري محمد الخطيب المولود في حلب عام 1931م ، ولم يصدر شعره في ديوان ، والأبيات في شهداء الإخوان المسلمين الذين أعدموا في مصر عام 1954م .